مع د. عبد الرزاق عيد

حوار "الشفّاف" مع المفكر

د. عبد الرزاق عيد في المنفى (1B)

مسؤول أمني قال لنا أن ثروة حافظ الأسد لم تتجاوز 8 مليار دولار!

الأحد 24 آب (أغسطس) 2008

س- بمناسب الحديث عن زيارتك السابقة المشار لها للمشاركة بمؤتمر اشهار رابطة العقلانيين العرب في باريس، أين أنت من هذا المشروع الآن، سيما أننا لم نعد نرى لك مشاركات في موقع الأوان، المعبرعن الخط الفكري للرابطة ؟

ج- انني بعيد عنه اليوم بدرجة ابتعاده عن تبني مسألة الديموقراطية بوصفها أولوية في مصفوفة تجديد المشروع النهضوي والتنويري العربي.

لقد بدا هذا المشروع منذ سنوات في بيروت وفق متوالية هذه الأولوية،حيث كانت اطروحتنا المركزية تتهيكل في اطار تجديد اشكالية الكواكبي القائلة: إن شربلية انحطاط الأمم تعود إلى الاستبداد، وليس إلى الدين والبعد عنه أو الاقتراب منه. فكما أن السياسة ليست كلها استبدادا فكذلك الدين ليس كله استبدادا، بل هناك استبداد واحد يشمل السياسة والدين، وهما صنوان على حد تعبير الجد الكواكبي الأكثر عقلانية ورشادا، وعلى هذا فإن معركة الحريات والحداثة هي معركة الحرية ضد الاستبداد السياسي والديني معا، الذي يفترض أن تكون الديموقراطية "الحريات السياسية" صنو لـ(العلمانية) "الحريات الدينية".

لكن المفاجأة بدت في ظهور أطروحة تم التحضير لها انقلابيا، وهي أننا بحاجة إلى العلمانية ولسنا بحاجة للديموقراطية، لأن الأخيرة ستقود إلى سيطرة الاسلاميين الأصوليين، متناسين أننا كعقلانيين لن نتنازل عن العلمانية بوصفها شرطا للمواطنة وأن لا ديموقراطية بلا شرط المواطنة التي تعني تساوي الجميع (ديانات وطوائف واثنيات وقوميات) أمام القانون في الحقوق والواجبات، وأن ثمة تيارات اسلامية بدأت تقترب وتشترك مع هذه المقاربة، والنموذج التركي جدير بالاهتمام والانتباه في هذا السياق، لكن هذه المقاربة مرفوضة من قبل نظامين عربيين يزعمان العلمنة، وكانت بلداهما صاحبة الحضور الأكبر من حيث التمثيل (تونس - سوريا)، وقد نبهنا إلى أن علمانية من هذ النوع ليست إلا وجها آخر للستالينية التي هي أكثر علمانية من علمانية أصدقائنا العرب الذين ينحاز بعضهم ضد الديموقراطية من موقع أقلوي طائفي في خدمة الأنظمة الطغيانية، مع أن المراهن على الطائفة المسيحية العربية ان تكون استمرارا ومواصلة للمشروع النهضوي التنويري التحديثي الدستوري التعاقدي العربي بوصفها حاملة المثل والقيم الديموقراطية الغربية،لا أن تتخندق مع انظمة زائفة وديماغوجية في مواجهة شعوبها التواقة إلى الحرية، وأن علمانية بلا ديموقراطية لن تكون ألا في خدمة تغطية طائفية النظام الديكتاتوري السوري واوتوقرطية النظام الديكتاتوري التونسي: توأم النظام السوري وصنوه، وإن كان أكثر مصداقية على مستولى المشروع التحديثي والحداثي، وأظن أن حضور النظامين من خلال بعض الممثلين والمتعاونين في ادارة المشروع ذاته، كان له التأثير الكبير على أعادة بناء ادارة موقع (الأوان)، سيما فيما يتصل بالتمثيل السوري فيه، فقد كان ثمة انقلاب إن لم نقل بوحي النظام السوري فهو على الأقل يسعى إلى مرضاته...!

