"أم عمر" بعد 7 أشهر في المخابرات الجوية

"أم عمر" بعد 7 أشهر في المخابرات الجوية:

كنت رقما بلا اسم وبقيت 40 يوماً معصوبة العينين

فارس الرفاعي - زمان الوصل

"أم عمر" امرأة سورية لم تتجاوز الثلاثين من عمرها كانت قرب بيتها في منطقة العدوي بدمشق أواخر حزيران من عام 2012 عندما جاء "زوار الليل" بسيارتيْ جيب سوداوين واختطفوها لتبقى في "ضيافتهم" 7 أشهر ذاقت خلالها أقسى أنواع التعذيب والإذلال، ورأت في أقبية نظام الأسد مشاهد لم تكن تتخيلها حتى في الكوابيس، عاشت ساعات ثقيلة بطيئة مرت وكأنها دهر طويل زاد من وطأتها خوفها على ابنها الذي لم يتجاوز السنوات الأربع، والذي تركته مع والدتها في المنزل، كل ذلك لأنها تجرأت على مد يد العون للعائلات النازحة وأوصلت الدواء لمحتاجيه.

وبعد أشهر من خروجها من المعتقل لم تستطع "أم عمر" أن تنسى رحلة آلامها فيه، وكلما حاولت تذكّر ما حدث معها إنتابتها حالات من الحزن والقهر والانشطار الداخلي "وقت بتذكر اللي صار معي بحس حالي عشتو مرة تانية".

وبتأثر واضح يشوبه التردد سردت لـ"زمان الوصل" تفاصيل اعتقالها منذ البداية قائلة: "بتاريخ 29/6/2012 وحوالي الساعة 8،30 مساء، كنت أهمُّ بدخول منزلي، فرأيت فجأة سيارتي جيب سوداوين نزل من إحداهما شخصان وقفا ورائي، وأمسكا بيدي، ودفعاني عنوة إلى سيارتهما بعد أن قاما بتقييد يديّ ووضعا عصابة على عيني، وداخل السيارة بدأ آخرون يكيلون لي الشتائم البذيئة ويضربوني بكعوب (الروسيات) التي كانت معهم في كل أنحاء جسدي، وبقيت 40 يوماً (معصوبة العينين) لا أعرف أين أنا وبعد ذلك عرفت أني معتقلة لدى المخابرات الجوية". 

التهمة الوحيدة التي واجهت "أم عمر" هي العمل في الإغاثة ومساعدة الجرحى وتقديم الأدوية لمحتاجيها في حمص ودمشق، فتقول: قبل الأحداث كنت في حمص مع أهلي وعندما بدأت الثورة عملت في الإغاثة، وحينها خاف والدي عليّ وقام بنقلني إلى جامعه دمشق ولكنني رفضت أن أداوم في الجامعة وأهل بلدي يُقتلون.

وتضيف: في الشام عملت في الإغاثة لوجود نازحين كثر من حمص، وكنت أنزل إلى حمص لإدخال ما أستطيع إدخاله وإخراج الجرحى.

وتردف "أم عمر" مستذكرة فترة عملها في الإغاثة: كان وقتي مزدحماً لا فراغ لدي حتى ابني الصغير "عمر" لم أعد أراه كما يجب، كنت أخرج من منزلي من الثامنة مساءً ولا أعود إلا في منتصف الليل، حتى صار اسم "أم عمر" معروفاً في دمشق، لم أكن أشعر بالملاحقة أو الانتباه من قبل النظام ومخبريه ولذلك كنت أعمل بحماس واندفاع دون أن أتحسب للعواقب.

رقم بلا اسم !

وحول ظروف اعتقالها فيما بعد تقول أم عمر: تم اعتقالي بداية في فرع الجوية لمدة خمسة أشهر كنت خلالها في زنزانة منفردة، وكنت هناك مجرد رقم بلا اسم، إذ كان رقمي (1)، وإذا صادف أن ذكرت اسمي كنت أتعرض للتعذيب والإهانة وتستعيد "أم عمر" أجواء المعتقل كما عاشتها قائلة: كانت أصوات التعذيب في الزنازين المجاورة لزنزانتي "تذبحني" انهارت أعصابي كثيراً، نسيت وجع جسمي عندما أمروني بالمشي في ممر الفرع الذي غالباً ما كان يُعذّب فيه المعتقلون، وهناك رأيت أجساماً جامدة مرمية على الأرض ومغطاة بالكامل فعرفت أنها جثث لأشخاص فارقوا الحياة، وكان هناك شبان شبه عراة ظهورهم إلى الجدران وكانت أجسادهم تنزّ دما من أثر التعذيب، لم يكن شعور التخدير و(التنميل) يفارق جسدي ولا أنين الشبان وآهاتهم من الوجع تفارق مخيلتي.

