حوار مع الشاعر المغربي: محمد فريد الرياحي

حوار مع الشاعر المغربي:

محمد فريد الرياحي

حاوره : نور الدين مبخوتي

حينما قدمت الشاعر المغربي السبعيني محمد فريد الرياحي أول مرة للقارئ الجزائري من خلال حوار أجريته معه نشر في الملحق الثقافي لجريدة "اليوم"، قلت إن هذا الحدث الثقافي هو مكسب للثقافة المغربية الجزائرية وأستطيع الآن أن أقول الأمر ذاته عن هذا الحوار الجديد الذي هو مكسب للثقافة العربية ككل لأنه يطمح إلى التعريف بتجربة هذا الشاعر من خلال نتاجه الجديد.

*  *  *

1- في مستهل هذا الحوار أريد أن أعرف من الشاعر المغربي محمد فريد الرياحي الظروف التي صاحبت ميلاد مطولتكم الشعرية " وهج الليلة السابعة " التي هي في حقيقة الأمر خلاصة محنة مرض قد ألمّت بكم.

ينبغي بل يجب أن أبدأ من البدء الذي يمثل جوهر هذه المطولة الشعرية بما لها من التجربة، و ما فيها من الإيقاع، و ما حولها من الأصداء، و ما تحتها من الأنداء و ما بين أسطارها من الأقمار و الأسحار، و ما هو منها من الأسرار و الأخبار. و إنّه للبدء الذي يشكل صبحها الدافق، و ليلها الرائق، و هويتها الممدودة في الكيان و كينونتها المجدودة بالبيان. فلقد كانت أنباؤها من تجربة المرض الذي آدني، و كانت أنداؤها مما رافق هذه التجربة من الرؤى و الأحلام و الأوهام و الخيالات و الصور في حيز مكاني و زماني، ضاق من حولي، حتى حسبته طوقا يشد علي الخناق،فإذا أنا قاب قوسين أو أدنى من الهلاك. كانت هذه التجربة – و عانيتها – تجربة غُمّ فيها علي، فلم أتبين الصواب من الخطأ، و لا العقل من الجنون، فخبطت إذن خبط عشواء في الوجود من الذات و الذات من الوجود، و صرت كالذي يخطو خطوة إلى الإمام و خطوتين إلى الوراء في غبش من الرؤيا، و اضطراب من الفكر، و احتراب من الشعور، حتى لا منفذ مما حاق بي من الغمة، و لا مخرج مما حاط من الأزمة. و ليس من شك في أن هذه الحال التي لبستها و لبستني في سنة 1982، بل في شهر يوليو من هذه السنة إنما وجدت ما يمكن لها في التمدد و الامتداد، في حدة طبعي و مزاجي، و ثراء شعوري بالحياة و ثوران إحساسي بالوجود و عظيم عشقي للجمال و الجلال، و كبير اعتدادي بالقيم العروبية، في أنفة مشمخرة، و شمم لا يلين و لا يهون. ألست من بني رياح في الصلب الذي لا ينهد ؟ ألست من أولاد رياح في الأصل الذي لا يرتد ؟ و ليس من شك أيضا أن الشاعر الذي هذا طبعه و ديدنه بحال من الأحوال أن يحيد عن مثله الأعلى في الوجود و الحياة، و لا يمكنه أن يزول عما قُدّر له من الموت واقفًا في الذي آمن به من الحق و العشق، فلا ردة و لا ارتداد، و لكن احتداد و اشتداد و علو في الحياة و في الممات. و بَدَهي أن الذي يسير هذه السيرة أي يسبح ضدا على التيار، يلاقي ما يسوؤه و ينوؤه، و لكنه إلى ذلك يخرج من رماده مشتعلا كأشد ما يكون الإشتعال، ملتهبا كأقوى ما يكون الالتهاب.

هي هذه الظروف التي أحاطت بنشوء القصيدة في جماليتها الفنية و فنيتها الجمالية و هي القصيدة التي لم تكتب إلا بعد خمس عشرة سنة من تاريخ التجربة التي وصفتها قبلُ.

2- في هذه المجموعة ما هي دلالة هذا الارتداد إلى ما هو طفولي باستمرار و بحجم كبير و اشتغالكم عليه كتيمة داخل هذا المتن ؟

في البدء من الطفولة البشرية كان الشعر،و كان الخيال الشعري، و كانت الأسطورة و كان الغمض الوجودي الذي يحار الشاعر الإنسان و الإنسان الشاعر في تفسيره، و تجليته، و كان ما كان من التوحد بالجمالية الكونية و التداخل في الكونية الجمالية.

