مجلة كتابات معاصرة تحاور أفنان القاسم

أفنان القاسم

كل الأعمال الأدبية ترقد بين دفتي الكتاب كأثر ولا تنهض كنص إبداعي ملهم وخلاق، وأنا تبعا لهذا التصور أقول بعدم وجود رواية ولا قصة ولا قصيدة إلا نادرا بخصوص هذه الأخيرة في العالم العربي

أجرى الحوار: إلياس لحود

السؤال الأول: حدثنا عن سيرتك الأدبية بكلمات مكثفة؟

أفنان القاسم: هل أقول لك أنا أكثر من ثلاثين كتابا نشرت باللغتين الفرنسية والعربية؟ قال لي أحدهم مؤخرا "كلها ما عدا كتابين سألقي بها في المزبلة!" الكتابان هما "كتب وأسفار" و"شارع الغاردنز"، ولكن واحدا مثل المستعرب دانيال ريغ اعتبر روايتي "العجوز" "من أهم الأعمال الأدبية"، إقرأ ما كتبه في مقدمتيه العربية والفرنسية، وواحدة مثل المستعربة ندى طوميش اكتشفت فيّ بعد قراءتها ل "فندق شارون" الصادر بالفرنسية "الكاتب المدهش الذي ما كانت تحسبه موجودا"، إقرأ ما قالته على انترنت، وواحد مثل فيصل دراج كان يحب "الشوارع" وينوه بها للرابطة التي تربطه بأجوائها وشخصياتها وهمومها الخطابية وليس لأنه ساهم في كتابة بعض استعاراتها، وهناك ناقد لا أذكر اسمه تكلم في أطروحة له عن روايتي الضخمة "المسار" التي قضيت خمس سنوات في كتابتها، وحكم عليها في خمسة سطور بالفشل لأنها عرضت للمعتَقَلَيْنِ العربي والإسرائيلي، وبالغت في وحشية الأول بالنسبة للثاني... هذه آراء مختلفة تتعدد تعدد الأعمال والزاوية التي ينظر القارئ منها. أنا شخصيا وقد عدت غريبا عن أعمالي أفضل قصة قصيرة لي من قصصي الأولى عنوانها "الهامشيون" صدرت في الطبعة الفرنسية "للأعشاش المهدومة"، وأعتقد أنها تلخص مئات آلاف الكيلومترات من أسطر كتبتها، تكثف مفهوم البطل عندي ورؤيتي للعالم، البطل الإشكالي الذي ينوء بعبء العالم، فلا بطل سلبي عندي ولا بطل إيجابي وإنما بطل فاجعي، ولا أبيض أو أسود فيما أرى وفيمن أرى، لأن الشرط الإنساني يتبدل تبدل الظرف المادي وما يبدو فيه من واقعية أو ما وراء الواقعية. ومن ناحية ثانية، هناك أعمال نشرت لي بالفرنسية مثل رواية أخرى ضخمة تحمل عنوان "أبو بكر الآشي" عن ابن طفيل ولم تنشر بالعربية أو رواية "إسكندر الجفناوي" عن حرب عمان 70 ولم تنشر بالفرنسية، إلى جانب بعض المسرحيات والدراسات الأدبية والسياسية وعشرات المقالات وعشرات القصائد المكتوبة بالفرنسية.

السؤال الثاني: لوكليزيو وعصر الرواية العربية كيف ترى التقاطع بينهما التوازي التأكيد النفي التواصل القطع... إلى آخره؟

