عمر عبد العزيز

الحضارات الإنسانية متواشجة متكاملة وللموسيقى والتشكيل نصوصها كالأدب

فاطمة عطفة

كتبه بحثت الصوفية والتشكيل والجمال وترجماته تناولت الفلسفة الاسلامية والشعر والتاريخ

أبو ظبي ـ 'القدس العربي' : يمتاز الدكتور عمر عبد العزيز بحضور ثقافي مشرق وآسر، والاستماع إلى حديثه متعة ثقافية وفكرية لا يرتوي منها زواره وأصدقاؤه ومتابعوه، فهو مثقف موسوعي متعدد المواهب والاهتمامات يذكرنا برواد عصر النهضة وأعلام الحضارة العربية: الجاحظ، أبي حيان التوحيدي، الفارابي، أبي الريحان البيروني.. وغيرهم، وإن كنا نرى أن اهتمامه الرئيسي بالفن والصوفية والبحث الفكري، وخاصة علم الجمال، ولكننا لا ننسى أن دراسته العليا هي الاقتصاد، فضلا عن المسؤوليات الإعلامية التي اضطلع بها في مطلع حياته العملية والنضالية يوم كان مديرا عاما للإذاعة والتلفزيون في عدن. له العديد من الكتب المنشورة، منها: الصوفية والتشكيل، كتابات أولى في الجمال، مقاربات في التشكيل، ناجي العلي الشاهد والشهيد، زمن الإبداع، فصوص النصوص، متوالية القديم والجديد، بالإضافة إلى عدد من الترجمات ومنها كتاب: العبور إلى فلسطين من تأليف البروفسور إيليا بويا، وتاريخ الفلسفة الاسلامية للبروفسور ريموس روس، ومن مؤلفاته في علم الجمال والنصوص الإبداعية: منازل الشعر، تحولات النص البصري، الاشتباك مع التاريخ. وهو اليوم رئيس قسم البحوث والدراسات في دائرة الثقافة والإعلام بحكومة الشارقة، ومدير تحرير مجلة "الرافد "الثقافية، ورئيس مجلس ادارة النادي الثقافي العربي بالشارقة، والأمين العام لجائزة الشارقة للابداع العربي. في دارته العامرة في الشارقة كان لنا معه حوار مستفيض، نوجزه في ما يلي: دكتور عمر، كل مبدع له بداية يتأثر فيها بأحد الأشخاص أو بالمكان أو بتأثير الطفولة. بمن تأثر الدكتور عمر؟ وكيف كانت البداية الأدبية والفنية؟ هذا السؤال أعتبره مفصليا وجوهريا في حياة كل إنسان، والحقيقة شاءت الأقدار أن أولد من أبوين يمنيين يقيمان في بلد شقيق هو الصومال وفي مقديشو على وجه التحديد، عندما كانت الصومال تحت الاستعمار الإيطالي، وتبعاً لذلك كان علي أن أدرس في المدرسة الإيطالية وكنا نتحدث في البيئة العامة باللغتين العربية والصومالية وكانت هناك روافد ثقافية متعددة ومتنوعة بطبيعة الحال. الرافد العربي الإسلامي بالمعنى الواسع للكلمة، واليماني على وجه التحديد، والرافد الصومالي العربي الإفريقي الذي كانت له بصماته فيما يتعلق بالتذوق الموسيقي تحديداً، ثم الرافد الإيطالي اللاتيني بالمعنى الواسع، وهو رافد لعب دوراً كبيراً جداً فيما يتعلق باستشراف جماليات اللغة الإيطالية من جهة والثقافة الأوروبية من جهة أخرى، فكل هذه العوامل مجتمعة كان لها تأثير في مستهل حياتي، وكل حالة من هذه الحالات كانت لها ظلال مؤكدة، فعلى سبيل المثال فيما يتعلق بالتقاليد العربية الإسلامية الدينية كانت ذات طابع متصوف بالمعنى الواسع، وكانت ذات طابع اجتماعي مختلف عن أنماط الحياة الأوروبية، ولكن في نفس الوقت كنا في مدرسة أوروبية بامتياز، وكانت العاصمة الصومالية مقديشيو نسخة مصغرة من روما الإيطالية، ليس فقط من حيث التخطيط الحضري، بل أيضاً من الناحية الثقافية اللغوية، وبعض أنساق الحياة اليومية، ومن هنا نستطيع أن نلتقط بعض المسائل المتعلقة بالملامح الأولى للطفولة.. تعددية التلقي للغات الأخرى وإعادة إنتاجها، ولكل لغة كما تعرفين منطق خاص، ولكل لغة أيضاً بُنى لوغاريتمية، وصرفية، ونحوية وصوتية خاصة. كل هذه اللغات واستتباعاتها الثقافية بطبيعة الحال كانت تتفاعل وتؤثر في بعضها البعض، وأفضت إلى ما أنا عليه الآن. أعتقد أن اللغة ليست حمّالة قاموس ودلالة فقط، ولكنها أيضاً حمّالة أبعاد صوفية وأخرى هندسية وثالثة إشارية وأبعاد منطقية في طريقة التفكير، وأبعاد أخرى في إعادة إنتاج المعرفة.