س- هل لهذا السبب لم نعد نجد لك مشاركات في موقع (الأوان) بينما كنت من كتابه النشطاء؟

ج- نعم هذا هو السبب الرئيسي الذي أدى إلى تباعد داخلي، سيما عندما تم الحديث عن ضرورة تجنب نقد النظام السوري ومن ثم اتهام صالح بشير بأنه شجع على نقد النظام، وأن ياسين الحاج صالح شجع على الانفتاح على الاسلاميين، فشعرت حينها بأننا تجاه علمانية ستالينية حقيقية تطرد وتبعد وتدين وتشتم، ويجدر التنويه بأن هذا المنحى لم يكن يمثله الأخ الدكتور محمد الهوني، بل صدر عن صديق سوري مفكر محترم شكل لنا صدمة حقيقية بمواقفه الفكرية والسلوكية... أما السبب المباشر لتوقفي عن الكتابة لموقع (الأوان)، فهي الطريقة (الدكنجية -البازارية) التي تم فيها الحديث عن شروط الكتابة في الموقع: من حيث عدد المقالات التي ينبغي أن لا تتجاوز المقالين، ومن ثم فأنهم لا يمكن أن يدفعوا أكثر من كذا وكذا...الخ، بطريقة لم نسمعها من قبل حتى من ناشرين تجار، فكيف لك أن تسمعها من أصدقاء تثق بقدراتهم وملكاتهم وعطاءاتهم ويجمعك بهم مشروع واحد، علما أننا -للانصاف- لم نسمع هذه التوصيات السوقية من صاحب التمويل الدكتور الهوني ذاته.. وهذا سؤال برسم تأمل الصديق الهوني والصديق السوري ذاته إن كان يتناسب دوره المشارله هذا في الرابطة مع أدائه الفكري المميز...أي هل تستأهل الأمور الصغيرة هذه خسارة الأصدقاء !؟

س - نعود إلى حديثنا الأساسي المتصل بالممارسات الديكتاتورية للنظام السوري، متسائلين : لماذا كانت ردة فعلهم بهذه الوحشية على انعقاد "مجلس اعلان دمشق"؟

ج - السبب الأساسي يكمن في أن انعقاد هذا المجلس كان ردا ملموسا وعيانيا على كذبة النظام الديماغوجية التي يسوّقها عالميا في أنه لا بديل عنه سوى الفوضى أو الأصولية، فأتى انعقاد المجلس لبيرهن أن ثمة قوة ثالثة خارج وحشية النظام وخارج خيار العنف الأصولي، وخارج ما يترتب على هذين الخيارين من فوضى، إنها قوة الحياة في المجتمع السوري التي لم تتوقف عن التدفق لانتزاع الحرية رغم موجات الاعتقالات التي لم تتوقف منذ بداية ربيع دمشق حتى اليوم الذي يخرج فيه أحد أهم أركان هذا الربيع وهو العزيز عارف دليلة، لقد كانت ردة فعل النظام هستيرية لأن مجلس اعلان دمشق استطاع أن يعبر عن نفسه وعن هويته من خلال حضوركافة تيارات المجتمع السوري: اليسارية والقومية والاسلامية وتعبيراته الاثنية والقومية والطائفية التي احتضنها فضاء ثقافي ليبرالي خفف من ثقل التركة الشمولية لدى هذه التيارات وساعد على ممارسة مبدأ الاعتراف بالآخر وقبول التعدد والاختلاف والتغاير، لكن يبدو أن ثقل الميراث الشمولي والشعاري لدى بعض الأطراف القومية - خاصة الناصرية - لم يساعدها على مواكبة هذه الانعطافة نحو الديمقراطية فعلا وممارسة وسلوكا وليس شعارا مناسباتيا للعرض والاستعراض.