و على الرغم مما طرأ على حياتنا الآن من مظاهر التمدن، فإننا في العمق العميق و الأصل الأصيل من وجودنا، ما زلنا موصولين بهذه الطفولة، فيما يروعنا من الظواهر، و يبهرنا من الصور، و يستحوذ علينا من الإيقاعات و الخيالات. و ليس لأحد منا أن ينكر أنه مشدود إلى ما كان من الوجود في بدء التاريخ، ملموم بما كان من الإحساس في فجر المواجهة الإنسانية للطبيعة و الكون. و في هذا الذي أذكره يقوم اللاشعور الجمعي شاهدا على ما يحرجنا من النوازع و يقودنا من الدوافع و يسيطر علينا من الدوافع، و يسيطر علينا من المشاعر، التي ليست وليدة اليوم و لكنها تعود إلى أعماق أعاميق التاريخ. هذا من جهة النظر إلى الإنسانية كافة، فيما يتناوبها من المد و الجزر، و الحضور و الغياب في المجال الذي هو مجال الثبات و التحدي، أي مجال إثبات الذات بالذي في العلوم و الفنون و الاختراعات و الابداعات من المقامات و الكمالات، و من الجهة الأخرى أي من جهة الإنسان باعتباره فردا، فإن الطفولة حاضرة فيه، ماثلة في شعوره، متغلغة في لا شعوره، لا تنفك عنه و لا ينفك عنها، فهي قائمة بما فيها من الامكانات، و لها من الدلالات في وجوده الحي، و ذاته الحيوية. و الشاعر هو أقدر الناس على تحسُّس هذه الطفولة في ذاته و تلمسها فيما يصدر عنه من المظاهر السلوكية، سواء كانت هذه المظاهر مسلوكة في المجال المادي أو مملوكة بالمجال الفني. و ليس للشاعر أن ينكر طفولته أو يتخلى عنها. و كيف له ذلك و هي أقرب إليه من حبل الوريد. يراها في مسالكه حين يشعر وحين يحس، و يراها في إبداعاته حين يوقع و حين ينشد و حين يتغنى بأعذب الكلم و أروع الخطاب. و ليست فرحة الشاعر و هو يقرأ قصائده متلذذا بإقبال الجمهور عليه بل و هو يرى هذه القصائد ملمومة في ديوان، إلا دليلا على هذه الطفولة التي تتوثب في ذاته و تثب في وجوده.

أليس الطفل أقدر الناس على أن يفرح بالوجود و الكون في الثراء من الشعور و البهاء من الوجدان ؟. إنه يمكنني إذن تفسير رجوعي إلى الطفولة في (وهج الليلة السابعة) بهذا المنظور الذي أشرت إليه. غير أن هناك أسبابا أخرى تفسر هذا الارتداد و مؤداها أولا أني خلقت شاعرا، و أن شاعريتي التي كانت قدرا مقدورا ألهمتني من المواقف ما كانت به و فيه أقرب إلى ذاتي و وجودي من أي شيء آخر، فكان التكور على الذات و كان الانكفاء على الوجود حتى الحد الذي فيه أحسست إحساسا حادا بفرديتي بل بفردانيتي، و أيقنت أني لا محالة مُلاق تحديات في الوجود كثيرة، و ثانيا أن تجربة المرض التي مررت بها في مرحلة من مراحل العمر أرجعتني إلى الطفولة و عوالمها الجميلة في لحظة أو في لحظات لا تحسب بحساب الزمن و لكن تحسب بالشعور الذي يسع الكون بأجمعه، إنها العوالم / الجنة في مقابل التجربة المرضية / الجحيم.

3- هل في لحظة الضعف الإنساني و هشاشة الذات يعلو صوت الشعور الديني على نحو ما وجدت في مجموعتكم الشعرية " وهج الليلة السابعة " ؟

إنه في حال الشعور بالخطر و الإحساس بالمكروه يعود الإنسان إلى الله. و في هذا دليل على أن التدين أمر فطري في الذات الإنسانية. قد يغفل الإنسان عن صلته بالله في خضم الوجود و الحياة و لكنه إذ تزلزله العواصف، و تعصف به الرجات يشعر أنه أضعف من أن يواجه هذه الرجات، و تلك العواصف وحده من غير معين يلهمه الثبات، و يمده بالعون. و لا ملجأ للإنسان أوّلا و للإنسان الشاعر ثانيا فيما أدلهم من الأمر و أحلولك من الدهر إلا الله. إليه المفر، و عليه التكلان.

و في التنزيل إشارة بليغة إلى هذا الذي أذكره. و دونك ما يحدث في حياتنا اليومية من الإشارات و العبارات، فإنك تجد الناس غافلين ناسين أو متناسين لصوت الفطرة في ذواتهم. فإذا أزفت الآزفة رأيتهم يعوذون بالله من كل شر مستطير. و تلك حقيقة مشهودة بآثارها الدالة عليها. يستوي فيها المؤمن و الملحد.

4- يوظف الشاعر المغربي محمد فريد الرياحي في مجموعته الرابعة عنوانا مشتركا شاع عند شعراء العربية في المشرق و المغرب بالرغم مما فيه من انزياح طفيف لكن المثير حقا هو هذه العناوين الفرعية باعتبارها العتبات الأولى فإنها جميعها تنتمي إلى ما يعرف في ثقافتنا العربية بأبواب النحو من قبيل لفظة الحال و النعت و التمييز، صيغة التعجب، الجملة و الكلام ... بِمَ تُعَلِّلُون شيوع هذه الظاهرة في ديوان الغناء بين يدي ولادة بنت المستكفي.