اليمن مركز حضاري غني، ماذا أعطى هذا المركز للدكتور عمر؟ أنا ولدت كما أسلفت في العاصمة الصومالية وتربيت هناك، وكانت هنالك تداخلات ثقافية أساسية تتعلق بالثقافة العربية الإسلامية، اليمانية بتحديد العبارة، لأن الحارة التي كنت بها كانت حارة يمانية بامتياز، وأيضاً الثقافة الصومالية الإسلامية العربية، والأفريكانية ذات الجذور التاريخية، والثقافة الإيطالية التي كانت تعتبر مستودعاً حقيقياً للثقافة اللاتينية الأوروبية بمعناها الواسع. هناك ميزة أخرى وهي ميزة التفاعل مع ثقافات أخرى، وبهذا المعنى أستطيع أن أقول إن الحالة العربية لم تكن حالة انتساب سلالي بالمعنى التقليدي للكلمة، ولكنها أيضاً كانت حالة ثقافية. المدرسة الدينية والحياة اليومية كلها كانت تحمل ذلك الشغف، والحقيقة أن المهاجرين أينما كانوا في العالم يتمسكون بالجذور أكثر ممن يعيشون في بلدانهم، ويظلون يحنون لتلك الجذور التي تترسم في أذهانهم بمزيج من الحقيقة والخيال. عندما انتقلت إلى اليمن بعد نهاية الثانوية العامة كنت كأنني أنتقل في الحارة ذاتها، لا يوجد شيء غريب بالنسبة لي. وبما أنني عشت بعيداً عن اليمن فأنا أعتبر تلك المُقدمات حالة للثقافة العربية الصومالية الأفريكانية الأوروبية. الحالة اليمنية تمثل معادلاً مركزياً في هذا الأفق، لأن اليمن شهدت حضارات تاريخية قديمة، السبئية والحميرية، المعينية والحضرمية، وكل هذه الحضارات تمثل مقدمات للحضارة العربية، وأيضاً للحضارات الإنسانية التي انتشرت على ضفاف إفريقيا الكبرى، وخاصة في شرق إفريقيا والهضبة الاثيوبية. ويمكننا تلمس هذه الترميزات الحضارية في تضاعيف تلك الشفرات التي تفاعلت في اليمن التاريخي محمولة بوعاء العربية، وتلك الشفرات التاريخية التي ما زالت بعض آثارها في أثيوبيا والصومال وتنزانيا. مثل هذا الأمر سياق جبري لكل الحضارات الإنسانية، في مصر والعراق وسورية وفي أي مكان من العالم. فإذاً، هذا ما يمثله اليمن بالنسبة لي، فالانتماء يتجاوز المعنى السلالي ليصير حالة دالة.. يتجاوز الزمكانية إلى ما أُسميه بالحضارة.. الحضارة بوصفها الترميز الأقصى للحقيقة الكلية.. الحضارة المتصلة بالإنسانية، المتداخلة المتواشجة بالضرورة. البيان اللغوي السلالي للحضارة لا يعني كونها فريدة ذاتها أو أنها مقطوعة الجذور عن الحضارات الإنسانية الأخرى.. كل حضارة تعني وتحمل في نهاية المطاف البصمة الإنسانية المتعددة الشاملة، ولهذا كانت من حسنات إقامتي الطويلة في المهاجر وتنقلي أيضاً في إفريقيا وأوروبا لسنوات، طويلة.. من حسناتها الكبرى أني أصبحت على يقين بأن الإنسانية واحدة، واللغات الإنسانية واحدة، وهموم البشر واحدة، وأن ما يجمع الناس أكثر بكثير مما يفرقهم لولا القوانين والأعراف الدنيوية الموروثة من تواريخ المتاهات والاستبدادات والاستباحات.