ولعل خروج الجناح الناصري زاد من عدوانية القوى الأمنية التي كانت تراهن على بعض العناصر الانتهازية القيادية في الحركة الناصرية كأداة لتعطيل الحراك الديموقراطي، ومن ثم تفشيل حراك اعلان دمشق باسم شعارات مستهلكة بائتة وبائدة عن أخطار خارجية مزعومة تهدد سوريا وتعطي الحق لنظامها أن يبيد الحياة السياسية في البلاد لكي يتمكن من التصدي للمؤامرات الاستعمارية...! في حين أن الشعب السوري أصبح على وعي ببديهية أن هذا النظام محمية اسرائيلية ضد تحرر الشعب السوري وانطلاقته الديموقراطية في سبيل حرياته السياسية التي غدت مدخلال لابد منه لاستعادة سيادته على أراضية في الجولان التي سكت ويسكت عنها هذا النظام مقابل بقائه في الحكم من جهة، ومقابل جائزة ترضية كانت الوصاية عللى لبنان من جهة أخرى، وهذا ما يردده القادة الاسرئيليون بلا حرج أو مواربة، وهو ما يسلكه النظام على الأرض من خلال تشبثه المرضي بلبنان حتى ولو على حطامه نظرا لما يمثله لبنان من جاذبية استثمارية غريزية تناسب مقدراتهم الانتاجية :(الحشيش -السلاح -البنوك- الكبريهات والكازينوهات وتهريب كل شيء... )، ومن ثم سكوته المؤبد والمخزي نحو الجولان الذي ليس فيه سوى المياه (بحيرة طبريا) وتللك مصلحة وطنية عامة تخدم الشعب السوري لكنها لا تخدم النظام الذي لم يعد تتطابق مصالحه مع مصالح وطنه أبدا، فعودة الجولان لا تصب- مباشرة- في جيوب مافيات النظام مباشرة، فطبريا لا تعنيه حتى اكتشف لهم الاسرائيليون -مصالح تخصهم- من خلال الاتفاق على تحويل هضبة الجولان إلى مناطق استثمار سياحي فقامت قومتهم السلمية اليوم فأرسلوا مندوبيهم للتفاوض على الشراكة...! لقد غدا من المسلمات للحركة الوطنية الديموقراطية أن المعركة مع اسرائيل يجب أن تبدأ من لمعركة من أجل الديموقراطية مع النظام الذي يلغي مجتمعه وناسه وبشره، وهذا ما يطابق المصلحة الاستراتيجية لاسرائيل، وهي أن تخوض مواجهات مع شعارات وليس مع شعوب، مع نظام معزول ومحاصر بمصالحه الكلبية الدنيئة التي تتعارض مع مصالح شعبه بالضرورة ، وليس مع الشعب السوري الحاضن لكل المعاني والقيم الوطنية والسيادية والروحية والأخلاقية والوجدانية.

اسرائيل تعرف أن الخطر عليها لا يتأتى من الأنظمة الديماغوجية -الشعارية-الهتافية -الخطابية -الانشائية...الخ، التي تستخدم حزمة الشعارات هذه لأخراس شعوبها ليس للتداعي للحقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل التداعي للحقوق الوطنية والسيادية التي لا تتيح للطاغية الأب أو الأبناء أن يشتروا نظامهم بالصمت عن الجولان أو التنازل بمهانة ونذالة عن لواء اسكندرون...إن ما تخشاه اسرائيل هو حريات الشعب السوري والعربي عموما، أي أنها تخشى الديموقراطية بذات الدرجة التي تخشاها عصابات النظام، لأن الديموقراطية بالنسبة لها هو سر تفوقها على محيطها الاستبدادي الذي يكبل شعوبها بأكثر مما تستطيع فعله بيديها، إذن فالطرفان (اسرائيل والنظام السوري المعزول ) لهما مصلحة مشتركة في تهميش وتغييب وطرد الشعب السوري من ساحة السياسة، ويضيف النظام السوري على المصلحة المشتركة المشار إليها، نزوعاته الثأرية الانتقامية السادية من الشعب السوري الذي لم يستطع ابادة ارادته خلال أربعين سنة، حيث يستطيع هذا الشعب رغم كل الجرائم التي ارتكبت ضده أن يعقد مجلس اعلان دمشق التاريخي كما كان يحب أن يسميه ويعبرعنه رياض سيف بتفاؤله المخلص والطيب، المجلس الذي جمع 163 نمرا من فلذات أكباد المجتمع السوري، فأرعبوا الضباع والذئاب والكلاب وأبناء آوى الذين حولوا وطنهم إلى جثة للقضم والنهش.

