محمد الحسناوي

حوار مع الأديب الشاعر

محمد الحسناوي

حاوره : محمد علي شاهين

منذ أول الكلمات تدفقت على لسان الأديب في "جسر الشغور" في سوريا وبقيت تنساب شعراً أو نثراً, وتتجلى في مجموعة من الدواوين. والروايات والقصص القصيرة والدراسات الأدبية, وقصائد الأطفال.. والتي تتجسد لتشكل معاني وأفكاراً تعبر عن المعاناة الإنسانية, وتأثرها بعامل الطبيعة ووسائل الإنتاج والقهر الاجتماعي والسياسي, ودور العوامل الخارجية في تكوين الإنسان, وينحاز في النهاية إلى التصور الإسلامي الذي يجعل الدور الحاسم فيها لإرادة الإنسان.

ويسرنا في "السبيل" أن نقدم حواراً وعلى حلقتين مع الأديب والشاعر والروائي السوري محمد الحسناوي والذي يلخص به تجربته الإبداعية.

* الأستاذ الحسناوي: هل تتفضل فتنقلنا إلى مرابع طفولتك في مدينة "جسر الشغور" وتحدثنا عن أثر جمال البيئة التي نشأت فيه في جمال لغتك الشعرية والنثرية?

- إنها مجموعة سفوح, تغتسل أقدامها في مياه نهر العاصي, وتحيط بها إحاطة السوار بالمعصم.. البساتين والكروم.. أما قراها وضواحيها, فمتنزهات ومرابع اصطياف واستجمام. وإن أنس لا أنس ضاحية "اشتبرق" التي تعودت الاختلاف إليها في سويعات الشعر وشؤونه, والسواقي تترنم بأشعار الفطرة البكر, سقى الله تلك الأيام, ورعى عهودها, فقد غال الجنات والينابيع من بعدي غول.

فمن شعري المبكر المتأثر بجمال الطبيعة قولي في قصيدة "لوحة" وأنا في الصف الأول في جامعة دمشق:

في "الشيخ محيي الدين" بيتي عبر أهدب السحابِ

أنـيَّ رنـوت تنفست حـولي أضـاميم القبابِ

وتنـهدت حـور المآـذن  بالتسابيح العـذابِ

وأنـا وكـل دفـاتري شفة على تـلك الخوابي

على أن للطبيعة في شعري نموذجين إحدهما استخدمها مادة رمزية لتجسيد الأفكار والمعاني, أي لا تقصد بذاتها, بل بما توحيه وتشير إليه من بعيد, وديواني "عودة غائب" حافل بالأمثلة, ففي قصيدة "زهرة" تشعر الزهرة وتفكر وتألم وتفرح حول غياب الإسلام وعودته, مثل ذلك قصيدة "البحر الظامئ" و"القطيع" و"الكبش". انظر مثلاً المقطع الأخير من قصيدة "عودة الليل" والليل هنا الظلم والاستبداد والجاهلية..

والفـجر يا للفجر.. أغنـيتي, وأغنية الجدودِ

ستعود بسمته ترفرف في الوهاد.. وفي النجودِ

ستـقبل الأنـسام بـعد النأي أعناق الورودِ

سيـغرد العصفور للـحقل الملوّح بـالحصيدِ

سيضـاحك النـهر الظلال على محياه السعيدِ

وستـقبل الأغـنام  تـتلو للربى أحلى نشيدِ

وأنـا وأنـت وأمـتي مـيعادنا نقرات عودِ

اللـيل طال .. فأشرقي يا بسمة الفجر الفقيدِ

النموذج الثاني لانعكاس الطبيعة على شعري هو تجلي الطبيعة الحقيقية من أزهار وأشجار حقيقية لا مجازية وهذا أظهر ما يكون في شعري المتأخر الذي خصصته لأحبابي الأطفال, فهناك مجموعة لي مخطوطة بعنوان "العصافير والأشجار تغرد مع الأطفال":

