مع احمد الحسني البغدادي

د. علاء الدين آل رشي

المقابلة السادسة والخمسون مع سماحة آية الله العظمى المرجع القائد

احمد الحسني البغدادي

أجراها: د. علاء الدين آل رشي

المدير الإعلامي في مركز الناقد الثقافي

وعضو اتحاد الكتاب العرب في دمشق

س: نجد في أدبياتك الإسلامية أَنك تتبنى النهج الثوري الصارم .. ولا تتبنى النهج الإصلاحي المرحلي.. أهو أقرب لتحقيق أُمنيات وطموحات الأمة التي تتطلع إليها، أم ماذا؟..

ج: النهج الثوري على ما أرى هو أعلى مراحل انتصار مستضعفي العالم، كما في ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 ضد القيصرية والإقطاع .. والثورة الأميركية ضد الاحتلال الانجليزي المباشر في سبيل السيادة والاستقلال.. والثورة الفرنسية ضد العرش الملكي والإقطاع ..والمسيرة الفلاحية المليونية، التي انطلقت شرارتها من قرية ماو تسي تونغ في الصين ضد الهيمنة الإقطاعية .. والثورة الإسلامية في إيران عام 1979 ضد العرش الشاهنشاهي وتبعيته للغرب الامبريالي، والكيان الصهيوني.

يبدو لي إن النهج الإصلاحي التوفيقي الإسلامي والعلماني والقومي له قدرات محدودة على تحريك القواعد الشعبية العريضة في ظل الاحتلال الأميركي بوصفه مؤطراً في النخبة، والنخبة المثقفة قادتها من الأدباء والمؤلفين والمثقفين والفنانين. والقواعد «الشعبية» من النخبة من النقابيين، والمهندسين، والطلاب الجامعيين، وهي قلةُ من حيث الكم، وهم من حيث الكيف ينتمون الى الطبقة المتوسطة، التي لا تعيش معاناة الفقر والعوز والحرمان على الرغم من أنَّ الأحزاب اليسارية والحركات الإسلامية حاولت تكوين قيادات فلاحية وعمالية وتتسابق على استلام السلطة، وكُلُّ منها تُعِّدُ نفسها من «الفرقة الناجية»، والبقية الباقية من «الفرقة الهالكة»، وبالتالي يغيب الحوار الوطني فيما بينها، ويصعب تأليف جبهة وطنية قومية إسلامية مناهضة للاحتلال الامبريالي، نظراً لغياب المنطلقات الأيديولوجية الثورية كأساس نظري، وبنية ثقافية، ورؤية سياسية، عميقة الجانب الاجتماعي فيها لازال مهمشاً، فالأولوية القطعية لنصرة نهج هذه الأطروحة السيِّاسية الثورية لتوفير لقمة العيش، لذلك نمت قوة المحرومين المهمشين، وبدأت في الانفجار الجماهيري بعد أن خذلتهم القوى النخبوية، التي يعتبر كُلّ واحد منها نفسه «الفرقة الناجية»، ولم تستطيع قوى المعارضة نيل حقوقهم.

وفي عقيدتي: إن َّ الثورة الشعبوية ضد الجوع أفضل وأبلغ من أيَّ شعارٍ فارغ ومن أي مضمونٍ، بل من أية نظريةٍ أيديولوجيةٍ مثالية لا توفر لقمة العيش لكُلِّ المحرومين والبؤساء، وكما قال الإمام القائد علي بن أبي طالب: «لو كان الفقر رجلاً لقتلته» وقول أبي ذرٍ الغفاري «عجبتُ لرجل لا يجد قوتَ يومهِ، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه».

إذن ..الصراع القائم من أجل البقاء أكبر دافع للتحرك الرسالي الثوري، وأفضل من الانتماء السيِّاسي والحزبي ، فالفقرُ والبطالةُ وأزمة الإسكان والمواصلات والتعليم والصحة، والتهجير والتشريد والقتل على الهوية، ذلك كله واقعٌ ملموس مشاهد، يدفع الناس إلى الصراخ والبكاء والعويل، والويل والثبور، والنزول إلى الشارع لتغيير الوضع المتأزم المرعب القائم، وإصلاح أحوال الأمة، وتحقيق طموحاتها وأُمنياتها في المساواة والعدالة الاجتماعية، دونما حاجةٍ إلى مكتب سياسي، أو أمانة عامة، أو مجلس مركزي لحركة، أو حزب ، أو تيار ما.