س - لكن ما تسميه خيارا ثالثا بين عنف النظام الديكتاتوري من جهة، وعنف الخيارات الأصولية أوالفوضى ليس خيارا جديدا على الحياة السياسية في سوريا، فقد قام التجمع الوطني الديوقراطي من (عدة أحزاب قومية ويسارية) منذ سنة 1978 تأسيسا على مبدأ التغيير الديوقراطي السلمي ونبذ المفاهيم الانقلابية... فما الجديد النوعي في انعقاد المجلس الوطني لاعلان دمشق ؟

ج - في الحقيقة أن مأسسة اعلان دمشق من خلال انعقاد مجلسه الوطني كان يشكل انعطافة نوعية في تاريخ الحياة السياسية في سوريا، اذ هو اعادة انتاج نوعي لصيغة التجمع الوطني الديموقراطي الذي كان لايزال محكوما بأولوية مبدأ التناقض الخارجي، أي المعركة مع الامبريالية المفترضة : الحقيقية أو المتوهمة ايديولوجيا لدواعي التحشيد والتجييش، وهي معركة تفترض أنها معركة الجميع في الداخل : السلطة والمعارضة ضد الخارج، على اعتبار أن النظام وطني معادي للامبريالية، وفق الصياغات اليسارية البيروقراطية التي أنتجتها السياسة الخارجية السوفياتية كامتداد لأولويات حلف وارسو. فأتى انعقاد المجلس بمثابة اعلان موت هذه الشعارات الشائخة والبائدة التي كان يتعيش عليها النظام خلال نصف قرن، وذلك من خلال انطلاق اعلان دمشق من مبدأ استحالة التحرر الوطني بدون التحرر السياسي، أي بدون الحريات السياسية والديموقراطية فليس ثمة تحرر وطني أو قومي، وأن النظام وفق فقه الأولويات الجديدة للخطاب الديموقراطي لاعلان دمشق لايمكن أن يكون نظاما وطنيا، لأن الوطنية - وفق فقه الأولويات الشرعية الدستورية الجديد - غدت معادلا للمواطنة التي لايمكن أن تتحقق الا في اطر نظام ديمقراطي برلماني مؤسس على الشرعية الدستورية التعاقدية البرلمانية.

س - اذا كانت قوى التجمع الوطني الديموقراطي هي التي تشكل مكونات هذا المجلس، فهل يمكن لهذه القوى نفسها أن تعلن موت شعاراتها؟ وهل يمكن لمنظوماتها العقائدية السالفة أن يتيح لها مثل هذا الانقلاب الذي تتحدث عنه ؟ فما هو الجديد في الأمر؟

ج - الجديد هو عيش هذه القوى في فضاءات اتسمت بالانفتاح والمراجعة النقدية تأسيسا على ليبرالية ثقافية مستنيرة وجدوا فيها مقدمات ضرورية لابد منها لخياراتهم الايديولوجية القومية واليسارية بل وحتى الاسلامية.

هذه الليبرالية العقلانية النقدية المدنية أتاحت تفجير الكثير من المنظومات الرجعية المغلقة، وقد بدأها الحزب الشيوعي ( المكتب السياسي - رياض الترك ) الذي أصبح اسمه اليوم ( حزب الشعب الديموقراطي )، حيث لأول مرة في تاريخ الحياة لسياسية في سوريا يترك قائد حزب ( رياض الترك ) قيادة حزبه، لتكسبه الحركة الديموقراطية السورية بوصفه الوجه الأبرز لها داخليا وعالميا. إذ مع انعقاد مؤتمر حزب الشعب بدأت اطروحاتنا كمثقفين مؤسسين لجان احياء المجتمع المدني، الذين اطلقنا البيان التأسيسي بيان 99 مثقفا : كتابا وفنانين ومفكرين، نقول: منذ انعقاد مؤتمر حزب الشعب الديموقراطي غدت اطروحاتنا المعبر عنها في الوثيقتين السابقتين، هي أطروحات الحركة الديموقراطية وليست اطروحات نخبوية يتبناها مجموعة قليلة من المثقفين.

هذه الانعطافة للحزب كانت نتاج تطور نوعي في وعي الكثير من كوادره من جهة، ونتاج عذابات وآلام طالت كل أعضائه خلال أكثر من عشرين سنة في زنازين النظام المتوحش، حيث غدت الديمقراطية هي الملاذ الوطني والتحرري والانساني والاخلاقي لكل أولئك الذين دفعوا حياتهم ضريبة غيابها.

