مع د. حلمي القاعود

د. حلمي القاعود:

أمة بلا حرية لا تستطيع أن تفكر أو تبدع

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

أجرى الحوار: أسامة الهتيمي

يمثِّل الدكتور حلمي محمد القاعود أنموذجًًا للمثقَّف الإسلامي الذي استطاع أن يجمع بين الثقافة الإسلامية الرصينة وإدراك الواقع الاجتماعي والسياسي الذي تعيشه الأمة الإسلامية، فهو ناقد أدبي استوعب النظريات القديمة والحديثة حول قضايا النقد والأدب، وهو ما جعل من آرائه وأفكاره تجسيدًا حقيقيًّا يعكس الرؤية المتعمقة للحياة بمختلف مناحيها منطلقة من رؤية إسلامية واعية.

ولأن مضمون الأدب يرتبط بالدرجة الأولى بالإنسان وقضاياه كان لنا هذا الحوار مع الدكتور القاعود.

* يتحدث البعض عن أن الأزمة التي تعيشها الأمة الإسلامية حاليًا أزمة فكرية أساسًا، وأن الوعي هو السبيل الوحيد للخروج منها.. ما مدى صحة ذلك؟؟

** بصراحة شديدة، أقول لك: إن أزمة الأمة تتعلق بسياق آخر، سياق سياسي يرتبط بقضية اسمها الحرية، أمة بلا حرية لا تستطيع أن تفكر أو تبدع أو تعمل، العبيد لا يفكرون، وينتظرون أوامر السيد، والسيد في بلادنا الإسلامية غالبًا هو الاستبداد بأشكاله المتعددة وألوانه المختلفة، والأزمة الفكرية عرض من أعراض أزمة الحرية، فالاستبداد يتبنى الفكر الشمولي الذي يخدمه ويدافع عنه، ويسوغ ممارساته القمعية، وإخفاقاته الحضارية؛ لذا فهو حريص على استبعاد الإسلام من المعادلة الاجتماعية، بل إنه يوظف مثقفيه وكتَّابه لتشويه الإسلام والتشكيك في مشروعه الحضاري والقيمي والعقدي.

 الأزمة ذات عمق سياسي بالدرجة الأولى، وحلها يقتضي مثابرةً وصبرًا جميلاً من جانب المؤمنين بالتصور الإسلامي الصحيح، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.

 * المعاصرين ما بين الورد والهالوك.. هل يمكن أن ينسحب هذا التقسيم على المفكرين والسياسيين المسلمين خاصة في ظل حالة الاستقطاب ما بين التغريب والمحافظة علىى الهوية؟

 ** " من خلال شعراء مرحلة السبعينيات، وشعراء الورد هم شعراء الأصالة والانتماء والتفوق الفني، أما شعراء الهالوك، فهم الموالون للثقافة الغربية بتجلياتها الغريبة الشاذة دون تجلياتها الإيجابية المفيدة، وقد توقعت انحسار موجتهم، وقد انحسرت فعلاًً وتلاشت، ولكن المناخ العام أفرز فيما بعد أشباهًا لهم تسيَّدوا الساحة، فركَّزوا على العناصر المعادية للثقافة الإسلامية والعربية، وصارت غاياتهم الأساسية التعبير عن الجسد من خلال كتابة لا مرجعية فنية لها، فرأينا نصوصًا إباحية إلحادية تتجنب الواقع السياسي والاجتماعي وسلبياته، وتسقط القضايا العامة والقومية والوطنية من حسبانها.

 والأمر نفسه نجده في مجال الفكر والسياسة، لدينا تياران متناقضان: الإسلامي والعلماني؛ الأول محاصَرٌ ومقموع وممنوع من التعبير عن ذاته في وسائط التعبير الرسمية، والآخر حاضر في كل الميادين يستقطب اليساريين والدنيويين والباحثين عن الرزق وأصحاب الوعي السطحي، مدعومًا بسطوة السلطة وهيمنتها.

 * يحاول المعادون للمشروع الإسلامي من يسار وعلمانيين أن يتخذوا من مقولة حرية الرأي والتعبير وسيلة لتمرير بعض المصطلحات والأفكار التي تتصادم مع الشريعة.. كيف تنظر إلى هذه القضية؟

 ** قضية المصطلح من أخطر القضايا، والعلمانيون بارعون في استخدام المصطلحات المراوغة، وهم حين يتكلمون عن حرية التعبير وحق الناس جميعًا فيها فإنهم يقصدون حريتهم وحدهم؛ لأنهم لا يسمحون لغيرهم بالتعبير أو التفكير، وهم أشد غلظة في مصادرة آراء الغير وأفكاره، أما المصطلحات فهم يستخدمونها لخدمة أهدافهم بطريقة خبيثة.

 خذ مثلاً مصطلحات مثل التنوير والحداثة يريدون من أفكار وقضايا تخدم غايتهم الأساسية في الحرب على الإسلام، والدفاع عنن الاستبداد وممارساته دون أن يعرضوا أنفسهم للرفض المباشر لو استخدموا مصطلحات أخرى.

