الروائي فاضل السباعي : أنتصر للأطفال و المرأة و الفقراء والمضطهدين (2-2)

الروائي فاضل السباعي : أنتصر للأطفال و المرأة و الفقراء والمضطهدين (2-2)

فاضل السباعي

scs-net.org‏@‏Fadsibai
 

أجرى الحوار : ميساء نعامة 

والأطفال؟.. رأينا لك كثيراً من القصص أبطالها من الصغار

في عام مضى، قلت في حوار لي نشر في مجلة "الهلال" المصرية (سبتمبر 1975) إني أحب "الصغار والنساء والفقراء" (وقد أضفت إليهم فيما بعد: المثقفين المضطهدين أيضاً). وإني أنتصر لهم في أدبي.

في حبي للصغار كتبت منذ البداية كثيراً من القصص عنهم. وقلما خلت مجموعة لي من قصص أبطالها أطفال. وهي قصص عن الصغار وإن كانت موجهة إلى الكبار. وقد جمعت طاقة منها في كتابي "رحلة حنان"، وإنما قصدت بهذا العنوان أني والقارئ نقوم معاً برحلة حنونة في عالم الصغار!

ورصيدي من قصص الطفولة جعلني أصدر، في الدار التي أسستها قبل خمسة عشر عاماً، "سلسلة قصص وحكايات، واقعية ومتخلية، عن الإنسان وعن الحيوان، للصغار وللكبار أيضاً، سميتها باسم "أعظم رواية عرفها التاريخ: شهرزاد العربية: وعلى وجه التحديد: "شهرزاد الـ21". أصدرت منها أربعة عناوين، اثنين من نتاجي والآخرين بقلم الأديبة رامه عمر باشا الإدلبي، وقد جاءت السلسة بطباعة فاخرة ورسوم أبدعها فنانون بارعون، وأشرفت على السلسلة هيئة استشارية، في طليعة أعضائها الأساتذة: محمود السيد وغسان السباعي وليلى صايا وسمر الفيصل وعفاف لطف الله.

هذا عن الأطفال والنساء.. وكيف ترجمت حبّك للفقراء فيما كتبت من قصص وروايات؟

لن يكون الأدب مؤثراً أو فاعلاً ما لم ينتصر للضعفاء والمقهورين. وما زالت هذه الفئات الثلاث هي الحلقات الأضعف في مجتمعات العالم بأسره. ويقينا لن يكون للأدب أي تأثير إذا ما تراءى للكاتب أن يلتزم جانب الأغنياء المستغلين أو الأقوياء المتغطرسين.

أبين هنا أني نشأت في حي شعبي بحلب. يسمى "ورا الجامع" (شمالي الجامع الكبير)، وفي حارة يطلق عليها "زقاق الزهراوي". ومن طريف الأمور أن البيت الذي كان يسكنه الشاعر المتنبي حسب آخر القراءات، هو على مرمى حجر من البيت الذي اكتحلت فيه عيناي بالنور! وفي هذا الحي، كما في السوق الذي كان أبي يعمل فيه نهاره ويصحبني لمساعدته، عايشت البسطاء والشعبيين والفقراء فأحببتهم، ومنهم بدأت باستحياء بواكيري القصصية والروائية, وما أزال، فجاء أدبي معطراً بالروح الشعبية. ولم أعتنق "الأيديولوجية الطبقية". لذلك كانت قصصي ورواياتي –كما لاحظ قرائي- سائغة وحميمة.

وقد أضفت، بعد أن مضيت في دربي هذا عشر سنين أو نحوها، الفئة الرابعة: المثقفين المضطهدين (بالفتح) ومن هم في الطرف المقابل: "المثقفين" المضطهدين (بالكسر). فظهر في أعمالي المثقفون المبدعون كما في روايتي "رياح كانون"، والمناصرون للحرية كما في مجموعتي "حزن حتى الموت", أولئك الملاحقون، المعاندون، الذين يقضون في  سبيل الرأي تحت سياط الجلادين أحياناً.

لقد قبضوا، في قصة "الصمت والموت"، مساء يوم، على الطالب الجامعي المسالم ظناً منهم أنه ارتكب أمراً إذَّاً. وتحت التعذيب يموت الفتى بين أيديهم سويعة الفجر، وفي الصباح يكتشفون الفاعل، فيحملون الجثة إلى الأب معتذرين، عن خطاً في الظن، وعن خطأ آخر في التقدير (تقدير مدى تحمل الفتى المستجوب للتعذيب). هذه القصة اختارها يوماً المستشرقون السوفييت واحدة مع بضع عشرة قصة سورية، ترجموها إلى الروسية ونشروها في كتاب بموسكو حمل عنوان قصتي التي جعلوها القصة  الأم, معدلين العنوان إلى "الصمت الذي لا يقهر"، وجاعلين لوحة الغلاف مستوحاة من القصة: تمثل الأب الشيخ العربي الحزين وهو يتلمس بكفه وجه ابنه البارد.

