لقاء مع الأديبة ابتسام الصمادي

لقاء مع الأديبة ابتسام الصمادي

ثناء ملحم

[email protected]

زرت الإمارات لاستكمال دائرة انتمائي العربي

زهرة دمشقية ما بين الغزل والرثاء غنت

الديمقراطية حوار .. والشعر أرقى أنواع التحاور

الشعر أرحب من السياسة وأرهف

الحركة النقدية في الوطن العربي دون المأمول .. والنقد إبداع ما بعد الإبداع

لم يفارقني طيفها منذ لقياها، وهي تتغنى بأشعارها، فكانت أحسن من ألقى وتغنى.. عبرة انسابت فوق خديها حكت صدق انتماء فوق منبر توالى عليه شعراء، فكانت ضمن نخبة من عليه توالى.                                  

قد تحتار زائراً طيات إحدى مؤلفاتها، بين غزل وولاء لأرض، قصتها والوطن، وانين يتعدى الوطن.

لا أعرف أين رسيت، بل قد أنساب وراء خليط أشعار من قوة يمد كل قارئ إلى انتماء.. هكذا تقوين من حيرة غيرك في بحر كلماتك، بل من قوة انتماء تمدك بوحي بل من انتماء غيرك لأشعارك ومثلهم انتميت.. زائرة أقلب دفاتر كتاباتك إن رضيت، لعلي أنقل إلى غيري صورة إن أشأت نقلتها، لم أرد يوماً أن يكون مكانها إلا نخبة.. فكنت أنت.. حين التقيتك.

على منبر المجمع الثقافي في أبوظبي.. ضيفة أتت فخير من كان المضيف والضيف.. أشعرت.. تغنت وبكت.. فكان لي معها هذا اللقاء:      

* يقولون: المعاناة أساس الإبداع، فمن أين يأتي إبداعك؟

من الغابات البعيدة الفضّة لروحي، هذه المنطقة التي لم تطأها قدم، ولم يصل إليها مغامر، كل غزالاتها مُكحلة العيون، مروّضة ومدربة حتى العظم، ترتفع بسمائها أشجار النخيل، وتعبق نسائم الياسمين الليلي والشجر الليلكي، لا يستطيع أحد أن ينتقل من ضفة أنهارها إلى الضفة الأخرى بمجرد الرغبة في ذلك، لأنه يحتاج إلى كثير من التوازن ودراسة القوانين الحادة، التي تخترق المسام كالإبر الصينية.

وإذا ما دخل معابدها قادم من البعيد يحمل تباشير جديدة، عليه أن يُلقي بكل ما لديه في مذابحها وبيوت نارها، المتقدة بكل أغصان البراري الكثيفة، تلك التي قطعتها أيد قاسية، يمتهن قُطاعها جمع الحطب وتحميله، وتسويقه إلى المواقد الشتوية الباردة، كعيون المارّة في القطارات السريعة.

بلاد عجيبة لا يدخلها سوى من يعرف ثلاثية علي بابا وشيفرا الدخول إلى مقرها.. من هناك يأتي الإبداع المثمر بشجر التفاح الفضي، من يقطف عليه أن يُطهر يديه في النار ليشعر بالألم، فيرتفع إلى مستوى المعاناة، ويضمن البقاء في الجنة.

* تنوع شعرك ما بين الغزل وحب الأرض والبكاء على الأمس، بل حتى على الحاضر، فكيف تستطيعين أن تجمعي بين كل هذا؟

** كأن الحب والأرض صنوان، من لا يدافع عن حبه لا يدافع عن أرضه، العشق كل لا يتجزأ.. كم شاعر رأى في الوطن حبيبته وفي الحبيبة الوطن، وهذا لا يختلف إطلاقاً عند الشواعر:

مُرني...

أوافِ كما تشاء

منحوتة في الصحراء كالبتراء لا

حتُّ يُصاحبي أو يعتري وجهي مساءْ

شامية، كالتوتِ في ذوبانه

بدوية كالعشق من خصبٍ وماء

أفلا تعوذ بتربتي، يا سيد الألوانِ

يا لون الشفق؟

أفلا تعوذ بنضرتي وتدفقي

من ناضب الوجدان في زمن الغرق

إذ كيف يا..

يا سيد الأوطان يا عطر الحبق

أتلوك أنت ولا

أعوذ بصدقك الريفي من

كذب الورق

 أمّا كيف أجمع بين كل هذا.. فعلى ما أعتقد أن ذاك هو الخلطة السحرية السرّية لكل شاعر، فالشاعر يقع على النقطة الفاصلة بين الدمعة والفرحة، بين الحاضر والماضي، بين العتب وعدم الاكتراث، بين البوح والصمت، لذلك صمت رامبو في اللحظة الأخيرة عندما اكتشف هذا الموقع الموجع، وأنا لا أدري كم سأحتمل التواجد في هذه النقطة الممغنطة، التي تُحمل الشاعر أعباءها وأفراحها وأتراحها، بنفس القدر ونفس السوية.