 فمصطلح التنوير مثلاً من الناحية اللغوية مصطلح جيد يفيد الإنارة والإضاءة والوضوح وزيادة الوعي وتعميقه؛ لذا يرحب به البسطاء وعامة الناس الذين لا يعرفون معناه الأوروبي في البيئة التي نبت فيها، وهو معنى مختلف تمامًا ومغاير للمعنى اللغوي، فمعناه الحقيقي والفلسفي هو الإيمان بالتجربة وما هو واقع فقط، وعدم الإيمان بالميتافيزيقا أو ما وراء الطبيعة، أي عدم الإيمان بالوحي والنبوة، فضلاً عن عدم الإيمان بالألوهية والتوحيد، أي الإلحاد، هكذا هو المعنى المقصود من التنوير، وقس على ذلك بقية المصطلحات.

 * يلح هؤلاء المعادون أيضًا على إرهاب الجماهير المسلمة وتخويفها مما يسمونه بالدولة الدينية.. كيف يمكن التعاطي مع هذا المشكل؟

 ** لا يوجد في الإسلام ما يسمى بالدولة الدينية، نحن نعرف ما يسمى الدولة الإسلامية، والفرق بين النوعين كبير جدًّا، الأولى مرتبطة بالكهنوت ودولة الكنيسة في القرون الوسطى الأوربية المظلمة، والأخرى هي الدولة القائمة منذ أربعة عشر قرنًا، مع كل ما جرى لها وعليها من تقلبات وتقلصات وتشويهات.

 الأولى قنَّنت حق الحكم الإلهي وسلطة الكنيسة وطغيان الكهنوت وحق التأثيم والتبرئة، والأخرى تؤمن بمسئولية الإنسان عن عمله، ولا أحد يملك له ضرًّا ولا نفعًا إلا الله، سبحانه وتعالى.

 الدولة الإسلامية ليس فيها كنيسة ولا كهنوت، وهكذا نعود مرة أخرى إلى السؤال السابق وقضية المصطلح، القوم لا يستطيعون المجاهرة برفض الإسلام، ولكنهم يستخدمون المصطلح المراوغ لإسقاط ما يريدون على الإسلام بطريقة خبيثة.

 إنهم مثلاً لا يتحدثون عن الدولة البوليسية أو العسكرية أو الفاشية التي يعاني منها الناس الأمرَّينِ، ولكنهم يتحدثون عن الدولة الدينية بوصفها نقيضًَا للدولة المدنية، والإسلام أول من أقام الدولة المدنية منذ أربعة عشر قرنًا، وساوى بين الأمراء والأجراء في العبادات والمعاملات وكل شيء، وجعل من حق هؤلاء محاسبة أولئك، وهذا ما يفرض على أصحاب التصور الإسلامي جهدًا مضاعفًا في الالتفات إلى قضية المصطلح، والتنبه لمعطياتها.

 * في السياق نفسه، كيف يمكنكم تفسير ظاهرة سيطرة اليساريين على المنابر الإعلامية والثقافية من المحيط إلى الخليج؟

 ** سيطرة اليساريين على منابر الإعلام والنشر والثقافة والتعليم والفكر، أمرٌ طبيعي، في ظل الاستبداد والقمع؛ فقد كانت قضية هؤلاء في وجود الاتحاد السوفيتي – راعيهم وممولهم – محاربة الحكومات الموالية للغرب، وبعد سقوط الشيوعية في روسيا والكتلة الشرقية عانوا من البطالة الأيديولوجية، فالتقطتهم أجهزة المخابرات الغربية والحكومات المستبدة، وعقدت معهم صفقات رخيصة جدًّا، كل طرف يقدم خدمة للآخر، والطرفان يعدان الإسلام الخطر الأكبر عليهما؛ لأنه يدعو إلى الحرية والعدل ومقاومة الاستغلال والاستبداد والاستعمار القديم والجديد.

 الطرف الأول يلقي للطرف الثاني بالفتات المالي وبعض المنافع الدنيوية، والطرف الثاني يقدم للطرف الأول خدمة الهجوم على الإسلام وتشويهه وتسويغ القمع والتنكيل بأتباعه، فكان طبيعيًّا إسناد المنابر المختلفة للطرف اليساري وأتباعه للقيام بمهمتهم غير النظيفة.

 * شهدت الأمة عبر قرن مضى طرح العديد من المشروعات العلمانية والماركسية والقومية.. كيف ترون نهاية هذه المشروعات؟

 ** لقد سقطت كل هذه المشروعات؛ لأنها لم تعبر عن طبيعة الأمة المسلمة وأشواقها، وكانت الهزائم المتتالية في 1967م، وسقوط القدس، وغزو العراق 2003، وقبله أفغانستان 2001، ثم الصومال 2007، وتمزيق السودان، والتمرد الطائفي في مصر واليمن، فضلاً عن الصراعات الداخلية التي يغذيها خصوم الأمة داخل الأوطان العربية والإسلامية على خلفية الطائفية والمذهبية والعرقية والفكرية، والتخلف الذي يمسك بتلابيب الأمة كلها بسبب الاستبداد المزمن في معظمها.