هذه الانعطافة نحو أولوية الديموقراطية لدى الفصيل اليساري الأكثر راديكالية، كان يوازيها انعطافة لدى الأخوان المسلمين لتتوج - ولأول مرة - في صيغة اعلان دمشق الذي ضم الفصيلين الأكثر راديكالية في تاريخ الحياة السياسية في سوريا (الأخوان المسلمون بعد مراجعتهم لخطابهم القديم وحزب الشعب بعد مراجعته لخطابه الشيوعي القديم )، وعلى هذا فإن حملة عصابات النظام ضد اعلان دمشق كانت قد ضمت أشرف وأنبل الضمائر الديمقراطية من كلا الفصيلين ( اليساري والاسلامي )، والمستقلين الليبراليين الذين أشاعوا مناخا ثقافيا نقديا شفافا ورفيعا.

هذه الفضاءات المتسمة بالحرية والحوار والشجاعة العقلية النقدية أتاحت لأن يكون الديمقراطيون المستقلون هم القوة الراجحة في المجلس، ولايمكن اغفال العامل الحاسم في تقديم هؤلاء المستقلين متمثلا بدور الرياضين: (رياض الترك ورياض سيف) بعد أن ارتقى الاثنان من مستوى تمثيلهما السياسي: اليساري (الترك) والليبرالي (سيف) الى مستوى التمثيل الوطني الديمقراطي لمجوع الحراك الوطني السوري.

س - لكن الأمور لم تسر بهذه السلاسة التي تتحدث عنها، فقد شهد المؤتمر انشقاقا، ومن ثم اعلان بعض الأطراف تجميد دورها والبعض الآخر انسحابه...

ج - بلى لقد سارت الأمور بهذه السلاسة على حد تعبيرك، إذ لا يعقل لهذا التجمع الوطني الديموقراطي الذي عاش حوالي الأربعين سنة في اطار من الثوابت المتعفنة أن ينتقل في موشور رؤيته من أولوية مواجهة الخارج الى أولوية مواجهة الذات بوصفها هي المسؤولة عن كل ما كسبت يداها وما كان "ربك بظلام للعبيد"، وأنه لا مناص لهذه الذات من اطلاق يديها داخليا حتى تتمكن من الدفاع عن نفسها خارجيا، فهي المسؤولة أولا وأخيرا عن تقدمها أو تأخرها، ويكفي هذه الأمة ترديا واحتضارا وانحطاطا تحت زعم أن الآخر هو الذي يدفعنا الى هذا الحضيض الذي نتردى فيه، وذلك عبر آلية نفسية هي الأكثر غرابة في التاريخ، فنحن العرب والمسلمين أكثر شعوب الأرض رضا (ذهانيا) عن الذات وتبرئة لها من المسؤولية ورميها على الآخر، هذا الذهان المرضي يبدأ بالشيطان الرجيم الذي يبدو أنه متفرغ خصوصي دنيويا لنا (العرب والمسلمين) فقط لافساد ضمائرنا وأخلاقنا ومن ثم دفعنا نحو الحضيض وصولا الى الشيطان الأكبر (الغرب الاستعماري) الذي لا شاغل له علميا واقتصاديا وتقنيا وعسكريا سوى التآمر علينا لالحاق الهزيمة والعار والشنار بنا عربا ومسلمين...!؟

ولهذا كان لا بد من أن يكون بين قوى التجمع الديموقراطي - قوم يؤمنون بثوابت الأمة- القائمة على شيطنة الآخر (الخارجي) ليكون مصدر كل الشرور، ليقدموا بذلك خدمة لقوى عصابات النظام التي تعيث قتلا وارهابا وفسادا بمثابتها غير مسؤولة عنه، بل هي مسؤولية الامبريالية والصهيونية...!