ما أجمل  هذا العصفورْ     في فـمه شيء من نورْ

أيقـظني لحن مسحور     ينـقر ينـقر  في بلورْ

ريـش زاهٍ بـالألوان     أصـفر أحمر كالرمانْ

في عيـنيه حبوب جمان    تكسب في قلبي الإيمانْ

لا تؤذوا هذا العصفور    يـشبعه حـبّ منثورْ

بـاسم  الله يدور يطير   ويُـطالبُـنا بالـتفكيرْ

قد تقول: إن التأمل أو التفكير لم ينقطع حتى في شعري للأطفال مثل قولي: "يطالبنا بالتفكير" "يسكب في قلبي الإيمان" وأقول لك: إن التصور الإسلامي أيضاً يؤاخي بين المخلوقات، بين الإنسان ومفردات الطبيعة, فجعلي الزهرة أو البحر أو الكبش مخلوقات تحس وتفكر أو تسبح لله تعالى, هو من صميم التصور الإسلامي, لكننا لا نفقه تسبيحها! ﴿وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم﴾.

ذلك في شعري أما في نثري فالحديث عن أثر الطبيعة يطول, سواء في ألفاظ التعبير أم في الأخيلة والأجواء والموضوعات. في مجموعتي القصصية "بلد النوابغ" أمثلة كثيرة لهذا وذاك وذياك. انظر مثلاً قصة "فاكهة السوق" أقول فيها: "وهكذا يفيد حامد من توتر العلاقة مع والده, ويخرج إلى قرية اشتبرق وحيداً, يلقي نفسه في أحضان الطبيعة: الماء العذب البارد ينبثق من كل ناحية سبائك وشلالات. أشجار التين والصفصاف تظلل الفياض كالمقاصير هنا وهناك. وتكتمل بهجة حامد بكتاب أو مجلة جديدة. هكذا كانت الموازنة لديه: إما السوق وإما الريف. إما الجحيم وإما النعيم" على العكس من ذلك وصف الطفل البائع الفشاش ففي القصة نفسها "وجهه غائم الملامح كأنه قطعة مطموسة من جريدة يومية.. حدق حامد في عيني الطفل. نقطتان سوداوان واجمتان, جامدتان جمود الصخر البازلتي", وعلى العكس من هذا الطفل نجد صورة الطفل البريء الذي لفت نظر حامد في قصة "أيهما الأجمل":

"الغصن اللدن المتدلي فوق طيات الموج، سخر من تعليلات حامد لنفسه, وأكد له أن ما بينه وبين الطفل الأشقر من قرابة كافٍ للدلالة على أن التجربة ذات استقطاب مستقل. أمواج الماء البلورية الصافية الضاربة إلى الزرقة تواضعت أما طيف الحدقتين الزرقاوين الناعستين في "محطة الحجاز" ثم قال: إن الطبيعة الصامتة بشمسها وأقمارها وأنهارها ليست أجمل من الإنسان. وأي إنسان? طفل!" هل استطعت أن أجيب على بعض السؤال الخصب?!

* قلم الشاعر, واتجاهه الفكري ترسمه عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية متشابكة, فهل تشعرون بأثر هذه المؤثرات على إنتاجكم الفني?

- هذه مقولة طويلة عريضة تحتاج إلى تدقيق إذا أخذت مأخذ البحث عن العقيدة وأثر الإرادة الإنسانية فيها وأثر عوامل الطبيعة ووسائل الإنتاج والقهر الاجتماعي وغير ذلك من عوامل خارج الإنسان الفرد أو المجتمع. إن التصور الإسلامي يشير إلى دور العوامل الخارجية في تكوين الإنسان (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) لكن التصور الإسلامي يجعل الدور الحاسم لإرادة الإنسان نفسه في النهاية، لأنه مسؤول عن قراره واختياره، لذلك كان العقاب وكانت المكافأة ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأنَّ سعيه سوف يُرى﴾.

لذلك أسارع فأقول: إن حكاية علي بن الجهم المزعومة مع الخليفة المتوكل حين جاءه من البادية يمدحه:

أنت كالكلب في حفاظك للو      د وكالتيس في نطاح الخطوبِ

فاستقبح الخليفة هذا المديح، فنصحه جلساؤه بإدخاله إلى القصور والنعيم, ثم يستمع له فقال من أعذب الشعر:

عيون المها بين الرصافة والجسر     جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

إنها حكاية مختلقة فيها الطرفة وليست الحقيقة، لأن الشاعر ابن الجهم، وهو شاعر أهل السنة والجماعة لم يكن بدوياً, بل من أقرباء الخليفة نفسه.