هل يعني هذا أنها دعوة إلى تقارب الحضارات؟ أنا أعتقد أن الحضارات الإنسانية تخرج من نبع واحد. أقول هذا الكلام استناداً إلى الحقيقة الكونية لواحدية البشر، من حيث الهيئة والشكل، ومن حيث القابليات التي تدلل على أننا جميعاً من جذر واحد. فنحن عندما نتحدث بأي لغة من هذه اللغات فإنما نستخرج الأبعاد الصوتية من إمكانياتنا التشريحية الجسمانية، وهي ذات الإمكانيات المتوفرة عند أي إنسان على وجه الأرض. وتبعاً لذلك فإن درجة استخدام هذه الإمكانيات متعددة، فهنالك من ينطق الحرف بشكل ما، ومن ينطقه بشكل آخر، ثم تتغير هيئات الكتابة لهذه الأحرف بكيفيات مختلفة. لكن هذا الأمر لم يلغ بحال من الأحوال النبع الواحد وكون الإنسان الحالة المركزية فيما يتعلق بهذا النطق. إذا كان الأمر بهذه المثابة في اللغة فإننا نستطيع أن نتصور الأبعاد الأخرى. لذلك لا نستطيع اليوم أن نتحدث عن شعب من "الأقحاح" أو من نوع واحد، ولا نستطيع أن نتحدث عن لغة مقطوعة الجذر بلغات مُشابهة، فعندما نتكلم عن العربية نومئ ضمناً إلى الآرامية والسريانية، وعنما نقف أمام اللغة الرومانية فكأننا نستعيد ضمناً الإيطالية والفرنسية والبرتغالية والإسبانية . هذه الأشياء تدلل تماماً على أن الإنسان واحد، ويبقي ما يجري على الأرض من صراعات وخلافات واستدعاءات للأفكار الشوفينية، والأفكار الدينية المتعصبة، والاستيهاميات الطائفية تعبير عن الوجه الشرير المقرون بتاريخ البشرية. هذا أمر يخالف الطبيعة الأصلية للإنسان. ولهذا السبب كانت دعوة الأديان والرؤى البناءة إلى توحيد الخالق ووحدة البشرية، وإلى استيعاب "الفرق في عين الجمع"، وإلى استكناه الجامع المشترك بين الناس. واليوم، عندما نتعامل مع الكمبيوتر، على سبيل المثال، نرى أنه حاضن للغة اللغات الكونية، وأنه يُشفّر هذه اللغات أو يعيدها إلى بُناها الخوارزمية الرياضية التي تتموسق وتتناوب وتترافق في إطار التقاطع بين الأرقام فيما يسمى بعلم المصفوفات. كل شيء يمكن أن يتحول إلى مصفوفة matrix مما يدل دلالة عميقة ومؤكدة على أن هناك وحدة إنسانية ليست في اللغة فقط، بل في كل الأشياء. مع هذا التنوع الفكري والفني والعلمي، ولنقل التنوع الحضاري، كيف تجمع بين كل هذه الجماليات التي تحملها سواء في الفن التشكيلي والأدب أو الاقتصاد والرياضيات؟ كأنما هذا المسار مرقوم في الغيب، وكأنه كان مقرراً أن أنشأ في هذه البيئة حيث علي أن أتحدث بثلاث لغات: أتعلم بالإيطالية وأتحدث العربية والصومالية، وتالياً الإنكليزية والرومانية.. تعلمت من الإيطالية وسياقها الصرفي البنائي والصوتي العلاقة ذات الطابع الاستثنائي بالموسيقا وبالتشكيل أو بالمعالجات البصرية اللونية، لأن مدرستي الابتدائية الإيطالية كانت تعلم اللون والموسيقا بالتجاورمع الكتابة والنطق، وكأنه كان مرصوداً في لوح الغيب أيضاً أن تصل بي هذه المقدمات إلى دراسات علمية رياضية جبرية برهانية.. أن أدرس الاقتصاد في الجامعة ببوخارست، ثم أواصل الماجستير عبر رسالة عن إشكالية التبادل النقدي الدولي