 * ارتكزت دعوات بعض المفكرين والمصلحين الإسلاميين على العودة إلى الإسلام وشريعته من أجل نهضة الأمة، وهي الدعوات التي لاقت قبولاً في فترات سابقة فيما تراجعت الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية في الوقت الراهن.. ما تفسير ذلك؟

 ** لم تتراجع الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، اللهم إلا إذا كنت تنظر إليها من خلال منظور ضيق وهو تطبيق الحدود. الشريعة الإسلامية عبادة وسلوك وقيم وأخلاق وعمل وإنتاج وإبداع وتفوق وقوة واستقلال.

 الحدود تمثل الجانب العقابي للمجرمين والمنحرفين وهو جانب محدود؛ لأن المجتمع المسلم ليس مجتمع مجرمين أو منحرفين، ولكنه مجتمع طيب في مجموعه؛ يحتاج إلى التوجيه والتربية والبناء والتطوير، بما يجعله يتمثل الإسلام مضمونًا وشكلاً، وروحًا وإطارًا.

 * في محاولة لرفض كل ما هو إسلامي يرفض القائمون على العمل الثقافي وجود الأدب الإسلامي متعللين بعدم وجود نظرية ذات ملامح محددة له.. كيف يمكن الرد على هؤلاء؟

 ** الأدب الإسلامي أدب الأمة الإسلامية منذ بدء البعثة المحمدية، والدعوة إليه في أيامنا هذه خطوة لاستعادة هذا الأدب بصفائه ونقائه، بعد أن تأثر بموجات التغريب والغزو الفكري منذ القرن الثامن عشر الميلادي التي جعلت كثيرًا من النصوص يحفل بتصورات غريبة عن قيم الإسلام، بل معادية له في بعض الأحيان.

 هنالك دراسات عديدة حول نظرية الأدب الإسلامي كان لي شرف المشاركة فيها بكتابين هما: "الأدب الإسلامي.. الفكرة والتطبيق" و"إنسانية الأدب الإسلامي"، ومن أبرز من كتبوا عن الأدب الإسلامي: أبو الحسن الندوي، ونجيب الكيلاني، وعبد الرحمن رأفت الباشا، وعبد القدوس أبو صالح، ومحمد حسن بريغش، وعبده زايد، ومحمد إقبال عروي... وغيرهم.

 * يردد البعض جهلاً أو عمدًا أن التدين ضد الإبداع، وأن المبدع دائمًا يكون غير متدين.. ما رأيكم في ذلك؟

 ** هناك مقولة شهيرة لسيد قطب، رددها بعده بعقود الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيجوفيتش، فحواها: أن الفن هو الوجه الآخر للدين. ومعنى ذلك أن الإسلام لا يعادي الإبداع؛ لأنه من غير المتصور أن يعادي نفسه، وذلك شريطة أن يكون الإبداع فنًّا حقيقيًّا يرتقي بالنفس البشرية ويطهرها، وأجمل القصص وأحسنه ورد في القرآن الكريم: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]، والقرآن ذاته يمثل النموذج الأعلى للإبداع التعبيري المعجز الذي لم يستطع الجن والإنس أن يأتوا بمثله أو عشر سور من مثله أو سورة واحدة، ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم – خلع بردته وكافأ بها شاعرًا على قصيدته، وكان يستجيد الشعر ويستمع إليه، وكان الخلفاء، بل كانت الأمة ترى في الشعر فنها الأول.. فكيف يكون الإسلام ضد الإبداع أو يكون المبدع بالضرورة غير متدين؟ هذا كلام غير سليم.

 * هل يمكننا في ظل هذه الحالة الثقافية المتهرئة أن نشكل جيلاً إسلاميًّا مبدعًا لا يتأثر بالإسفاف الظاهر على السطح والمسمى إبداعًا.. وكيف يكون ذلك؟

 ** تكوين جيل إسلامي مبدع، يرتبط بإعادة بناء الإنسان المسلم عقديًّا وفكريًّا وسلوكيًّا وخلقيًّا، ويقتضي هذا البناء تغيير مناهج التعليم الفاسدة، وتدريس الدين وجعله مادة أصيلة، وإصلاح الأزهر وإعادته إلى مهمته الأصلية لتخريج متخصصين في الشريعة واللغة العربية، وتشجيع حفظ القرآن وفهمه، وتقديم النموذج والقدوة التي يحتذيها الجيل الجديد والأبناء الصغار، ولا شك أن ذلك يستغرق وقتًا وجهدًا وصبرًا.

 ويمكن لأجهزة الإعلام والثقافة الخاصة أن تسهم في هذا السياق بتقديم نماذج إيجابية وراقية، ثم إن جهود الأفراد والجمعيات الأهلية التي يحركها الوازع الديني تستطيع أن تفرض النماذج الجيدة من الإبداع الراقي.