وإذا صح أن هناك مدرسة شامية في الشعر العربي وديباجته يمثلها كل من أبي تمام والبحتري, فأظنني أقرب إلى أبي تمام في الأسلوب من أبي عبادة البحتري، فاحتفائي ليس في ماء الصياغة, بل يتعدى إلى ما وراء ذلك. من معان وأفكار, هذا الاحتفاء الذي يسمو بالشعر أحياناً إلى القمم, وينحدر أحيناً إلى ما دون ذلك قال البحتري: "جيد شعر أبي تمام خير من جيدي ووسطي ورديئي خير من وسطه ورديئه". ولهذا جاءت مفردات الطبيعة في ديواني "عودة الغائب" تجسيداً للأفكار المجردة ورموزاً لها.

زهرة من ألف زهرةْ    حلمت للروض فكرةْ

كيف تشدوها لحوناً    وعلى الأكمام صُفرةْ

يا بنات الشوق هلا    ذكر الغائب هـجرهْ

كيف لا يذكر كرماً    كـان دنياه وخمرهْ !

نعم إني أحس بأثر هذه المؤثرات على إنتاجي الفني لفظاً ومعنى, لكنها لا ترسم اتجاهي الفكري. إن قصيدتي "إنسان العصر" خير جواب فني على هذه المسألة الخطيرة اعتقادياً وفنياً:

شريعة حب تُؤاخي النجومْ     على صفحة النهر منذ الأزلْ

وتـنثر في الكون سر الحياة    بأبسط رمـز وأحـلى مثلْ

ونحن كما نحن عميُ  العيون    يـغررنا  بـأسـنا  المُنتحلْ

نـظن الطبيعة صنـع يدينا    إذا منـحتننا الكسا  والنعلْ

* يشعر قارئ الأستاذ الحسناوي أنه يريد أن يعبر بصراحة عن قضية الإنسان المعذب المقهور, فما هي حقيقة هذه المعاناة?

- معاناة الإنسان في هذا العصر متنوعة فردية وجماعية, جسدية ونفسيه, وهي هي نفسها معاناة البشر في كل عصر, وربما كانت في هذا العصر أقسى, الذي تقدمت فيه وسائل القهر والكبت والاستلاب مع تقدم وسائل الرفاهة والعيش.

إنني واحد من الناس هؤلاء عانيت على مختلف المستويات والأبعاد، ففي ديوان "في غيابة الجب" المنشور عام 1968 تجربة عبرت عن معاناتها بديوان كامل لدرجة اضطررت حينها إلى نشر الديوان باسم مستعار "محمد بهار". أما روايتي "خطوات في اليل" فتجربة أخرى سكنت (333) صفحة من الحرف الصغير والرعب الكبير.

لا أحب أن أشغل غيري بمعاناتي التي يمكن مراجعتها في مظانها, لكنني أشير هنا إلى معاناة الإنسان المعاصر, كل إنسان في هذا الزمان:

أحس ضـياعاً يلف كياني     ويحـجبني عن بصيص الأملْ

أحس دمـاراً وراء الستار     يدك الجبال , ويطوي الدولْ

أحـس بـأنـيَ والعالمين      نخوض  البحار ونخشى البللْ

أحس الغرور  يشق الجلود      يـهز الوجود , يثير الوجلْ

أحس بـأنيَ عـبد الجنون      فـإما "إلـه" وإمـا "هملْ"

ولعل أبرز وجه من وجوه المعاناة الإنسانية اليوم هو طغيان الزيف الذي هو نقيض الوعي, وأنا منذ وعيت الحياة أسير في سلسلة من الاكتشافات التي تزيح الزيف وتزيد الوعي. لعل أكبر اكتشاف في حياتي كان وقوفي على الفرق الهائل بين الإسلام في حقيقته وبين واقع المسلمين المنتسبين إليه, أضف إلى ذلك زيف المدينة الغربية والإعلام العالمي، واتهام الإسلام المظلوم البريء بتهم الإهاب والتخريب, وهو دين السعادة للبشرية جمعاء، دين السلم والسلام, سلم مع النفس ومع المجتمع ومع البشرو مع رب العالمين, وهو السلم القائم على العدل والإيمان والقوة المشروعة والحرية المسؤولة:

والذي يمسك الدمار  عن الكو        ن..  ويجـلو جهامة  البأساءِ

فـارس, ساحر, عـريق البهاءِ         مـؤمن , عادل نبيّ السخاءِ

فيـه من جذوة  الشّموس نهار         ومـن البأس شدة الصحراءِ

بيـتُه في الحجاز عـرش منيف         وهـواه في حـالق الجوزاءِ

سيعـود الحبيب  عود السنونو         وتـعود  الحياة عود الضياءِ

* أيهما في نظرك أشد على نفس الشاعر: الإرهاب الفكري الذي يمارس ضده أم الإرهاب الجسدي, وهل تعرضت لمثل ذلك?

- الإرهاب هو الإرهاب فكرياً كان أم جسدياً.. ويؤسفني أن يشيع هذا المصطلح لدرجة تكاد تحجب المعنى الشرعي في قوله تعالى: ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم﴾, وقل مثل ذلك في لفظ "الاستعمار", قال تعالى ﴿هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها﴾, وهذا جزء من طغيان الزيف الذي أشرنا إليه, الذي هو جزء من معاناة الإنسان في هذا العصر, وفي مؤلفاتي الشعرية والقصصية انعكاس لهذه التجارب القاسية التي تعرضت لها, أقول معبراً عما عانيت وهو جزء من معاناة أمثالي بغير مبالغة أو غرور:

يا همـوم الحياة  فُكّي أساري       وارتـكيني  لحـومتي ونِـفاري

أنا  كالنسر أرقب  الجرذ تلهو       بـفراخي, تـعض  من  أظفاري

تبـتني جـحرها بمفرق رأسي       وتـذود  الـهواء  عن  منقاري

يا همـوم الحياة شدي إساري        لست أرجو ولا عليكِ انتصاري

إن قـلـباً سمـا إلـى  الجبار       لَمُـطيح  بـغـارة  الأخـطارِ

* هناك محاولات تعتيم يائسة تستهدف الأدباء والشعراء الإسلاميين بعد النجاح الذي أحرزه الإسلاميون في المجالات كافة, فهل هذا التعتيم جزء من المعركة القائمة?

- معالجتي لهذه المسألة لا تكتفي بالوقوف على الأطلال، أو إسقاط عجزنا على الآخرين, لقد أفلح المرحوم مالك بن نبي حين لخص مشكلتنا بالقابلية للاستعمار, إن العدو هو العدو, لا يُنتظر منه أن يرحمنا أو أن ينصفنا, وإن الاستعمار لا يغضب حينما تشتمه أو تسبه, إنما يغضبه نشر التعليم وبناء المصانع, والاكتفاء الذاتي والاستغناء عنه، لا أن تظل زبوناً دائماً عنده, وبمعنى آخر إن إبداع المبدعين لا يبطله عداء الأعداء وتعتيم الخصوم, قد يؤخر انتشاره, أو يعرقل مسيرته كما أن جهود المروجين لا توجد مبدعين من العدم, أو تستر عوار الأدعياء بالغرابيل, قد يظهر الزيف, ويطغى لكن حبله قصير، لأنه حبل كاذب, أو مجدول من أكاذيب, فلننشغل بالجانب الذي يخصنا، وهو تجديد العمل الفني والأدبي، والاستمرار في العطاء، وقبول كل معارك التحدي والبقاء لأنها سنة الحياة التي فطر الله الناس عليها, وبذلك يتميز الخبيث من الطيب, والبقاء للأصلح, ألم يقل شاعرنا الحكيم أبو تمام:

وإذا أراد  الله نـشر فـضيـلة     طويت, أتـاح لها لسانَ حسودِ

لـولا اشتعال النار فيما جاورتْ     ما كان يُعرف طيبُ عَرْفِ العود

وقصة الشهيد سيد قطب رحمه الله وأدبه وفكره مع أعدائه وخصومه أمثولة بارزة للعيان.