وأثرها على البلدان النامية، وأن أتوج كل ذلك بنيل الدكتوراه في الاقتصاد الدولي. لكن، وبالترافق مع كل هذا، كانت اهتماماتي مُتقادمة بعلم الجمال والفلسفة والديانات والرؤى والتشكيل. لم تأت هذه الأمور تلقائياً ولكن محمولاتها الأولى كانت قادمة من الطفولة. أنا أزعم أن مثل هذه الأشياء لا يُخطط لها الفرد بل تأتي بشكل تلقائي.. ضمن هذا النوع من التواشجات التصادمية الحميدة، التي تؤكد في نهاية المطاف الاقتراب المعنوي والدلالي والذوقي من كل رافد من هذه الروافد. ولهذا أشعر، وعلى سبيل المثال، أن علم الاقتصاد تعلمت منه فيما تعلمت النظرة الكلية macro لعلم الظواهر. كيف تُحاصر الظواهر إدراكياً ومعرفيا بنظرة كُلية، ومن الفلسفة تعلمت كيفية قراءة ظواهر الوجود وعلم أعم قوانين الطبيعة والمجتمع من خلال المفردات التي تحلق في المفاهيم الجوهرية، وتعلمت من الرياضيات علم موسيقا الوجود، فالرياضيات تجري في نهاية المطاف ضمن توافقات وتبادلات قائمة على لوغاريتمات أو خوارزميات، رياضية جبرية، تؤكد ميزان الوجود الذي نراه في الموسيقا كما في الكتابة، كما في الهيئات والأشكال.. من الرياضيات تعلمت ما يسميه جابر بن حيان علم الميزان أو علم دوزنة الحقائق لأنها محكومة بميزان معلوم حتى وإن بدت صدافية واعتباطية.. حتى وإن بدت تلقائية وفوضوية، فالحقيقة أن كل ما نعتبره فوضى محكوم بنظام داخلي متين، هذا النظام الداخلي المتين هو نظام كلي وجودي إلهي يحكم ويضبط كل هذه المسائل. ـ من يتابع كتاباتك يجد القرب أو تلمس شيء من الصوفية. بمن تأثرت من أعلام التصوف: الحلاج، ابن عربي، السهروردي أم النفري؟ أنت ذكرت أسماء في غاية الأهمية، ذكرت المتصوفة العرب والمسلمين على وجه التحديد، كل المتصوفة يحملون ذات الفكرة ويحملون ذات الرسالة، لكنهم يتمايزون في طريقة التعبير. الحلاج، على سبيل المثال، كان بواحاً مُلغزاً. ولكنه، في ذات الوقت، ومع هذا البوح والإلغاز الذي يصل إلى أن يكون صادماً كان يؤكد ذات المفاهيم التي نجدها عند آخرين مثل الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، الذي يمكن اعتباره الشارح الأكبر للتصوف لأنه أقام صروحه المعرفية في بحار المعاني والدلالات والمفاهيم. الحلاج البواح الصادم يُكسي اللغة قيماً دلالية مُغايرة للمفاهيم التقليدية التي يمكن أن تنطبع في أذهان الناس، وهو كمن يقول إن هذه اللغة حمالة أوجه، وأن الدلالة متغيرة، وأن الفجوات التي تعطيها اللغة في المعنى والمبنى تعني في نهاية المطاف حرية الاجتهاد في قراءة الجوهر الواحد من خلال تعبيرات متباينة ومتغايرة ومتصادمة. نزعته المُقلقة للمألوف كانت تنبع من خاصيته الشخصية، ولقد ساعده، في تقديري الشخصي وإلى حد كبير، تبحره في الآداب البوذية والهندوسية والمانوية. فمن المؤكد أن الحسين بن منصور الحلاج كتب في الرياضيات الروحية الدينية، ومن المؤكد أن له تلمسات للفلسفات الشرقية، ثم إنه كان عليماً بمقتضيات الشريعة، ومتاهات الحقيقة. هذا هو الحلاج والحديث حوله لا ينتهي أبداً.