كانت الزنزانة المنفردة كما تصف "أم عمر" ضيقة جداً يكاد الهواء ينقطع عنها وكانت -كما تقول- تشتهي أن تشم هواء عادياً فلا تستطيع، وكان القمل يكاد يأكل جسدها "كنت حك جسمي ليطلع الدم"، فالحمام كان ممنوعاً وإذا تم استخدامه فبلا باب، كنت أتخيل نفسي في (جهنم الحمراء) من شدة العذاب والذل الذي ذقته ولم يفارق خيالي للحظة ابني ذو الأربع سنوات الذي تركته في المنزل وأهلي الذين لا يعرفون أين أنا، وكنت أبكي لساعات ثم أغفو قليلاً لأسمع صوت أشخاص يُعذّبون فأبكي على وجعهم، أطفأوا سجائرهم في جسدي، إلى الآن أتأمل مكانها كي لا أنساها.

دماء من تحت الباب !

كان سجن الشبان قريباً من الزنزانة التي اعتقلت فيها "أم عمر"، مما جعلها تسمع بوضوح أصوات تعذيب الشبان وتصفيتهم، وتروي إنها أصيبت بحالة من الهستيريا والرعب عندما رأت دماء تسيل من فراغ تحت باب منفردتها، وعندما نظرت من الفراغ رأت جثة شاب متفسخة ومنتفخة من كثرة الضرب وتضيف بتأثر: "أنا هون انهارت أعصابي كنت أضرب حالي بالحيطان"، والمرة الثانية التي انهارت فيها كما تقول عندما أنزل عناصر الفرع طفلين لأب تحت التعذيب "وقتها سمعت صوت الأطفال الذين لم تتجاوز أعمارهما الخامسة، فجنّ جنوني وكنت أقول لنفسي "هل أنا في حلم"، ومن طاقة كانت مفتوحة للتنفس رأيت أحد الطفلين يمسك بطرف بدلة السجان وهو يبكي بكاء شديداً، وينظر مع أخيه إلى أبيهما الذي يتعرض للتعذيب هذا المشهد لا يمكن أن أنساه ما حييت، ورأيت نساء كبيرات في السن وإحداهن كان ابنها معتقلاً بتهمة قيامه بتدبير أحد التفجيرات جاءوا بها وبدأوا يضربونها حتى أصيبت بجلطة، وتم إسعافها وهي في الرمق الأخير.

وتردف "أم عمر": بعد مرور ثلاثة أشهر على اعتقالي في فرع المخابرات الجوية قالوا لي سيراك القاضي وستخرجين بعدها من السجن، فكدت أطير من الفرح، وفي اليوم التالي قاموا بتعصيب عينيي وتقييد يدي إلى ظهري كما فعلوا عند اعتقالي وأركبوني في "سرفيس" لأفاجأ بأنهم نقلوني إلى فرع "أمن الدولة" في "كفر سوسة"، فأمضيت هناك جزءاً لا بأس به من فترة اعتقالي وعشت في زنزانة منفردة، لم يكن فيها إلا حمام منزوع الباب، كانت الرائحة المنبعثة منه توخز أنفي، وتكاد تخنقني وكانت فتيات معتقلات يأتين إلى الزنزانات المجاورة ويذهبن بعد أيام، إلا أنا طالت فترة اعتقالي (حسيت أنو خلص أنا بدي موت جوا) وفي آخر أسبوعين من اعتقالي في "أمن الدولة" أتى عناصر الفرع بأمي لتبصيمها على أن أعمل معهم كمخبرة أو يضعوها في المعتقل، وخرجت عن طريق لجنة تابعة للنظام وكان رئيس هذه اللجنة فلسطيني لا أذكر اسمه وكان يريد منا كمعتقلين قيد الإفراج العمل معهم لإيهام الناس أن النظام يقبل بمعارضين ولكن بشروطه، واختاروا من بين المعتقلين المثقفين منهم كالصيادلة والأطباء والمهندسين وكنت من ضمنهم وكنت السيدة الوحيدة بين 13 شاباً وكانوا يشترطون أن نعمل مع هذه اللجنة للإفراج عنا ولكنني استطعت أن أغادر البلد خلسة بعد الإفراج عني وأن أبعد عن ابني لأنهم لن يتركوني وشأني.