الباحثة منى فياض

بعض الشيعة اللبنانيين يتوهمون أن النظام السوري قوة سحرية لهم

صبحي الدبيسي - بيروت

* سألت: كيف يقبل الظلم من يدعي أنه يضع الحسين نموذجاً؟

في كتابها: "معنى أن تكون لبنانياً"، مقالات في حال الوطن وأحوال المواطن، نجحت الكاتبة والأستاذة الجامعية الدكتورة منى فياض بتشخيص الحالة العربية عموماً، واللبنانية خصوصاً، لأن ما يشهده العالم العربي من تجاذبات، وما يحصل في لبنان حالياً ضمن هذا الاتجاه العام الذي ينحو نحو تثبيت الديمقراطية، التي لم تكن مرحباً بها من النخب العربية. واعتبرت دائماً كياناً مصطنعاً وغير شرعي أوجده الاستعمار الغربي عبر تقسيمه أراضي الامبراطورية العثمانية.

ولطالما اعتبر لبنان الكيان الهش والأكثر اصطناعاً، فهو لم يكن دولة شرعية ناجزة، بل مجرد كيان عابر واني ينتظر بلورة ما، فهو بهذا قابل للتغيير بانتظار التوصل الى (الوحدة العربية) غير واضحة المعالم والتي تجسد الحلم بامبراطورية تمتد من المحيط الى الخليج.

ولقد تم التوصل ببطء وصعوبة الى الاقتناع بشرعية وجود هذه الدولة، وهذا الوطن، بالنسبة الى السياسيين أنفسهم بداية وعلى اختلاف مشاربهم. ولذا مهما قيل عن السنوات الثلاث الماضية التي تلت اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ومع صعوبة اللحظة الراهنة، وعدم وضوح منحى لاتجاه الأوضاع ان في لبنان او في المنطقة، فلا بد من ملاحظة حصول تطورات مهمة ذات معنى طالت لبنان ووطنيته وشرعية وجوده كدولة وطنية ناجزة، بما زعزع المفاهيم التي كانت سائدة بشأن عدم شرعية وجوده وكيانيته المصطنعة.

ففي حوار أجرته "السياسة" عن مضمون كتابها الجديد، أوضحت الدكتورة فياض، ان ليس جديداً القول إن الكيان اللبناني في خطر فهو مهدد في وجوده منذ لحظة تكونه لأسباب كثيرة ومتنوعة، لكن المفارقة حالياً، أن هذا الكيان يتعرض للخطر الشديد مرة أخرى أيضاً، وفي الوقت الذي لم يعد فيه هذا "اللبنان"، ذلك الكيان المصطنع منقوص الهوية والمشكوك في عروبته. لقد صار وجود النموذج اللبناني بما هو عليه معلباً وضرورة لأبنائه وللعالم.

فماذا في تفاصيل الحوار؟

لماذا تحدثت في بداية الكتاب عن الهوية والانتماء. وهل ما زالت الشكوك تلاحق اللبناني حتى في هويته وانتمائه؟

لقد بلغ الوضع في الممارسة العملية حداً يجعل من المواطن الملتزم بمواطنيته وبولائه لوطنه ويرفض الانتماءات المذهبية والطائفية المفروضة، يشعر أنه يعيش كغريب في بلده وتمارس عليه الضغوط اليومية التي تعيده عمداً الى حظيرة الانتماءات التي يرفضها عند تلبية احتياجاته الضرورية، أو عند اجراءه اي معاملة بسيطة، في دوائر الدولة الحكومية. والا فعليه التخلي عن مصالحه أو البحث عن وطن آخر.

الوضع الآن في لبنان على مفترق طرق، من هنا نجد أن القلق بلغ أعلى مستوياته عند جميع اللبنانيين، بحيث يتساءل المرء كيف يمكن تقدير ما بلغه القلق في بلد معين؟ هل هناك مؤشر واحد، أم تراكم لاشارات كثيرة ومنتشرة؟ لن اجري هنا دراسة عملية قياس مدى بلوغ مؤشر القلق عند اللبنانيين، ولكن رغم الشعارات المعلنة وربما الحقيقية نجد أن الوضع على الأرض، وفي ظل ضعف سلطة الدولة، يجعل من المواطن خاضعاً في الحقيقة لممارسات أبعد ما تكون عن الادعاءات المرفوعة، فهو لا يشعر بالحماية ولا بالأمن، ولا بحقه بالحصول على أدنى مقومات العيش الكريم من دون اللجوء الى واسطة ما، أو زعيم ما، أو حزب ما، أو ميليشيا حالية أو سابقة لتأمين أدنى حق من حقوقه.

هذا عن الخوف الوجودي الذي يهدد مستقبل المواطن الآمن عبر التهديد المستمر من حرب تشنها اسرائيل على لبنان بينما تنعم الحدود الأخرى المجاورة بأمن دائم.