* هناك انتماء استخلصته من كتاباتك، وأحياناً من قوته يرى القارئ تقصير بعض الكتاب أو الشعراء في انتمائهم.. كيف تفسرين قوة هذا الانتماء؟

** أنا لا أستطيع أن أفسّر هذا الانتماء، ولا أن أقيس قوته كما تتفضلين، لكنني أعي تماماً أن الشاعر يملك حدساً كحدس الخيول الأصيلة، التي تشعر بالزلازل قبل وقوعها:

خذ ما تشاء فحدسي كل مشكلتي               والخيل تنبئ بالزلزال في القاع

أمّا ما ترين من تقصير بعض الكتاب أو الشعراء بالمقارنة في انتمائهم، فهذه مسألة إيديولوجية مختلفة، ترجع فيما ترجع إلى هذا الحراك الكوني العام، الذي يستلب الإنسان ويسجنه في جسده، ويقطع عليه أفق أحلامه وآماله.

* كيف بالإمكان أن ندمشق الكون؟.. سؤال حيّرني وحيّر غيري؟

** لا شك أنك قرأت مجموعتي الأخيرة بكامل ياسمينها، وهي تحوي على مقطوعة بعنوان (عقال ندمشق الكون)، حيث أعترف أنني أخجل أن أحبه علانية في هذا الخراب الشاسع وحرب بسوس الكون.

أشعر كمن يُهرّب تحف بلاده إلى أماكن لا تليق بها، ومتاحف تحتاج إلى إثبات حضارتها، أشعر كمن يُتاجر برقيق الصمت، وأطفال العنب وتوت الشآم وتعب جدتي.. أخجل أن أحبه علانية، أحتفظ بهواه داخل أيقونة قلبي، كطفلة تخبئ أطيب ما لديها لساعة الإفطار، أخاف من أنثاي تؤنبني على وقت ليس للحب والأحاسيس النبيلة، أخاف من قسوتها المتوارثة على كتب النادر والجميل والرهيف في قجة الزمن، أخاف على قجتي من شظايا المريا، لماذا لا يحبّون كما تحب الشام؟

يقال سريعاً سندمشق الكون، ونيسمن بيتنا الأبيض وناطحات الغيم سهواً، بكل الأحوال هي دمشق، تشرب من توتها وتعود إليها أنيّ رحلت، هي دمشق من لا يعرفها يراها في أيّ زند عصيّ وجبين مرفوع..

من لا يعرفها يراها في أي عين حوراء وخطوة تيّاهه..

من لا يعرفها يراها في أبيض الحوّار على أصابع المدرسين وألوان المخامل، على الدراق والمشمس.

دمشقنا هذه لا تنام حتى تطمئن على بزوغ الشمس..

إنها تستعد فوراً للصعود وأخذ مكانها، متأهبة على الدوام لترميم الأشياء وتصحيح الخلل، وتحمي كفيّ الميزان لأحبابها، وتحافظ على شعرة معاوية مع خصومها.. دمشق إيقونتي الغالية، دعوها جميعكم لأنني ربيتُ قلبي من صغره أن يكبر على قدرها، ويعلو بطول قامتها، ويضيء بمساحة نجومها.

* تجربتك الشعرية مرّت بمراحل، حبذا لو تعطينا لمحة عنها؟

** بدأتُ لكل المشاغبين من المدرسة، لم أكن أعرف عن الشعر سوى ما تعرفه الطيور المهاجرة صوب الدفء والحرية عن محطات أشجارها وليل انتظارها، تنبأ لي أساتذتي بموقع أدبي ما، وكان للشاعر اللبناني الكبير نجيب جمال الدين (رحمه الله) السبق في ذلك، بعد أن عرض عليه مدير مدرستي نتاجي الشعري الصغير، وهو عبارة عن مدرسيات، أهداني مجموعته (سنابل الغضب) آنذاك، التي اعتبرتها أغلى من كل هدايا بابا نويل وأجمل من الثلجة البيضاء.

في المرحلة الثانية تعبت كثيراً على التحصيل العلمي والعملي في مجال الأدب والشعر، درست الأدب الإنجليزي لأطلّ من النافذة الأكاديمية على نتاج وإبداعات الغير، اجتهدت لأتخطى المألوف وبرد القواميس والقوالب، تعلمت ما يتناقله النسّاجة بالتوارث عن أصول القول وحياكة القصيد، أردت لقصيدتي أن تأتي كقطعة نادرة من (الكاشان) الغالي، فرشتها في ردهات الروح طويلاً كي يمرّ عليها الزمان خفيفاً ورهيفاً.