هي ظاهرة حقا. و إلا فما العلاقة بين الشعر و النحو. الشعر من الذات أصله، و في الذات طريقته و إلى الذات وجهته. فلا مهرب له إذن عن هذه الذات التي تتألق فيما لها من العنفوان، فإذا هي متعالية على الضرورات الثقيلة، سابحة في أجوائها سارحة في أمدائها تعطي من عندها ما يبهر و يروع في لحظة هي لحظة التخلج  و التوهج و التبلج. أما النحو فمن العقل أصله و في التقعيد طريقته و إلى الضبط وجهته. غير أن الشعر و النحو مع ذلك و إلى ذلك يلتقيان في القصيدة في مجال هو مجال الكتابة التي لابد من أن تخضع لقوانين معينة هي ما أشار إليه عبد القاهر الجرجاني و أسماها بالنظم. و هي القوانين التي ينبغي بل يجب أن لا تُغَيِّبَ الشعري و الشاعري في النص. هذه واحدة. و الثانية أن العناوين التي اخترتها لقصائد (الغناء بين يدي ولادة بنت المستكفي) تتساوق مع هذه القصائد في سياق هو سياق العلاقة الخفية بين ما هو ظاهر من هذه العناوين و ما هو معلن من المضامين لحظة التحليل و القراءة. و الثالثة أن ثقافتي ثقافة عربية في أصلها الأصيل المتأصل، فلا محيد لي عنها و لا مناص لي منها و أنا المعتز بعروبتي و المعتد بعروبيتي في مجال يؤمن بالتثاقف و التحاور و التفتح و الإنفتاح على الأنساق  الثقافية الأخرى في لغاتها إن كان ذلك ممكنا.

5- فاس ثمّ ولادة بنت المستكفي هي المحطات الأساسية التي توقف عندها الشاعر محمد فريد الرياحي. لماذا هذا الجمع بين مدينة فاس كفضاء تاريخي مميز و بين هذه المرأة الأندلسية الرمز و الأسطورة ؟

في (الغناء بين يدي ولادة بنت المستكفي) تتألق ولاّدة بما لها من الإشراق في فاس و تتدفق فاس بما فيها من الآفاق في ولادة. أليس ولادة شاعرة عربية أندلسية ؟ أليس فاس مجمعا للآثار و التأثيرات الأندلسية في الوجهة الحياتية و الإتجاه الوجودي ؟ إن فاسا امتدادا للثقافة و الحضارة الأندلسيتين، و لا يمكن الفصل بينها و بين الإندلس في مجال هو مجال التلاقح و التوالد. و إن ولادة هي المثال الحي للجمال العربي الأندلسي الذي نجده في فاس كما نجده في تلمسان. فكم في فاس و في تلمسان من ولاّدة. و يا حُسنر ولادة حين تحضر و حين تغيب و حين تطلع من لألائها في لآلائها و حين تخلع من جمالها الأروع على فاس و على تلمسان، فإذا هي فيهما عروس لا تدانيها عروس من الإنس أو الجن.

6- في الوقت الذي يبدع فيه جمهور الشعراء نمطا شعريا اصطلح عليه نقديا بالقصيدة البرق أو اللقطة متأثرين في ذلك بالتجارب الشعرية العالمية خاصة قصيدة الهايكو اليابانية نرى الشاعر محمد فريد الرياحي يسبح ضد التيار و يبدع ما أسميه بالقصيدة النهر أي المطولة. ألَمْ يقدكم هذا الاختيار إلى كتابة المسرح الشعري الذي ما زال أرضا بكرا لم تطأها بعد أقدام الشعراء العرب ؟

لا بد من الإشارة، في هذا السياق، إلى أن للكتابة الشعرية أجواء تملك الشاعر و لا يملكها الشاعر. و معنى هذا أن ليس للشاعر أن يختار قصر أو طول القصيدة التي يكتبها. لأن هذا و ذاك من قبيل ما اختير للشاعر في مجال هو مجال الإلهام. فليس له إذن أن يخرج منه أو يحيد عنه. فإن خرج أو حاد خسر الشعر و خسر نفسه بدخوله إلى عالم الإفتعال. إن الشاعر الحق هو من يكتب الشعر بالقصيدة و في القصيدة و لا عبرة من هنا بالطول أو بالقصر ما دام هذا الشاعر شاعرا ينفعل و لا يفتعل. و لقد كتبت فيما كتبت قصائد طوالا و أنا أخضع لما كنت أتلقاه حين الكتابة من الانثيال الشعري كما كتبت قصائد قصارا و أنا أقنع. بما تجود به علي اللمحة الدالة و الإشارة الخاطفة.

أما المسرح الشعري فقد فكرت فيه حينا من الدهر، و ما زال يشغلني بأطيافه و أنوي إن قُدِّر لي من العمر الشاعري متسع، أن أكتب فضاءه بالذي أملكه من الفكر و الشعر.