لا شك أن الوضع في لبنان بحاجة الى مراجعة شاملة من الجميع بما يساعد على تخطي الوضع الراهن الذي لم يعد معقولاً ولا مقبولاً. ومن المعروف أن التقدم والثبات في المجتمعات التي تعاني من الصراعات المختلفة يتطلبان البدء بمسار المصالحة الفعلية ودفعه وجعله ينمو بشكل عفوي ومتدرج بحيث يطال أوسع شرائح من الشعب خصوصاً فئة الشباب.

ربما هذا يعطينا بصيص أمل اذا ما تبلور الوعي العميق وارادة التغيير عند نخبة فاعلة ومسؤولة تعرف قيادة البلاد ونمو الأفضل، فعلى الأرض هناك من هو مستعد لتلقف مثل هذه القيادة. وربما هذا يجعلنا أيضاً نتذكر أننا لا نملك أن نعيش هذه الحياة سوى مرة واحدة فلماذا نهددها مجاناً وكما نفعل منذ أكثر من 30 عاماً.

أن تكون شيعياً 2007-2008 وتحت عنوان قوة ناهضة، طرحت على نفسك سؤالاً، ماذا تريد غالبية الجماهير الشيعية في لبنان، ومن لبنان وماذا كان الجواب؟

لقد برز الشيعة كقوة بعد انحسار الوصاية السورية المباشرة، بحيث بدا عليهم أن يجدوا الترجمة السياسية لهذا التغيير الكبير الحاصل في الطائفة ديموغرافيا واقتصادياً وسياسياً، اضافة الى الامتداد الاقليمي. لم يعد الدور المعطى لهم قادراً على استيعاب قوتهم الجديدة، وهذا ما تعبر عنه قيادتهم. ان ما يطالبون به ليس سوى ترجمة لهذه القوة المستجدة التي يجدون أن على الجماعات الأخرى أن تعترف بها. وعدم انتزاع هذا الاعتراف يجعلهم يلجأون الى المزيد من عروض القوة وتصعيد المطالب. الأمر الذي يعطي بدوره ارتداداً عكسياً، بمزيد من المخاوف لدى الجماعات الأخرى حتى أصبح الخوف المتبادل سيد المرحلة.

ومنذ أن اندلعت حرب يوليو عام 2006 نسمع نغمة تتكرر من بعض الأوساط الشيعية، وخصوصاً عندما يحتدم النقاش بشأن خيارات "حزب الله" الما-فوق لبنانية وتسليم جماهيره الأعمى الى السياسة التي يتبعها، فيقول لك أحدهم: "لم نعد نريد أن نكون جماهير درجة ثانية". ويقول آخر: "لم نقبل بأن نعود عمالاً على المرفأ وزبالين". وكأن التحسن الذي طرأ كان بفضل أداء زعمائهم المحليين الذين استبدلوا أنفسهم بالاقطاع.

وفي علاقتهم المتجاذبة مع سورية يبدو الأمر وكأنهم يتوهمون أن هناك قوة سحرية اسمها نظام الأسد شكلت لهم الرافعة التي انتشلتهم من وضعهم، وهذا السحر سيزول بزوالها مثل قصور علاء الدين. هذا الشعور بالاستقواء بالنظام المجاور يعود الى شعور ضمني بالهشاشة والضعف والغبن، أو ما اصطلح على تسميته بالحرمان منذ أن تصدى لمعالجته الامام المغيب موسى الصدر.

وفي هذا قفز عن الانماء العام الذي عرفه لبنان بين عامي 1960 و1967 حيث انتعشت كل الأطراف بما فيها الجنوب بفعل السياسة الانمائية للعهد الشهابي.

في مطلع الثمانينات عند بداية تكون "حزب الله". كانت تلك مرحلة العمل السري المطلق وكانت لي نقاشات كثيرة مع أفراد من المنضوين فيه وخصوصاً الطالبات، وكانت كلها تؤدي الى وجود تمايز عن ايران وعندما كنت أسألهم لماذا لا تتوجهون للدراسة في ايران؟ كان يشتكون من عدم سهولة التأقلم هناك للأسباب المذكورة.

بينما نجد الآن تنامي مشاعر الولاء والتعصب لكل ما هو شيعي بالمعنى الايراني للتشيع، في ردة فعل على حرمان الوطن ومكوناته، ان التشيع الذي أنتج في ايران كايديولوجية تعبوية في خدمة الثورة الايرانية ليس اعادة انتاج بسيطة لاعادة التشيع التقليدي. ثمة تحولات كثيرة حصلت داخله وجعلت منه سلاحاً يستخدمه الكثير من فئات المجتمع الشيعية ضد الطغاة. فبالنسبة لهم يعد تدين وتشيع الطبقات المسيطرة مزيفاً. التشيع الحقيقي هو تشيع "علي" وهذا هو تشيع "حزب الله". وفي خلاصة الأمر، ان ما يحصل الآن هو تعصب وانتماءات عضوية غالبة وولاء للطائفة وليس للوطن. وينتج عن هذا كله تعبئة وشحن مذهبيان يؤسسان لتنشئة جيل بكامله يتعايش مع هذا الجو الموبوء الذي سينعكس على مستقبلنا لسنوات كثيرة.