ولأمر ما ولحكمة ربانية لقي الأنبياء والرسل عليهم السلام العنت والاضطهاد, كما لقي الرواد والعظماء العقوق والرفض, ولكن جاء اليوم الذي صحت فيه الموازين، وتم الاعتراف بنبوة الأنبياء وعطاء الآخرين من الأدباء والعلماء والحكماء, وهذا هو الفرق بين الأدب الهادف البناء كالأدب الإسلامي الذي يسبح ضد التيار, وبين الأدب الهابط الذي يتملق التيار ويستنيم له.

إن اعتراف الآداب الأجنبية بشاعرية محمد إقبال -وهو شاعر الإسلام- أمر مشهود مستمر, أما سليمان رشدي وأمثاله فألعوبة استفزازية لا غير, وسوف تموت آثارهم مع موتهم, كما هي العادة مع البضاعة الرخيصة, والأدب الدعائي لا غير, خذ هذا الدرس من إقبال رحمه الله:

شكا غزال إلى آخر همه فقال:

من الآن سأتخذ لي كناساً في الحرم

فالصيادون في الصحراء بالمرصاد في كمينهم

وهناءة الغزلان لا صبح لها ولا مساء

أريد الأمان من حبالة الصياد

أريد تحرير قلبي من صنوف العناء

فقال له صاحبه: أيها الصديق العاقل,

عش في الخطر إذا كانت لك إرادة.

أُخْبُرْ -كل لحظة- مَعدِنَ ذاتك بمحك الخطر,

وعش أحد من سيف نقي الجوهر

فالخطر امتحان للمقدرة والطاقة,

وهو عيار الممكنات من جسم وروح.

* نشرتم دواوين شعرية عدة ومجموعات قصصية, وصدرت لكم في الآونة الأخيرة رواية سياسية جريئة, فما العمل الأدبي الذي تعتزون به؟

- في الواقع إن إنتاج الكاتب أو الشاعر مثل أولاده ولا يستطيع أن يميز بينهم, ومع ذلك حين سئل العقاد: أيهم تفضل العقاد الشاعر, أم العقاد الكاتب, أجاب العقاد الشاعر, ومعلوم أن شعره أقل وأضعف من نثره.

وإذا كان لي أن أضيف شيئاً لا يلغي هذه الموحيات, فإني أشير إلى كتاب نقدي هو ثمرة جهودي الفنية والأدبية ألا وهو كتاب "الفاصلة في القرآن الكريم" الفاصلة هنا: كلمة آخر الآية كقافية الشعر وسجعة النثر, هو كتاب نقدي لكنه استجابة فنية لتجارب ومطامح أدبية وشعورية لا تقل خصباً عن تجارب الأعمال الأدبية الأخرى, نلت فيه شهادة الماجستير, وكنت آمل أن يكون مدخلاً إلى دراسات قرآنية أخرى كالسورة في القرآن الكريم.. لكن..

وبمقدار اعتزازي بهذا الكتاب، بسبب إشباعه لاهتماماتي الفنية والأدبية، أعتز به عملاً إسلامياً أحتسبه عند الله تعالى في خدمة القرآن الكريم وتجلية بعض مظاهر الإعجاز فيه, وقد وفقت فيه إلى عقد مقارنات أدبية نقدية بين موسيقى القرآن الكريم في الفواصل وبين الشعر العربي قديمه وحديثه, فوقفت على قيم تعبيرية تسهم في تطير الأدب العربي الحديث, كما أسهمتْ في ظهور الموشحات الأندلسية وغيرها من الطوابع الأدبية قديماً.

اكتشفت أن هناك كتباً مخطوطة عُنيتْ بفواصل القرآن وحدها, هذا فضلاً عن تعميق فهمنا للتكرار الفني في كلمة الفاصلة وحدها, أو مع جزء يقصر أو يطول من الآية الكريمة, أو تكرار آية أو آيتين أو مقطع مؤلف من عدد من الآيات, وعلى ضوء ذلك تمت مناقشة كثير من الآراء والنظريات اللغوية والأدبية النقدية عند الشاعرة نازك الملائكة والدكتور عز الدين إسماعيل وإبراهيم مدكور وعدد من الشعراء المحدثين.