وحركة القواعد الشعبية العفوية ليست على ما أرى في حاجة ملحةٍ إلى أمانة التنظيمات الحزبية والحركية سواء بسواء.

س:ان تفعيل الطائفية بين العراقيين سوف يؤدي في نتيجته المرعبة إلى تقسيم الوطن الجريح.. كيف الخلاص من هذا المخطط الصهيوني – الأميركي في رأيكم؟..

ج: إنَّ الخصومة الدائرة في العراق بين السنة والشيعة تساهم في تفتيت العراق من الداخل، في حين أنه في أشد الحاجة الضرورية الملحة إلى الوحدة المتراصة ضد مخاطر التقسيم من الخارج، والتصدي والصمود أمام المخطط التوراتي لتقسيم الأوطان إلى كونتونات عرقية وأثينية ومذهبية، والعداوة والبغضاء والشقاق بين العشائر والقاعدة الزرقاوية، لا بين المقاومة والاحتلال، على الرغم من مزاعم الوحدة الوطنية ومظاهرها المفتعلة، وقضايا التنصير والتهويد، واختلاط النساء بالرجال المشترك المريب، والفتاوى «الشرعية» الخادعة الماكرة الصادرة عن بعض وعاظ السلاطين، بالنسبة لإرضاء حكومة الاحتلال الفتنوية الرابعة، أو التبرك بزيارة مراقد الأئمة الطاهرين، والأولياء الصالحين، وإحياء المناسبات الدينية الموروثة، ورفع الشعارات والهتافات والخطابات التخديرية الاستهلاكية العجائزية الجنائزية، تستخف بالعقل الإسلامي العراقي، ليقعَ في أزمة تلو أزمة، ويقع هذا العقل في حالة من التسيب والضياع والفرقة، وفي حالة طوفان لا يعرف أحد أين يقذف به المستقبل، ذلك كله وهي: التي لا تهاجم الموالين ل«إسرائيل»، والمتأمركين باسم الإسلاميين الليبراليين، وكأنه لا يوجد تقسيم مقيت على الوطن الأعز، وكأنهم لا يغتالون على الهوية، وكأنه لا يهجرون أبناء الوطن الواحد المتجانس من الداخل إلى دول الجوار الجغرافي، ودول أوروبا، واستراليا، وأميركا، والدول الاسكندينافية، وكأنه لا تفاوت بين البؤساء والمترفين.

قال الرسول القائد محمد(ص):

«جولة الباطل ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة».

وهذه الحكمة ذات مغزى عظيم، فدعاة الحق فاشلون في الزمن القريب، بَيْدَ أنهم منتصرون في نهاية المطاف، فالناس يتساقطون نحو الباطل كما يتساقط الذباب على القمامة، لأنَّهُ مرغوب عن رغبةٍ أو رهبة، بَيْدَ أنه يضطهدهم، وبالتالي يثورون عليه في استئناف الحق، وينادون بتطبيقه من جديد، هذه هي طبيعة الإنسان وسر انتشار المبادئ، والمثل الكبرى بين الناس كلهم مهما يكن الباطل منتفشاً، أنَّ هذه الأرض يرثها عباده الصالحون، لا العصاة وقتلة الأنبياء والأوصياء والناس أجمعين «وتلك الأرض يرثها عبادي الصالحون» وهو الوارد في الزبور:« ولَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ».

س: اليوم تمتلئ أغلب القنوات الفضائية ب «العمائم البيضاء والسوداء» وصولاً إلى درك الأصوات المُدْمِنَّةِ على الهذيان في برامج غرف المحادثة الصوتية وهي موجةٌ من موجات الاستقطاب الذهني، مثل الحديث عن الإسلام الليبرالي..الحوار الإسلامي المسيحي.. حقوق الأقليات.. الإنسان والمرأة، مع ملفات أُخرى مثل: السوق والربح والخصخصة والاستثمار .. والعالم أصبح قرية واحدة، والعولمة عصر الجميع.. كيف السبيل لمواجهة هذه الدعوات؟..