في المرحلة الأخيرة كان نتاجي أربع مجموعات شعرية تحمل العناوين التالية: سفيرة فوق العادة، هي وأنا وشؤون آُخر، ماسٌ لها، وبكامل ياسيمنها، صدرت بطبعتين إلى الآن، ولي مجموعة من المقالات، ومجموعة للأطفال بعنوان (تعال نُطيّر المدى) ستصدر قريباً.

* لا شك أنك تقرأين للكثير من الشعراء العرب، بمن تأثرت؟

** بكل الشعراء الحقيقيين، القلّة النادرة الهائلة، يأسرني النص الجميل المتقن، المفتوح على أبعاد التأويل، الذي يلمُّ بي ويُصيبني بالعدوى فأحضنه في نفسي حتى أُشفى منه وأتعافى لأقوى عليه.

* ما هي مقومات وأسس النص الجيد؟

** أن تكون مادته من هيولي الروح والتجربة الإنسانية، وقماشه متين من خيوط الشمس، فيه مهارة ودقة في التفصيل وذوق رفيع، إضافة إلى مسحة العصر وظلال التراث وعباءة الأرق.

* هل تعتقدين أن الشعر يفتح نافذة للديمقراطية، أم أنه يغرد في عالم آخر؟

** إذا كانت الديمقراطية حواراً فالشعر أرقى أنواع التحاور، وإذا كانت الديمقراطية حق الآخر لديك فالشعر هو الآخر فيك، وإذا كانت الديمقراطية حرية التضاد فالشعر هو الحرية التي تقع على النقطة الساكنة، التي تربط مبتداها بمنتهاها، وهي التي يسميها المتصوف بتصالح المتناقضات.

وإذا كانت ديمقراطية بوش وكونداليزا رايس فالشعر لا يُحمل على دبابة، لأنه أرقى منها ومن قائدها، وأغلى بما لا يُقارن.

* ما العلاقة المثالية بين الشاعر والسياسي في رأيك؟

** هي أن يعرف كلّ ما يريد، فإذا ما التقيا عند هدف واحد منتج وفعال، يمكن أن يجتمعا، لأن لكلّ أدواته التي يستخدمها، ويمكن أن يستعيدها من الآخر إذا شاء ذلك، لذلك حاولت أن أشعّر السياسة عندما كان لي شرف تمثيل الشعب السوري في البرلمان أو مجلس الشعب، أي أن أرشّ عليها بعض ما فقدته مع الزمن من نضرتها، عندما ارتدت ثوب المصلحة الفجّة، التي لا مساومة عليها، هذا بالمطلق طبعاً، مع أن السياسة في أصلها أن تسوس الناس بالمعروف والحكمة، لكنها في زمن العولمة أخذت شكلاً آخر بعيداً عن ذلك.

فالشعر أرحب من السياسة وأرهف والسياسة أقرب من الشعر وأضعف.

* هل أنصفك النقاد والصحفيون، وهل أنت راضية عن مستوى المتابعة النقدية لأعمالك؟

** يكفيني فخراً أن كُتب عني من الشام لبغداد، ومن نجد إلى يمن، ولكن لم يحصل من مصر إلى تطوان، لأنني لم أر تطوان، وزرت مصر كسياسية وليس كشاعرة أذكر على سبيل المثال لا الحصر الناقد الأستاذ يوسف سامي اليوسف من الشام، والدكتور الشاعر عبد العزيز المفالح من اليمن، ونقاد من الأردن والعراق ولبنان وغيرها، مع الاحتفاظ بوافر الاحترام بعدم ذكر الأسماء على كثرتهم، لكن لا أدري إذا كانت الصحافة قد أضاءت هذه المتابعات النقدية كما يجب.

أنا أعتقد أن النقد هو إبداع ما بعد الإبداع، لكن الحركة النقدية في الوطن العربي ما زالت دون المأمول، لأنها محصورة خارج أدواتها، وخاصة الأكاديمية منها، وتتراوح بين حدين، إمّا المديح أو التجريح، وفي كل الأحوال النقاد والصحافة لا ينصفان المبدع ويضيئان أعماله، والإنصاف هو من فعل الجمهور والذائقة العامة، التي يقع في غربال الزمن، الذي يُبقي على القمح ويغربل الزوؤان.