* بدأنا نقرأ لكم قصائد جميلة ورائعة للأطفال, فما سر هذا التحول نحو أدب الطفل العربي?

- أخي وصديقي الأستاذ عبد الله الطنطاوي الأديب المعروف دعاني للإسهام معه في الكتابة لمجلة الأطفال التي يعمل رئيس تحرير فيها, فترددت قليلاً, وحينما استجبت له اكتشفت في نفسي ما اكتشفه المرحوم علي أحمد باكثير حين جرب نوعاً من الكتابة المسرحية لم يكن يتوقعه, وهكذا نظمت ما لا يقل عن خمسين قصيدة غنائية للأطفال حول المدرسة والقلم والكتاب والفصول الأربعة والعصافير وثماني قصائد حوارية بين الأطفال والحيوانات الأليفة وغير الأليفة, وبالمناسبة إن مكتبة الطفل العربي المسلم فقيرة, وإن عمر الطفولة مهم في حياة الإنسان وتكوينه, عنيت به الأمم الحديثة, كما عني به الإسلام والتربية الإسلامية لما كانت هناك تربية إسلامية، انظر وصايا لقمان لابنه في القرآن الكريم, وانظر الأحاديث الشريفة في ذلك، وانظر كلام الإمام الغزالي وغيره من أعلامنا.

لقد آن الأوان لينال طفلنا حقه من العناية والقصيد والنشيد والحواريات والقصص الجميل, وليست الأمية وحدها التي تفترس أجيالنا الطفلية.

إليك هذا المقطع الحواري بين الطفل والحصان:

الطـفل:

مـا الأدهــم مـا آلادهـم       إلا جَــــواد أســودُ

هـل يـرتـضـي عـنترة         ما يَـرتـضيه الأعـبُـدُ

الحصان:

ما غـض مـن عـنترة  سوادُ       ولا ازدهـى بِلـونِه الجرادُ

المـسـكُ فـاحَ عـطرهُ الوقادُ       مـا عابـهُ لون  لا اسوِدادُ

وكـلـنـا لِـربِـنـا عِـبـاد        وهــل لـنا إلا  تُقاه زادُ

* هل تحدثوننا عن أعمالكم الأدبية ومشاريعكم القلمية?

- هناك ثلاثة كتب قيد النشر, أحدها "صفحات في الفكر والأدب" نشره الأستاذ محمد علي دولة في "دار القلم" واثنان للأطفال أحدهما بعنوان "البلابل تسبح الله" ينوي الناشر ترجمتهما إلى اللغة الإنجليزية, ولدي مجموعتان قصصيتان إحداهما "بلد النوابغ" نشرت نهاية عام 1999، والأخرى مخطوطة "قصص راعفة"، بالإضافة إلى مسرحيتين "إبراهيم هنانو في جبل الزاوية" و"ضجة في مدينة الرقة" نشرت في مجلة "الأدب الإسلامي" الزاهرة, وكذلك إلى ذلك مجموعة شعرية للأطفال, بعنوان "العصافير والأشجار تغرد للأطفال" فازت بجائزة رابطة الأدب الإسلامي في شعر الأطفال, وسوف تنشرها الرابطة قريباً.

إنني غير راض عن نفسي, عن انشغالي بشؤون بعيدة كل البعد عن القراءة والكتابة الأدبيتين, لكنن لا اعترض على قضاء الله تعالى وقدره, أدعوه عز وجل أن يعينني على نفسي وعلى هذه المشاغل والصوارف.

أتمنى أن أعكف على كتاب "السورة في القرآن" الذي بدأت العمل به منذ سبع عشرة سنة ولم أستأنف ما بدأته حتى الآن.

إن حياتنا الخاصة والعامة غنيتان بالموحيات، وبكل ما يحفز على التأليف والكتابة, لكن المعوقات أيضاً كثيرة, ولعلها ضريبة على المبدعين لا بد منها, واشتكى منها القدامى, وسيظل يشتكي منها المحدثون, وهذا وحده عزاء.

* المدرسة الفكرية والأدبية التي تعتزون بالانتساب إليها . هل تتوقعون لها مستقبلاً زاهراً?