ج: أولاً: الضرورة الإسلامية تحتمُ علينا ألا نخضع بشكل مطلق لهذه التوجهات أو تلك المنطلقات، بل يجبُ أن نهتم بمصالح أبناء الأمة ، الذين يعيشون الدمار والبوار والعدوان الأميركي على العراق وأفغانستان، والاحتلال الصهيوني في فلسطين، والاحتلال الهندي في كشمير، والروسي في الشيشان .. بل يدخلون في معمعة التشهير والتسقيط، وإرهاب العقائد بين هذا المذهب، أو تلك الطائفة، يكفرون بعضهم البعض الآخر من خلال التركيز على حديث «الفرقة الناجية» على غرار مقولة «شعب الله المختار» وشغلهم الشاغل هو طرح الترف العقلي «الميتافيزيقي»، الذي لا يمكن السيطرة عليه مثل: رجعة الأئمة إلى الدنيا التي اختلقت أطروحة الأخبار التوراتية الكاذبة، التي تحكمت في قسط كبير من قضايانا المعرفية، وكأنما الله تعالى لم يُعد للمتقين جنات وعيوناً في الآخرة، وللكافرين والمنافقين نار جهنم في الآخرة .. وطهارة بول النبي محمد، وجواز ريقه للعلاج، وضرب الرؤوس بالسيوف والمقامات الجارحة بمناسبة عاشوراء، ذلك كله في سبيل إرضاء عوام الناس تملقاً لأذواقهم، ودغدغة ً لمشاعرهم، وإثارةً لإشجانهم وأحزانهم، بل ساهم الوعظ التوراتي في تفعيل ثقافة اللاعنف في سبيل إرضاء «إسرائيل» وأمريكا خلافاً لاطلاقات الأدلة القرآنية، والأحاديث النبوية، وعموماتها التي توجب إلى الجهاد المسلح بأشكاله المتنوعة، ويؤكدون على تطبيق آيات السِّلم التي يمكن تأويلها إلى محامل أُخرى، والأوطان العربية والإسلامية مستباحة ، والقدس الشريف لا يزال قبل العدو الصهيوني يحتله، وهو الذي يقتلُ مَنْ يشاء، ويدمرُ ما يُريد، والملايين من أبناء الأمة الذين يموتون جوعاً وعرياً وهلاكاً في كشمير وبنجلاديش وأرتيريا وتشاد والصومال والسودان والعراق وفلسطين.

من هنا.. لا فرق عندي بين العمائم السوداء أو البيضاء، ونجوم الغناء المحرم، وفتيات عرض الأزياء العاريات ، والاعتياش على الدين الموروث بكل اشكالياتهِ وتناقضاتهِ ، والفقه المطلسم السائد في المدارس العتيقة، تخديراً لأبناء الأمة، وإبعادها عن قضاياها المصيرية.

وثانياً: يجب أن نفهم حقيقة هؤلاء وهؤلاء قبل أن يتفيهقوا على رؤوس مستضعفي الأُمة ب «أقاويلهم المثالية» وب«شعاراتهم البراقة» التي لاتسمن ولا تغني من جوع، ومن هنا أدى بإلقاء صور أحد «رباعي المرجعية» على الأرض ودهسها بالإقدام، وهو ما لم تفعله «إسرائيل» مع هتاف الجماهير الصادقة باللهجة العامية العراقية:« قشمرتنه المرجعيه وانتخبنه السرسريه».

س: قرأت موسوعة: «هكذا تكلم أحمد الحسني البغدادي..» أراك لم تستخدم «مصطلح الديمقراطية» إطلاقا في أدبياتك في الوقت الذي قرأت كتابك «فتاوى» بينت الفرق بين الإسلام والديمقراطية، وبين الشورى والديمقراطية؟..