أفنان القاسم: لوكليزيو ليسه مثل كل روائي في الوقت الراهن، فهو أولا وقبل كل شيء التقاطع والتوازي وكل الباقي بينه وبين الرواية الفرنسية على الخصوص والرواية في الغرب وفي العالم على العموم، بعد عصور من الانتاج الروائي وصلت بالرواية إلى طور لا يرتبط لا بكلاسيكية ولا بتحديثية، ومدت الرواية بهوية لا تنتمي لا إلى عصر ولا إلى بلد أمة طبقة... وأصبحت كجنس أدبي تيار نفسها وهوية نفسها. لهذا أفضل الحديث عن رواية ورواية فقط. لوكليزيو من وجهة النظر هذه هو بالصدفة لوكليزيو، هو بالصدفة فرنسي، لأن ما كتبه من روايات يمكن أن يكتبه صيني أو أسترالي أو عربي ينهل ما نهله لوكليزيو من الإرث الكوني، بطريقة أخرى حتما، ومن هذه الناحية ننعت رواية لوكليزيو الفرنسي بالفرنسية. الرواية تبقى شكلا لازمنيا ذات مضامين زمنية ولصيقة بواقعها حتى في أقصى صورها الفانتازية. إذن الرواية في عصرنا وفي البلدان العربية هي قدرتها على أن تكون رواية بالفعل ولواحد مثل لوكليزيو مصري أو لبناني أو موريتاني. كلامي هذا ينفي كل الروايات التي كتبت عربيا بما فيها رواياتي، ويؤكد شرطين لوجود رواية لدى العرب: الأول على النص أن يكون البوتقة لنصوص سابقة عليه، ما تدعوه جوليا كريستيفا بالعلاقات التي تقيمها النصوص فيما بينها والسياقات التي تتبادلها، والثاني على النص أن يكون المحرك والمحفز والملهم لنصوص لاحقة به ليس لأن صاحب النص حاز على جائزة نوبل جائزة هي أعلى درجة وصل إليها تسليع الكتاب في مجتمع الاستهلاك، ولكن لأن النص هو اقتراح مستمر لنصوص جديدة على غرار ألف ليلة وليلة والأوديسة والكوميديا الإنسانية والملك لير والصراخ والغضب والمحكمة والغريب إلى آخره، وهذا ما لم يحظ به بعد لوكليزيو ولا أي كاتب عربي بمن فيهم نجيب محفوظ لحد الآن.

السؤال الثالث: إذن كيف ترى ما يدعى بنوبل العربية؟ بسارتر عربي؟

أفنان القاسم: إذا كان سؤالك فيما يتعلق بنوبل العربية يعني استحداث جائزة عربية بمستوى نوبل تشجع الأدب والفن وباقي العلوم أتساءل ما فائدة ذلك والأدب لدينا غير موجود والفن محتضر والعلوم ميتة منذ ابن سينا والفارابي؟ هناك جوائز عربية عديدة خليجية وغير خليجية وبمئات آلاف الدولارات ذهبت إلى الجيوب دون العقول، بل على العكس ساهمت هذه الجوائز في توقف العقل وقتل ما كنا نأمله في الكاتب المتوج من إبداع. برجزة الكاتب الذي هو كاتب سلطوي في الأساس شيء ليس ابن اليوم، وقراء الكاتب غير الموجودين أصلا لن يكونوا هنا عند التسليع لتشجيعه كما يجري في الغرب، والتسليع الثقافي هذا غير موجود أصلا ليرافق الجائزة ويسوّق لها على مستوى شعبي وثقافي وإعلامي، كل شيء يولد ميتا بخصوص الجوائز وكل شيء طبعا في خدمة النظام. أما إذا ما تعلق الأمر بحصول أحد الكتاب العرب على جائزة نوبل، فنجيب محفوظ قد حصل عليها، ولم تغير الجائزة شيئا في أمر الرواية عندنا لأن ما يكتبه الغيطاني مثلا يبقى في إطار الموروث العربي لا الموروث العالمي وتحليقات الغيطاني في تجلياته لا تتعداها إلى التحليق الوجودي السحري كما هو لدى ماركيز مثلا، وأيضا وعلى الخصوص لا تتعدى التناص إلى نصوص جديدة عربيا وعالميا بما أن كتبه ترجمت إلى الفرنسية وغير الفرنسية. وقس على ذلك كل الأعمال الأدبية التي ترقد بين دفتي الكتاب كأثر ولا تنهض كنص إبداعي ملهم وخلاق، وأنا تبعا لهذا التصور أقول بعدم وجود رواية ولا قصة ولا قصيدة إلا نادرا بخصوص هذه الأخيرة في العالم العربي. وبخصوص سارتر عربي أو بلزاك عربي أو جويس عربي أنا أعتبرها تسميات تنتمي إلى حقل الظرافة والدعابة في ظرف الانحطاط العام ظرفنا وظرفهم، فهم أيضا ليس لديهم سارتر فرنسي آخر أو بلزاك فرنسي آخر إلى آخره، العقل الإنساني بصفة عامة يحيا زمن الأفول، والفرق بيننا وبينهم أننا لا نملك ماضيا ثقافيا حديثا يحمينا (أنا لا أتكلم عن الماضي العربي الإسلامي التليد) وأنهم ما زالوا بماضيهم الثقافي الحديث يحتمون.