أجل إني أنتصر للصغار، وللمرأة، وللكادحين، وللمضطهدين، أدافع عنهم بفكري وقلمي ولساني.. ولينعم الآخرون بالترنم بالشعارات الجميلة.

في هذا اللون من قصصك، يلاحظ القارئ أنك تميل إلى المبالغة في تصويرك للواقع، أو أنك تهجر الواقع إلى الخيال أو إلى الأسطورة.. ما قولك؟

أحرص على القول أني تجاوزت منذ زمن كوني كاتباً سورياً إلى أن أكون كاتباً عربياً، بمعنى أني أرصد هموم الإنسان في الوطن العربي، وكذلك هموم الإنسان في العالم الثالث، وهي هموم تندلق من باب مفتوح على مصراعيه لتنصبَّ حمماً على رؤوس البشر، مما يحتم على أنصار الكرامة الإنسانيّة أن يستنفروا فيتصدوا لهذا الخطر، بالقلم عند حامليه وبغير القلم عند سواهم، وكل ميسر لما خلق له.

ولم يكن لي، وأنا أعالج هذه الموضوعات الحساسة، أن أنهج مذهب الواقعية في الحكي والقص والرواية، لذلك فإني ألجأ إلى الخيال المجنح، الذي تكون المبالغة والتهويل بعض عناصره، وذلك نجاة بالنفس، وبالأدب أيضاً، من المعاتبة والمعاقبة، متخذاً من
"الفنتازيا" أسلوباً يحقق لي المراد. ولما قرأ أحد الناشرين الفرنسيين وهو بدمشق، قصة لي من هذا اللون مترجمة إلى الفرنسية (في كتاب مختارات من القصة السورية صدر في جنيف في وقت مضى بعنوان "نسغ ورمل") بادر إلى تكليف من قام بترجمة كتابي "حزن حتى الموت" (مهمة قامت بها الكاتبة المغربية "ناديا رمزي" ونشر في العام 2002), قائلاً: لي: إن هذا اللون من القصص مرغوب فيه بفرنسا.

وأروي لك أن مستعرباً في استوكهولم، كان يبحث عن موضوع يدير عليه أطروحته. فلما قرأ قصتي "البحث عن وطن" ( في مجموعتي "آه يا وطني") أكب على قراءة كل ما وجده من أعمالي في مكتبة الجامعة، ثم اتصل بي إلى بيتي هاتفياً, وزارني بدمشق، وأجرى حواراً معمقاً، اعتمد عليه لدى وضعه أطروحته. وسوف تنشر الأطروحة في كتاب بالعربية، والعنوان "رسالة في فن الغرائبية في قصص فاضل السباعي". والمستعرب هو فيليب سايار. وحواره نشر في مجلة "سطور" المصرية.

يقال أحياناً: إن أدب هذا الكاتب من "السهل الممتنع" وإن أدب ذلك الكاتب من "الصعب الممتنع". ولكن كتابات فاضل السباعي، الغنية بمفرداتها الجزلة والتي يصعب على القارئ أحياناً فهم معانيها فيلجأ إلى المعجم، هذا ما حدث لي فعلاً أثناء قراءتي لأعمالك.. إن أدبك رغم هذه المفردات أو بسببها ممتع لقارئه، هل أصفه بأنه من "الصعب الممتع"؟

أقول أولاً إن الكتاب السوريين، وبمعنى أشمل وحسب التعبير المصري "الكتاب الشوام" معروفون بتقديرهم للغة العربية وبإتقانها، مثل ابتعادهم عن اتخاذ اللهجات المحلية لغة للحوار بين شخوصهم القصصية بصورة عامة.

وإني، منذ بدأت أتعرف على قواعد اللغة العربية تلميذاً في الابتدائية، أحسست حباً لها. والمفردات الدقيقة والمترادفات الأنيقة، أختزنها في صدري لتتسرب في أثناء الكتابة إلى سن القلم.

وما زلت أسمع ثناء على لغتي الأدبية، فإني رأيت بعض القراء يعجبون بما يجدونه جديداً عليهم من المفردات، وإن منهم يقول لي: أنت تعلمنا مفردات نجهلها! وأما الذين في نفوسهم.. فإنهم يقولون: لغة منفلوطية!

حلب مدينة الإبداع والمبدعين... ما تأثير هذه المدينة العريقة في أدب فاضل السباعي؟

أجل، إن حلب مدينة عظيمة، ولتذكر أنها كانت زمن العثمانيين أكبر ولاية في الإمبراطورية، فقد كانت تضم المساحات الشاسعة، من خليج الإسكندرونة إلى سهول الجزيرة وصولاً إلى مدينة الموصل العراقية، كما تضم مناطق واسعة من جنوب تركية اليوم.