ج: إنَّ تفسير مصطلح الديمقراطية حسب فهمي أصبح مفهوماً ضبابياً في التيه المظلم بلا ملامح، ولا حدود في وطننا الإسلامي حصراً، لذا تجدني لا أستخدم هذا المصطلح، بل على الأمة أن تعرف المقصود منه، فلا يضرني أن يستورد المصطلح من خارج الدائرة الإسلامية، لأنَّ مدار الحكم الشرعي لا يقوم على الأسماء والعناوين، بل على المسميات والمضامين القائمة على المصلحة والظرف الزماني والمكاني، والصيرورة الاجتماعية السياسية، وكثير من المنظرين الإسلاميين يطالبون بالديمقراطية صوناً للحريات على أن تكون حقيقة واقعة تمثل إرادة الأمة، ذلكَ كله في سبيل تحقيق أهدافها وطموحاتها في الحياة الحرة الكريمة، وأن تلاءم بين هويتها وتراثها الأصيل، ولها حق التغيير والتبديل فيها، ولا تتعبد بفلسفتها المطلقة بوصفها هي مصدر القانون، هي مصدر السلطات، هي مصدر الحكم، يمكن لها ان تحلل الحرام، أو تحرم الحلال، أو تسقط الفرائض والمواريث.

س : يبدو من خلال هذا الطرح يجوز عند سماحتك أن تمارس الأحزاب الإسلامية أشكالا من الديمقراطية في إطار المجتمع المدني، وتتنافس مع الجماعات العلمانية على قيادة النقابات العمالية، أو الجمعيات الفلاحية، مثلا عِبْرَ صناديق الاقتراع ، تقيم تحالفات معها ، قد تكون أحيانا في مواجهة طرف إسلامي آخر؟

ج: لا يوجد نصٌ يمنع مِنْ المشاركة لأصالة البراءة مع وجود أكثر من حزب وتيار سياسي في داخل الحكومة، شريطة ألا تعمل لحساب جهة معادية للإسلام ولأمته، أو تستهزئ بمقدمات الإسلام وشعائره، بل هذه المنظومة التعددية المتألقة، والشراكة الوطنية فيما بين هذه الأحزاب أو تلك تكون ضرورة رسالية حضارية ملحة في هذا العصر بوصفها تمثل صمام أمان من استبداد فرد أو طبقة في تسيير دفة الحكم وتسلطها على مقدرات الأمة.

س: أيجوز للإنسان المسلم غير المتحزب المشاركة في حكم علماني، أي لا يلتزم بتطبيق شريعة الإسلام وأحكامه في شؤون الحياة المختلفة، بات يقبل القيام على خطة سياسية من قبيل استلام منصب وزاري، أو رئاسة الوزراء أو غيرهما؟..

ج: أولاً: إذا عجز الإنسان المسلم المستقل الكفؤ عن تسلم المثل الأعلى، جاز له أن يرضى بالممكن، بناءً على القواعد الفقهية كالضرورات.. والمشقة .. ولا ضرر .. ورفع الحرج، وقد عملت الأوساط الفقهية بمقتضيات هذا المنحى الواقعي في الشريعة الإسلامية، ذلك كله بعد أن بدأَ الضعف واليأس والقنوط والفتنة تنخر في جسم كيان الأمة، ويملك أنداد الله تعالى من القوة والمدد والهيمنة، التي تفرض عليه القبول حال ضعف الأمة لا ما يجب أن يرفضهُ في حال تحقيق الوحدة الجامعة، فمن لا يستطع أن يصلَّ إلى استلام الحكم وينفرد به، فلا مانع أن يخضع ل«الأمر الواقع» ويقبل بالمشاركة مع قوى الثورة المضادة، إِذا كان وراء ذلك خير لبناء الأمة، شريطة أن يتوفر تكافؤ فرص حقيقي، بمعنى لديه صلاحيات معقولة بلا أملاءات من الحاكم، أي تجعلهُ يقدم العدل ويطارد الظلم، ولا تسوغ  عندي تلك المشاركة التي لا طائل من ورائها إلا التسويف، وإضاعة الوقت، وارتكاب الحرمة.