* إلى أي مدى يمكن أن تؤثر الشهرة في الإبداع؟

** أعتقد أن الشهرة تُحمّل المبدع مسؤولية جديدة، عليه أن يكون على مستواها.

* كيف تجدين نفسك في زحمة الشعراء والمنابر المختلفة؟

** أنالا أجد نفسي إلاّ في الإبداع والعمل.. أما زحمة الشعراء والمنابر فتقديرها لا يعود لي، لكن كما قلت في إحدى قصائدي القصيرة جداً بعنوان (كيان):

أنا لا أحبذ أن أكون النهر

كي لا أُحتوى في ضفتين

وأود لو أغدو التدفق عينه

كي لا أكررَ مرتين

* ما رأيك في مستقبل الشعر، وهل الشعر في أزمة كما يقال؟

** الشعر ليس في أزمة، هناك أزمة في الشعر.. الشعر لا ينتهي مهما ابتدع الإنسان من أصناف جديدة في الإبداع، لكنه يمكن أن يتوزع داخل القصة والرواية والمسرحية واللوحة والأغنية والسلوك الإنساني، فعندما يمتدح النقاد أياً من هذه الإبداعات يقول إنها تحوي على شحنة شعرية عالية، وهو ليس فعلاً وإبداعاً سهل المنال، كما يُمكن أن يُظن، أنه - أي الشعر- من أصعب الأعمال الإبداعية، لأن نحلة روح الشاعر تدور في حقول الإبداعات جميعاً، لتستجمع رحيقها في خلية من نور.

* ما هي مكانة الإمارات كبلد أحببته؟

** لقد كرّمتني الإمارات عندما كانت الشارقة العاصمة الثقافية العربية، واستضافتني شيخات الإمارات باستقبال لا أنساه، نعم تحتل الإمارات مكانة عالية في نفسي تليق بها وبنبضها العربي، أذكر أنني كتبت نشيداً لأطفالها مطلعه:

يا وطناً يُفدى بالولدِ

مرفوع الهامة كالمجد

شيخٌ وبسبع عباداتِ

عربي القلب إماراتي

وهنا أقول في هذا المقال ما أقوله في كل العواصم العربية بأنني لم آت الإمارات زائرة أو عابرة، إنما لأستكمل دائرة انتمائي العربي والثقافي القومي.

* ما شكل المستقبل الذي تتخيله الكاتبة ابتسام الصمادي؟

** كتبت مرة أن هذا العصر ظالم وحقير، يشبه اللوبي والـCIA ونشرات الفيضانات والتسونامي.

اخترق كل غابات روحنا الفضة.

تطرّف بتفاعل قسوته وانفجاراته حتى ثقب أوزوننا وبراءتنا.

صغّر الكون إلى قرية أو مدينة ملاهٍ.

حشاها بالديناميت، وجعل فتيلتها بيد مستهترين ومجانين ورعاة بقر متعجرفين.

سأصرخ بكل ما أوتيت من ريح الشمال.

جردوني من هويتي وجواز سفري.

من الأسماء والعائلات والوجاهة الاجتماعية.

أريد أن أنتمي إلى سنديان بلادي، إلى رمل صحرائي وسنابل ريفي ونوارس بحري.

خذوا مضخات بترولكم.

خذوا كمبيوتراتكم وشبكاتكم وإنترنتكم.

نريد أطفالنا أنقياء كما ولدناهم

صرنا نتذوق التوت البري وكأننا نبتلع حبوب منع الحمل

والشاي مغلي مع نعناع نباتنا وقرص الكعكة محشو بأنامل أطفالنا..

سنأتيك كما عهدتنا في الإمارات

عزيزات مرفوعات الرأس.. متساويات بالتفاني

متسامقات إلى السماء

نطوي الأفق على حضورنا

نضفر بالنجم شعورنا

نقف أمام جفافك

نغرف من قلوبنا ونصبُّ في أنهارك كي لا يعطش أطفالنا يوماً..

سنذوّب سبائك أرواحنا ذهباً لأيامك القادمات..

نحميك بروموشنا وجدائلنا من الماء إلى الماء يا وطن.

              

 ابابتسام الصمادي في سطور:

عضو مجلس الشعب السوري للدور التشريعي الثامن.span>

عضو اتحاد الكتاب العرب.

عضو اتحاد الصحفيين العرب.

محاضرة ومديرة أعمال في جامعة دمشق.

باحثة في قضايا المرأة والفكر.

صاحبة صالون الثلاثاء الثقافي.

صدر لها أربع مجموعات شعرية.

تكتب المقالة في الصحف (عامود).

تحت الطبع مجموعة مقالات في كتاب ومجموعة شعرية للأطفال.

جاء على غلاف مجموعتها الأخيرة:

الشاطئ الممتد مشطي

والمدُّ شعري

والجزر، حين أردّهُ للخلف عن قسماتي

والريح -قبل جنونها- مرآتي

أمّا النوارس.. قرطي المشغول (باللون المؤاتي)

 ولزينتي كلُّ اللآلي

والأزرق الشفاف.. شالي

والموج أسراري التي مهما بدت

تخبو على ألف احتمال