والحضارة في حلب عريقة، وقد كانت حلب الثغر الأول زمن الإمبراطورية العربية على حدود بيزنطة (دولة الروم)، وزادها طريق الحرير فيما بعد غنى اقتصادياً وازدهاراً. وقد سكن جدي الأقرب (الحاج سليم المفتي السباعي) حلب قادماً من حمص أيام الحرب العالمية الأولى. وفيها زادت ذريته (لوالدي في حلب اليوم ما يقارب مئة من الأحفاد والأسباط!). عندما أزور حلب مسقط رأسي، لا يفوتني أن "أتمشى" حول القلعة الباذخة، قبل أن أدخل "سوق المدينة" عبر سوق الزرب، حتى "باب أنطاكية"، أستنشق عبق التاريخ وأنفاس الحياة الشعبية.

وفي حلب الأدب الفن والطرب والعمارة، وفن الطبخ أيضاً. وحلب أطلعت من الفنانين عمر البطش، وصبري مدلل، وصباح فخري، وشادي جميل، والميادتين حناوي وبسيليس. وفي مجال الشعر والأدب والفكر منها: عمر أبو ريشة، وسامي الكيالي، (صاحب مجلة "الحديث") وخير الدين الأسدي (موسوعة حلب المقارنة)، ومظفر سلطان (رائد القصة القصيرة السورية)، وشكيب الجابري (رائد الرواية السورية المعاصرة)، وخليل الهنداوي، والجاران: عبد السلام العجيلي (من الرقة) وحسيب كيالي (من إدلب). ومن الفنانين التشكيليين: فاتح المدرس، والفريد بخاش، ولؤي كيالي، ورولان خوري، وسامي برهان، وسعد يكن، ووحيد مغاربة، وعلي حسين، وغيرهم كثير، ومنهم الشقيقتان التشكيليتان سهير وخلود السباعي وأنت تعرفينهما!

التأثير؟ أدين لمسقط رأسي بنمو الأحاسيس والفكر واكتساب الذكريات وبزوغ موهبة الكتابة وأنا في الإعدادي. وأحسب أني رددت إليها بعض الفضل بما استوحيته منها من بواكيري الأولى. ولدمشق التي احتضنتني أربعين عاماً أدين بالنصف الآخر من الفضل.

أستاذ فاضل: قبل نحو ثلاثين سنة أقمت في باريس مدة، فأوحت لك قصصاً نزلت في مجموعاتك "الابتسام في الأيام الصعبة" و"الألم على نار هادئة" وغيرهما. أنت تعتزم السفر قريباً إلى الولايات المتحدة الأمريكية، هل في النية كتابة بعض القصص من وحي لوس أنجلوس، حيث تقيم ابنتك الفنانة التشكيلية سهير السباعي؟

الكتابة مرهونة بأمور قد تخرج عن الإرادة. ولكن ما أعرفه في نفسي أن البيئة التي أستظل بها قادرة على أن تفعل في نفسي. إن القاهرة، التي قضيت فيها سنوات الدراسة الجامعية الأربع بكلية الحقوق, أوحت إلي روايتي "ثريا" وغيرها من القصص القصيرة. وعن بعد، وقبل أن أزور ألمانيا (الغربية)، كنت قد استوحيت "الظمأ والينبوع" مما وقع لأحد إخوتي الذي كان مقيماً هناك. وكتبت عن بعض الزيارات، التي قمت بها إلى شرق وغرب، انطباعات سوف يجمعها كتاب يندرج تحت أدب الرحلات.

ولعل ما سوف أستمتع به، في "الجلوس على شواطئ لوس أنجلوس" يوحي إليَّ انطباعات ترقى إلى مستوى القصص... ادعي لي، يا ميساء!

* كلمة أخيرة ليست سؤالاً: ما اطلعت عليه من حواراث معمقة سبق أن أجريت معك ونشرت في مجلات: "الموقف الأدبي" و "سطور" (المصرية) و "الرافد" (الشارقة)، و "البيان" (رابطة الأدباء في الكويت) شجعني على أن أحاورك، في ذلك اللقاء التلفزيوني الذي بث من القناة الأولى بدمشق مساء 21 آذار الماضي (عيد الأم العربية)، كما شجعني الآن على إجراء هذا الحوار، الذي أراه "ساخناً"، أي مماثلاً لتلك اللقاءات، شكراً لك، أستاذ فاضل السباعي، وأتمنى لك سفراً موفقاً.

- شكراً لك، أخت ميساء.