ثانياً: ألاَّ يكون الحاكم دكتاتوراً مستبداً ظالماً متسلطاً على رقاب المواطنين، بل يجب مقاومته بأية وسيلةٍ ممكنةٍ، ما لم يؤدِ الأمر الى خللٍ في استقلال الوطن، وسيطرة الأعداء عليه، من هنا لا يجوز للإنسان المسلم، ولا لرموز الأحزاب الإسلامية المشاركة في حكم شمولي مطلق، بل تجوز تكون المشاركة في حكم يقوم على التعددية الشورية، ويحترم طموحات الأمة.

 ثالثاً:أن يُحْفَظَ له حق الاعتراض على كُلِّ مَن يخالف القرآن والسنة النبوية الصحيحة مخالفة صريحة، ولا يكفي التحفظ حين تقع المخالفة الشرعية في المبادئ والمثل الكبرى التي لا تتغير ولا تتبدل، مثل وجود قواعد عسكرية كافرة مشركة على ثرى الإسلام، أو الاعتراف بوجود الكيان الصهيوني على الأراضي الفلسطينية، من هنا يجب الانسحاب من الحكم، لأن هذا الاعتراف عظيم الجرم كتاباً وسنة وإجماعا وعقلاً ووجداناً وتأريخاً.

س: نرى الحكومات الأوروبية وفي مقدمها بريطانيا تتبع في سياستها الخارجية الانحياز إلى سياسة الولايات المتحدة الأميركية.. كيف تقرأ هذا السيناريو؟!..

ج: هذا الانحياز الأوروبي إلى أميركا، التي ينخر فيها الضعف، ضعف المبادئ والسياقات الإنسانية، التي تُشَنُّ فيها الحروب الاستباقية، ونشر الفوضى المنظمة!.. من خلال هذا الانحياز يضمر العرب والمسلمين العداء العقائدي للحكومات الأوروبية بعد اشتراك البعض منها في احتلال أفغانستان والعراق، ونسف بناهما التحتية والاجتماعية. ومما زاد الطين بلة أنَّ أوروبا هي الأنا والآخر، وفي المقدمة بريطانيا التي عادت إلى إرثها الاستعماري بتحالفها مع الولايات المتحدة الأميركية بعد أن ظنت الأمم المستعمرة أنها تخلت عنه بعد الهزائم التي حدثت في الجزائر وليبيا والعراق، ووقفت أُوروبا عاجزةً عن الدفاع عن إرثها الاستعماري التقليدي، ومناطق أُخرى في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وتنازلت عنه طواعيةً للهيمنةِ الأميركية الجديدة الصاعدة، وهي بتحالفها تريدُ أن تسترد بعضاً من عنفوانه الاستعماري الإمبراطوري التقليدي المتراكم عِبْرَ التأريخ منذ أن أصبحت مركزاً للعالم بعد سقوط غرناطة، والذهاب إلى ما وراء الأطلنطي، إلى نصف الكرة الغربي، للوصول إلى جزر الهند الشرقية عِبْرَ جنوب أفريقيا والمحيط الهندي، وبحر العرب من أجل الالتفاف حول العالم الغربي القديم.

 ولكن .. متى تسترد أوروبا استقلالها السياسي، وتطرد القواعد العسكرية الأميركية من ثراها الوطني بوصفها هي التأريخ، وأميركا هي الجغرافيا من وجهة نظرها؟.

صحيح أنَّ أميركا هي القوة الوحيدة، والوجود الوحيد للذات، فلا وجود لغير المركز الجديد الممتد إلى كُلِّ أصقاع الأرض بما في ذلك أُوروبا القديمة.

لقد انتهى الخطر الأحمر ، الذي أُنشِئَتْ من أجله هذه القواعد العسكرية، والحلف الأطلسي، وبعد انتهاء الحرب الباردة، بسبب انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، واستتباب الأمر لأميركا، وغدت قطباً أحادياً منفرداً في الساحة التاريخية العالمية لا ينافسها أحد في هذا الكون، مما أدى بالنتيجة إلى احتكار معظم الإنتاج الصناعي الثقيل، وهذا هو ديدنها ، ومنذ بداية نشأتها قامت على السيِّاسة البرغماتية، التي تستهدف النهب والسلب، والبحث عن الذهب الأسود والأصفر سواءً بسواء.