من الطبيعي أن لايتمكن الجميع من التساوق مع هذه الإنعطافة النوعية على مستوى الرؤية والنظر والفهم للانتقال من تخارج الذات مع الخارج إلى تذاوت الذات مع الموضوع (الداخل)، بل ولو لم يحدث ما حدث لكان هناك ثمة تساؤل حول مصداقية هذه الانعطافة وحقيقة أن يتمكن الجميع من الانتقال الى مواقع الديموقراطية بهذه السلاسة، رغم تاريخ هذه القوى السياسي الشمولي والمعتقدوي. في هذه المناخات الحوارية كان يتبرعم وعي جديد (ربيع دمشق)، عنوانه : الانتظام في سلسلة النسق الديموقراطي الذي عرفته سوريا قبل انقلاب البعث واستيلائه على سوريا، مما أشاع روحا تعدديا وقبولا بالآخر المختلف، فإذا كان اليسار انتقل باشكاليته الفلسفية المركزية من أولوية المادة إلى أولوية الانسان مما سيساعد على قبول الآخر الاسلامي، فإن الاسلاميين سينتقلون من أولوية النص الشرعي -أسبقية النقل على العقل- إلى أولوية مقاصدالشرع (أولوية الانسان المستخلف في الأرض ) حيث "ما يراه الناس حسنا فهو عند الله حسن "،كل ذلك سيساعد الجميع على الانتقال إلى ساحة واحدة، وهي أولوية الانساني وحقوقه في الولاية على نفسه وبدنه وعقله، وسيترتب على ذلك تكشف وجه النظام البشع المعادي للانسان وحقوقه في الحرية والعدالة والكرامة.

إذ في هذه المناخات راحت سوريا تستعيد ينابيع عذوبتها الأولى في خمسينات القرن العشرين، حيث تستعيد عافية تنوعها وتعددها على طريق الانتقال من ا(لاختلاف مع الآخر إلى الاختلاف مع الذات) لتجاوز ذاتيتها الأحادية، وذلك هو المدخل لمبدأ التسامح بما فيها مع عصابات النظام الارهابية العدوانية الشرسة، وذلك من خلال اعلان الجميع القطع مع العنف واختيار الطريق السلمي الديموقراطي للتغيير، فإذا كان النائب المنشق رياض سيف اختارأن يمثل تيار الديمقراطية الليبرالية الحديثة، فان النائب المنشق الآخر مأمون الحمصي اختار أن يعلن عن نفسه بوصفه ديموقراطيا محافظا ممثلا للأكثرية الشعبية الدمشقية المحافظة، حيث غدت هذه التعبيرات المتنوعة بمثابة إعلان عن ولادة سوريا الجديدة التي تخرج من قوقعاتها الايديولوجية الشمولية، بما يتعارض مع مصلحة فريق واحد في البلد وهو الطغمة المافيوية الطائفية والعائلية الحاكمة !

س - لكنكم في إعلان دمشق لم تعترفوا بالأخير (مأمون حمصي)، وأخيرا أدنتم بيانه المتضامن مع أهل السنة في بيروت في مواجهة الهجمة الطائفية لحزب الله فأين أنت من هذه المسألة؟

ج - أنا لا أنطق باسم اعلان دمشق، بل كنت منذ البداية مع الاعلان من خلال موقعي الفكري والثقافي، إذ وقعت بصفة فردية مع بعض الشخصيات الوطنية على الوثيقة التأسيسية، وكان وجودي في الأمانة العامة وجودا أدبيا ومعنويا، فلم أحضر سوى اجتماع واحد وذلك بمعرفة وموافقة وتفهم الأخوة جميعا في الأمانة العامة، وذلك لأني منذ مشاركتي التأسيسية في لجان احياء المجتمع المدني قررت أن أخوض معركتي مع مافيات النظام من موقع فكري يتركز ويتمركز على الحفر وراء تشكل النويات الأولى لظاهرته السرطانية المرعبة، أي أردت أن أتفرغ له بعيدا عن الانخراط في العمل اليومي.

ولذا فإن هذه المسافة تتيح لي أن أعلن بأني لست موافقا على بيان اعلان دمشق الذي لم ير الطائفية إلا في خطاب مأمون حمصي الاحتجاجي، وتجاهل واقع ممارسات طائفية تشكل عنصرا تكوينيا في البنية الجوهرية للنظام الطائفي العائلي الأسدي، وربما كان ذلك تحت ضغط بعض الأقلام اليسارية من أوساط الطائفة العلوية الكريمة التي راحت تطالب قيادة الاعلان بادانة بيان مأمون حمصي، في حين لم نسمع من هؤلاء الأصدقاء موقفا مميزا من قبلهم تجاه طائفية النظام التي يرتفع بها إلى مستوى الهوية والكينونة، وهي طائفية ممنهجة - أي ليست عفوية- تسعى إلى توريط الطائفة العلوية في المواجهة الأهلية مع مجتمعها عبر الأخدود الذي حفره النظام مع مجتمعه، فأراد للطائفة أن تكون قاعدته في طرفه الأخدودي المعزول مجتمعيا وعربيا ودوليا، تماما كما ورطوا الطائفة الشيعية اللبنانية في مواجهة مجتمعها من خلال صنيعتهم الطائفية حزب الله.