- سأستعير هنا شهادة لغيري من الأدباء. في صيف 1975 لقي نفرٌ من الأدباء والأصدقاء "إبراهيم عاصي, عبد الله الطنطاوي" الشاعرة النقادة المبدعة نازك الملائكة في مصيف بحمدون مع زوجها عبد الهادي محبوبة عرفت أننا من الأدباء المسلمين, فقالت: القرآن الكريم روحي, المستقبل للأدب الإسلامي. هذا كلام أكبر شاعرة عربية معاصرة, وناقدة أدبية من الطراز الرفيع, ولعلك تعلم أنها اتجهت أيضاً إلى الأدب الإسلامي منذ تصديها للمذهب الوجودي في أدبنا الحديث بعد نكبة حزيران عام 1967، وألقت محاضرتها المعروفة في مؤتمر الأدباء ببغداد, ثم أخرجت مؤخراً ديواناً لها بعنوان "النهر لا يغير مجراه", شفاها الله تعالى وأمتع الأدب العربي بإبداعاتها المتميزة.

* من الشاعر المعاصر الذي يستحق أن يبايع بإمارة الشعر, بعد أن أصبح هذا المنصب شاغراً?.

- ليس في الأدب مناصب, كما في شؤون الحياة الأخرى, هناك تفوق وهناك شهرة وتميز وغير ذلك.

إن مبايعة المرحوم أحمد شوقي بإمارة الشعر العربي حدث ضخم فريد, لم يعرف قبله ولا بعده, هناك من أطلق على امريء القيس أمير الشعر في الجاهلية, وجاء في الحديث الشريف "يحمل لواء الشعر إلى جهنم"، وهناك من أطلق على حسان بن ثابت رضي الله عنه وعلى أبي تمام والبحتري والمتنبي وأبي العلاء المعري أمراء الشعر في زمانهم, وهذا كله من قبيل المواصفات لا غير, أما الشاعر أحمد شوقي فقد اجتمع شعراء مندوبون من الأقطار العربية في مصر، وبايعوه واحداً واحداً بشعر يحفظه الزمان، وحق لشوقي أن يُبايع.

أما من يزعم أن الشعر اليوم في عهد جمهوري, ولا حاجة للبيعة أو للإمارة, فليس هذا هو السبب. هناك أسباب أخرى تحول دون ذلك، منها أن الشعر زاد غناه، وكثرت ألوانه, بوسعك أن تقول: إن عمر بهاء الدين الأميري متميز بشعره الإلهي، وعلي أحمد باكثير بشعره المسرحي، ومحمود حسن إسماعيل بموسيقى شعره وأخيلته الوصفية، والقاضي محمد محمود الزبيري بشعره النضالي, ونازك الملائكة في توطيدها شعر التفعيلة بعد باكثير, وهكذا. أما شوقي -رحمه الله تعالى- فقد جمع معظم هذه الفنون والألوان: تجديداً وتنويعاً, ومن الدلالات التي لا تخفى أن مبايعة أحمد شوقي بإمارة الشعر جاءت في الوقت الذي ضُرِب فيه السلطان العربي والإسلامي بسقوط الخلافة العثمانية, بل إسقاطها, وبتقسيم الوطن العربي بمعاهدة سايكس بيكو المشؤومة, ومع ذلك يقول المرحوم حافظ إبراهيم:

إذا ألمت بـوادي النـيل نـازلـة        باتت لها راسيات الشام تضطربُ

وإن دعا في ثـرى الأهـرام ذو ألم        أجـابه في ذرى  لبنان منـتحبُ

هذي يدي عن بني مصر تصافحكم         فصافحوها تصافح نفسها العربُ

وأنا أقول على لسان الخروف الكبش:

كم طـغى الراعي وتاها     وشـوى مـنا الجِـباها

وأتـي مِـنَّـا كـباشا      ونـعـاجـاً  وشِيـاها

فاطـلبوا الـعدل جميعاً      واجـبـهوا البغي جِباها

إنَّ مـن عـاش خروفاً       مـات شـيّاً  أو قديداً

وسيرعى  الذئبُ  بـغياً     مـا رعى الكبشُ القيودا

فـإذا  مـلَّ  الـقيودا    حـطَّم الظلفُ الحـديدا