السؤال الرابع: يقال الرواية لغة العالم فما رأيك؟

أفنان القاسم: أقف حائرا اليوم أمام سؤال كهذا، فمنذ وقت ليس ببعيد كنت أتكلم جازما عن عجز القصيدة بالمقارنة مع الرواية أمام الحدث تمثيله وتمثله، وعن ضعف القصة القصيرة، وكنت من المدافعين العنيدين عن الرواية كاحتواء ولغة وانتاج للعالم. كنت أهمل الطرف الثاني القارئ وهو الطرف الذاهب بالعمل الأدبي أيا كان رواية أم غيره من الكتاب الموضوع على رف من رفوف مكتبة إلى الكتاب النص الذي يعيد القارئ كتابته كل مرة قرأه فيها، ويضفي عليه وجودا وخلودا وقيمة، لهذا أرى أن الكنب الروائية كثيرة والنصوص الروائية قليلة لقلة من يقرأها، وليس لأن العالم متمثلٌ أو غيرُ متمثلٍ فيها. ولأن كل شيء يتوقف على القارئ والقارئ اليوم –هذا إن وجد قارئ عندنا- هو قارئ انترنت ضيق النَّفَس المستعجل دوما الذي يسعده ألا يقلب صفحات الكتاب تصبح القصة القصيرة وغالبا الأقصوصة والقصيدة الشكل الأمثل للتعبير عن العالم، والتربع على عرش اللغة.

السؤال الخامس: بما أننا في قلب انترنت احك لنا عن الكمبيوتر والكتابة؟

أفنان القاسم: أعتقد أن الكتابة بالقلم أو على الكمبيوتر مسألة عادة وحالة نفسية لا أكثر، كنت وأنا أضرب رواياتي على الآلة الكاتبة أطرب للإيقاع وأستوحي منه ما أستوحي، لكل كاتب طريقته في زرع جناحين له على طريقة ذلك الكائن الأسطوري والتحرر من سجن الكتابة. لكن المستقبل للكمبيوتر لا للقلم، القلم يبقى ضروريا للشاعر ليحاصر فكرة وهو في الطريق أو ليضيف صورة إلى ألبومه وهو في القطار أو الحافلة.

السؤال السادس والأخير: أنت في باريس وباريس كانت لك مناسبة لطباعة كتبك والتعريف بها بينما معهد العالم العربي في باريس وحسبما تعتقد دون نافذة عليها؟

أفنان القاسم: لأن معهد العالم العربي بالقيمين عليه صورة من صور النظام العربي، ليس مهما أن ندخل مدينة النور من بابها الواسع بينما نحن فيها، فنبقى في ظلالها إن لم يكن في ظلامها. الإنسان العربي بجنونه وشجونه يجهله معهد العالم العربي بل يتجاهله، فيجري التركيز على معارض يرضى عنها النظام المصري حول الفراعنة مثلا وهذا جيد لو كان إلى جانبه شيء يحكي عن حياة المصريين اليوم، فكيف تريد أن يكون هذا المعهد دربا عربيا إلى عقل وضمير الفرنسي وبالتالي الغرب. المقاهي الأدبية تدور في الفلك الرسمي، والكتب المترجمة منتقاة على أحسن وجه، كلها من عينة يرضى عنها النظام أو على الأقل لا تزعجه، والنشاطات الأخرى تبقى رهن سياسة ألا نصدم ألا نعادي ألا نثير الحساسية تجاه إسرائيل والمتعاطفين معها أي أن نهادن ونهادن ونهادن وهذا ما يجري تطبيقه على الساحة هناك. أضف إلى ذلك أن المسؤولين هنا من له عشرات السنين، فأين التجديد في المواهب وأين المهارات الجديدة وأين التجارب الجريئة، لدكتاتورية الكرسي هنا صورة عن دكتاتورية الكرسي هناك، وباريس أو غير باريس، المهم أن أبقى، ولهذا السبب يعمل القيمين في معهد العالم العربي على تقزيم هذا المعهد وتقوقعه وقتل رسالته التي تأسس من أجلها ليبقوا بقاء الطحالب إلى أبد الآبدين.