نضيف لذلك فتحهم الأبواب الطائفية لهذه الجائحة الايرانية الخبيثة في شراء دين الناس وذممهم عبر تشييعهم، ومن ثم إعادتنا إلى اصطفافات صراع مر عليه أكثر من أربعة عشر قرنا عندما انشقت قريش إلى بيتين: بيت بني هاشم وبيت بني أمية في حرب هي الأطول والأغبى في تاريخ البشرية، لياتينا منقذ الأمة الاسلامية حسن نصر الله لينقذنا من أضاليل أبي سفيان مشككا بصحة اسلامه -رغم أن اسلام العباس لم يكن أعمق أوأصح من ايمان أبي سفيان على ذمة تاريخ البيتين الهاشمي والأموي- وليهاجم السيد حسن الأمويين مؤسسي الامبراطوية العربية الاسلامية التي لم ولن يرضى عنها الفرس المنحازون -كيديا - للبيت الهاشمي، ويتقدم حسن نصر الله الصفوف رافعا راية (يا لثارات الحسين) في وجه يزيد والأمويين الذين أقاموا امبراطوريتهم تحت راية (الله أكبر)، ولا نعرف ألى أين ستقودنا رايات (ثارات الحسين)؟ ولا نعرف إن كانت غزوة حزب الله الأخيرة ضد بيروت تأتي في هذا النسق المجدد لحروب صفين والجمل؟

س- إذا كان حزب الله حزبا دينيا (طائفيا) فهل يشرع ذلك الرد عليه بطريقة دينية (طائفية)، كما فعل مأمون حمصي؟

ج- هل تنتظر من رجل يقدم نفسه كليبرالي محافظ يمثل البيئة الدمشقية المحافظة أن يكون رده على حرب حزب الله الطائفية على بيروت ردا علمانيا حداثيا، هذا ما اختلف به مع الأخوة في اعلان دمشق الذين صدروا بيان التنديد، لأنهم بذلك يصادرون على حقوق التعبير الأخرى التي لا تنطلق من منظور علماني، وإلا لكان عليهم أن يردوا بذات الطريقة على طائفية خطاب وممارسات حزب الله والنظام الداعم للحزب والمنصاع لسياسات و توجهات العقل الايراني الملتاث بالماضي الطائفي الكريه في خدمة مطامح قومية فارسية ضيقة الأفق لا تزال تفكر بعقلية القرون الوسطى الثأرية من العرب، مستخدمة -مع الأسف- وكيل ولي فقيها (حسن نصرالله) لدفعه للانخراط والتورط في معمعان العداء لعروبته وعروبة الشيعة الأصيلة في اللبنان.

بل إن عصابات المافيا المستوطنة دمشق اليوم تسجن وتحاكم أنبل مثقفي سوريا العلمانيين الديموقراطيين بتهمة الطائفية، دون أن نسمع صوتا ثقافيا داخليا، أي من داخل الطائفة العلوية الكريمة ذاتها يتبرأ من السلوك والممارسات الطائفية لعصابات نهب وسلب وقتل تريد أن تجعل من طائفتها دريئة لجرائمها، جرائم لا تندي جبين الطائفة خجلا وعارا فحسب بل جبين المجتمع السوري بكل طوائفه واثنياته وشرائحه أمام العالم أجمع...إذ كيف يمكن أن يخرج من صلب هذا المجتمع مثل هذه الكائنات اللوياثانية الغريبة المشوهة والممسوخة، التي لاتخجل -أمام صحافة العالم- من الحديث عن أنه ليس لدينا في سوريا معتقلوا رأي، بل لدينا سجناء (ارهابيون)، هكذا يتحدث سليل مدرسة أبيه وعمه البعثية صدام حسين الذي كان قد أعلن بدوره قبل رميه في سلة مهملات التاريخ بأنه لم يكن لديه في العراق معارضون سياسيون بل لديه خونة، وهكذا يظن طبيب العيون الشاب (الانفورماتيكي) واهما بأنه داهية زمانه في حنكته في علوم السياسة عندما يعدل صيغة عمه صدام : من صيغة عندنا خونة...إلى صيغة عندنا ارهابيون، وكان قد سبق له أن تفوه بمثل (دهاءت ) عمه صدام -عن الخيانة- أمام وفد أوربي طالبه بالأفراج عن المعتقلين، فقال وسط ذهول الأوربيين : إذا اعترفوا بخيانتهم فإنه سيفرج عنهم..