والأسئلة التي يجب أن تطرح لكي تعالج: كيف يمكن كسر دائرة التعصب؟ كيف يمكن تقوية الممارسة الوطنية، بما فيها العلاقة بين الفرد والدولة؟ هل يمكن الوصول الى هذه العلاقة التي تكفل كامل العضوية السياسية للفرد في هذه الدولة وتتطلب ولاءه التام؟

ليس المطلوب التخلي عن الطائفة، لكن اعتبار الانتماء الى طائفة أو امتلاك هويات خاصة، أمر ممكن شرط تحت حدود المواطنية، أي عدم طغيان هذا الانتماء وخلطه أو تناقضه مع الولاء للوطن والدولة.

في ضرورة الاعتذار من بيروت بعد أحداث مايو عام 2008 قلت بأن "حزب الله" يمكن أن يسيطر عسكرياً على لبنان. لكن ماذا في اليوم التالي، الى أين يقود هذا السؤال؟

سألني صحافي أجنبي: هل صحيح ما يُقال عن أن "حزب الله" كان باستطاعته اجتياح لبنان والسيطرة عليه عسكرياً خلال يومين؟ قلت لهم: بالطبع وربما بساعتين، لكنه ماذا سيفعل بعد ذلك؟

يختلف اللبنانيون في تقييم ما حصل، وفي التعليق على الأحداث، هناك من يعتبرها لعبة كبيرة قام السياسيون على حساب الناس. يأخذك هذا الرأي الى نظرية المؤامرة الشهيرة التي تفسر بأن كل ما حصل كان معداً سلفاً. وهناك من آمن بالمقاومة ووجد تفسيرات لكل تصرفاتها منذ حرب العام 2006 وحتى الآن، ويبرر ما حصل بأنهم "حشروها" فاضطرت الى الرد. وهناك من دعم المقاومة ولكنه لا يصدق ماذا حدث؟ ولماذا اذلال المدينة بهذا الشكل؟ وأي حقد وأي آثار. الشيخ نعيم قاسم وصفها بأنها عملية جراحية موضعية دقيقة، يبرر ما فعله "حزب الله" كما بررت الادارة الأميركية تدخلها في حرب الخليج الثانية في العام 1990 وتسمية العمليات ب¯"النظيفة". لكن الآثار لم تمح بعد والمشهد حي. كيف تكون عملية جراحية نظيفة وأطرافها متواجهون ومحكومون بما يفترض أن نسميه التعايش، ليسوا طيارين أميركيين لا يعرفون ماذا ومن يضربون ولا تهمهم النتيجة.

ما دامت المقاومة بغنى عن الاجماع الوطني، فلماذا اذن تريد اخضاع من لا يوافق على سلوكيتها وخططها ومشاريعها؟

اذا كانت لا تريد سلطة، ويكفيها رضى الله عنها، فما حاجتها لاستخدام القوة في بيروت؟ وماذا تعني المطالبة بالمشاركة في السلطة لمن يشارك بها منذ بداية التسعينات عبر وزراء ونواب ومدراء عامين وموظفين وكل ما هنالك؟

هناك شيء خاطئ يحصل، أمر غير أخلاقي بالمطلق يدين قوى المعارضة، صحافة واعلاماً وأحزاباً وشخصيات ومواطنين، لا يمكن التظاهر برفض سياسة الاغتيالات وادانتها لفظياً والتباكي على ضحاياها والاستفادة في الوقت نفسه من نتائجها بدم بارد وكأن الأمر بديهي ومنتظر.

¯ ألم يكن استشهاد الحسين جريمة سياسية بامتياز؟

¯ ألم يكن أحد أبعاد استشهاده كشف فساد وانحطاط؟

¯ ألم تكن شهادته نضالاً ضد الظلم؟ ألم يكن سلوكه درساً أخلاقياً بالدرجة الأولى؟

كيف يقبل الظلم من يدعي أنه يضع الحسين نموذجاً لسلوكه، ومن يكاد يحتكر الأخلاق والشرق؟ كيف يقبل الجريمة السياسية التي يجب أن يكون أول من يدينها؟

ان ما يجعل الناس أحراراً ليس السلوك بموجب طرق معينة لاصلاح الذات التي تجبر الفرد على مثل هذا السلوك، انما يتم الاصلاح عن طريق ادراك السبب الذي يحتم عليه أن يسألك هذا السبيل، الأمر الذي لا يمكن أن يقوم به أحد نيابة عنه، لكن ربما أن هناك في لبنان من لم يعد يسعى الى الحرية حقاً.