وفي تصوري لازالت صورة الإنسان الأميركي في ذهنية مستضعفي العالم.. صورة راعي البقر، وسرق الأبقار، وتصفية أصحابها جسدياً، لأنه شعب بلا حضارةٍ لا يعرف إلا تطبيق نظرية خذ كل شيء ولا تعط أيَّ شيء، تنبع عقدته من تأريخ الأمم والأقوام ذات الحضارات العريقة، مثل هذا العراق العظيم ، الذي اجتاحه بغزوة إجرامية لا مثيل لها على طول التأريخ، بوصفه أول حضارة بعد الفيض البشري الثاني بقيادة النبي نوح (ع).

هذه هي عقيدتي في أميركا الاستكبارية، تدافع عن حقوق الإنسان، وتدعو إلى تحقيق الانعتاق والإصلاح والديمقراطية ، وتشن حروباً استباقية تستهدف أفغانستان والعراق، وتهدد بين الحين والآخر سورية وإيران وحزب الله، أو ما تسميه هي (محور الشر) وتتدخل في شؤون السودان ولبنان والصومال، تحكمها الشركات التوراتية الكبرى، والهوس الإمبراطوري، وجماعات الضغط والمنظمات الماسونية والصهيونية سواء بسواء.

وباختصار هل تستيقظ أوربا من غفوتها؟ فتستطيعَ أن تفك علاقتها الإستراتيجية مع أميركا عدوة الأمم والأقوام، وتعود إلى «أصولها الثقافية» وتسترد موقفها السياسي ووعيها التاريخي، ولا اعتبار التاريخ ذاكرة فردية في الزاوية، بل هو ذاكرة جماعية في الوعي التاريخي الحضاري كي تعيد تحمل مسؤوليتها في فترة ثانية عن مسارها لتتجاوز به العدمية الحالية ما بعد الحداثة والعولمة بوصفها ميزان الثقل في العالم، وبالتالي يعود إلى العالم اتزانه، وإلى العقل حركته، وفي الوقت نفسه تجد أن مسار التأريخ يتغير بين المركز والأطراف، وميزان القوى يتبدل بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب، ومن خلال هذه السياقات ترى نهوض أميركا اللاتينية ممثلة في البرازيل فنزويلا وشيلي وفي كوريا واليابان وتركيا وماليزيا وإيران، والصحوة قائمة لا محالة من خلال عودة حركات التحرر الوطني والإسلامي لاستئناف سلطة الدولة التعددية الشورية المستقلة.. اعتماداً على يقظة التحرك الجماهيري، وتكوين نظام عالمي متعدد الأقطاب ، والخلاص من القطب الأحادي المنفرد ، ولكن على ما يبدو لي مازال التحول في بداية الطريق المحفوف بالمطبات والأشواك، «وَيَقُولونَ مَتَى هوَ قلْ عسَى أَنْ يَكونَ قرِيبًا»([1]) «وَتِلْكَ الْأَيامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ»([2]) وهذه هي نهاية حضارة فاسقة ظالمة كافرة، وبداية أخرى تعمل لأجل إقامة عدل إلهي واحد دون غرب وشرق، دون شمال وجنوب، دون مركز ومحيط.

س: هل أنت متفائل.. أم متشائم حول ما يجري في العراق؟.

ج: الوقائع على الأرض أقوى من كُلِّ التفسيرات والتوقعات، فقد بات لدى كُلّ العقلاء، بما هم عقلاء، الحقائق الموجودة في الساحة السيِّاسية العراقية تنسف«التفاؤل المصطنع»، الذي كثيراً ما روج له البعض وبشَّروا به ممن يهتمون بالشأن العراقي، لذلك ما كفى مزايدات واستخفافاً بالقضية العراقية، والمفروض إعطاء الأولوية لتفعيل الجبهة الوطنية والإسلامية المنشودة، واستئناف تفعيل خيار المقاومة السيِّاسية منها والعملياتية كخيار استراتيجي في ظل غياب الشرعية الدولية، واختلال موازين القوى لصالح الاحتلال الفتنوي التوراتي الأميركي، وعدم الرهان على العملية السياسية الجارية باملاءات أميركية صهيونية.

                

(1) سورة الاسراء: الآية 51

(2) سورة آل عمران: الآية 140