نقل لنا الأوربيون هذه الاجابة اللوذعية وهم يشيرون بأصابعهم إلى رؤوسهم بما ترجمته العربية "اللهم احفظ علينا نعمة العقل..."

إذن وفق خطاب الدهاء التراجي-كوميدي للشاب الانفورماتيكي علينا أن نتصور : أن د. فداء حوراني ارهابية، وإن عارف دليلة قضى أكثر من سبع سنوات في السجن لأنه ارهابي : لأنه -فيما يبدو- أرهب الحاشية من افتضاح أمر استيلائها على صفقة (الموبايلات) الشهيرة مما كان سيخسرها ثمانين مليون ليرة سورية يوميا... وأن رياض سيف الذي يمنعونه من العلاج من السرطان هو الارهابي...! وأن أنبل وأشرف أقلام سوريا (علي العبد الله- -أكرم البني- فايز سارة، ميشيل كيلو،أسامة قريو والشاب الشاعر الشفاف فراس سعد...) د.كمال لبواني، جبر الشوفي، د.وليد البني، أنور البني، نزرا رستناوي، رياض درار -، محمود عيسى، الفنان طلال أبودان ، محمد حاجي درويش، د. كمال مويل، ياسر العيتي، مروان العش،، د. أحمد طعمة وأخيرا حبيس العمر أسامة عاشور الذي دخل السجن فتى وخرج كهلا ...! أيقونات سوريا هؤلاء هم الارهابيون...

أما الذين أبادوا عشرات الألوف من الشعب السوري والجلادون وقتلة رفيق الحريري وخيرة سياسيي ومثقفي الشعب اللبناني، علينا أن نرى بهم تمثيل الشرعية الحقوقية والقانونية والدستورية! وليسوا هم من تنتظرهم المحكمة الدولية على جرائمهم والذين لا ينامون الليل خوفا مما ينتظرهم، فيلوذون باسرائيل وحوارها عسى أن تكون مدخلا لكسب رضى (الامبريالية) الأمريكية لتخفيض سقف رتبة المطلوبين...الذين يُنتظر كل يوم أن نسمع انباء انتحارهم على طريقة انتحار من سبقهم ( الزعبي -كنعان...) وليس آخرهم المستشار العسكري (سليمان)، لأن (سيناريوهات) سيرة (المافيات) واحدة..فهم يقتلون ويقتلون ويقتلون، وبعد أن يحترفوا القتل، تستقل آلته عن سيطرة آلة وعيهم، فتشتغل آليته عبر لاوعيهم استجابة إلى نزعة التدمير الذاتي الغريزية، قوة الفناء الذاتي (غريزة الموت -التاناتوس)، فتتغلب غريزة التعطش للموت على غريزة قوة الحياة عندما تغدو الحياة في ذاتها فعل قتل وجريمة، عندها يتوج القتل نفسه بقتل الحياة كخيار أخير.

من الصعب سرد أسماء كل المعتقلين السياسيين سيما أسماء الشجعان الكرد الذين لم تتوقف قوافل المعتقلين منهم يوما، بل حتى أبناؤنا الأحباء من طلبة الجامعات وآخرهم حسن القاسم الذين لم يكتفوا باعتقاله لأسابيع، بل أرادوا الاساءة إلى سمعته اجتماعيا وسياسيا، لكنهم أحط وأخس من أن من أن ينالوا من سمعة شاب يكفيه شرفا وطنيا وأخلاقيا أنه رفع صوته في وجه انحطاطهم وفسادهم وجرائمهم... لنتصور أن هؤلاء الأفاضل نجباء الوطنية السورية هم الارهابيون في عيون طبيب العيون...!؟