ثم نأتي على نموذج آخر وهو الشيخ محي الدين بن عربي، الرجل الذي وُصف بأنه "له في كل معسكر قدم"، وهذا يعني بكل بساطة بأنه "جمع فأوعى" وأعاد الإنتاج، وصرّف المفاهيم، وأبحر بها ذات اليمين وذات اليسار حتى ان استقراءه ومتابعته ومجاورته أمر يمكن أن يتطلب عمراً بكامله، فـ "لا يُعرف ابن عربي إلا من ابن عربي" كما قيل، لأنه في حقيقة الأمر استخدم التعمية codification والإشارة والعبارة، واستخدم الشرح الوافي، واستخدم الكلام المرسل المنظوم الشارح، فكان الحامل الأكبر للرؤية الصوفية ونظرتها للوجود وما يتجاوز الوجود. أيضاً هنالك محمد بن عبد الجبار النفري صاحب العبارة المكثفة التي تحمل في دواخلها كثيراً من فضاءات الانزياحات الدلالية والمعنوية، والتي تحمل في دواخلها أيضاً غنائية لفظية خارقة للعادة، وأزعم أن النفري أكثر من طوَّع الاتصال غير اللفظي، تماماً كأبي يزيد البسطامي صاحب الشطحات النصّية الخارقة للعادة. وهكذا كان لكل منهم بصمة، ولكل منهم تأثير، ولكل منهم أفق من الآفاق. نحن قرأناهم بالعربية، ولكن منهم من كتب بالفارسية كجلال الدين الرومي صاحب "المثنوي"، وحافظ الشيرازي، وفريد الدين العطار.. المسائل والمفاهيم الأساسية التي يقدمونها واحدة تصب في نهاية المطاف في مجرى التأكيد بأن كل شيء نابع من الحق، وأنه جاء بكلمة من الله. وكل مُمكن يُعاين أو يُبرهن عليه ليس إلا جزءاً من حقيقة كلية، وأن المعرفة الحقيقية والجوهرية كامنة في الغيب وليست في الظاهر المرئي، وأننا نتجشم عناء أن نعرف ولكننا لن نعرف إلا أقل القليل مما يتّصل بالمعرفة، وتصلنا المعارف بتراتبية متتالية.. واحدة تلو الأخرى إلى ما لا نهاية.

تتحدث في كتاباتك عن الحركة والسكون وجدلية الخفاء والتجلي، المرئي واللامرئي، هل هي الحياة التي نراها ثابتة أم كل شيء يتغير؟ كل ثابت يتحرك ولكننا لا نستطيع أن نراه، حتى الأشياء التي نراها ثابتة إنما هي في حراك جدلي وفي حراك حقيقي فيزيائي، هذا الحراك معطاه أن للأشياء حياتها الخاصة. هذه النقطة ألحظها عند امرئ القيس الذي كأنه كان يدرك تلك المعادلة واصفاً الجواد بقوله "مكر مفر مقبل مدبر معاً..". كيف توصل هؤلاء الشعراء الى معاينة المتحرك في الثابت والثابت في المتحرك؟.. يفسرالحلاج قائلاً: العلم علمان مطبوع ومكتسب والبحر بحران مركوب ومرهوب العلم المطبوع هو الذي يأتيك من حيث لا تحتسب، نسميها موهبة.. فراسة أو نسميها ما شئنا، أما العلم المكتسب فهو العلم الذي يأتينا رسماً عن رسم وكتاباً عن كتاب وخبرة عن خبرة، تبعاً لذلك عرب الجاهلية يتبعون الترميز، كالرمز عند امرئ القيس.. ما كانت العرب أُمة جاهلة بالمعنى الذي نحن نفهمه، بل كانوا على صلة أفقية ورأسية بالحضارات الإنسانية والديانات المختلفة، وكانت الحياة عند عرب الجاهلية مقرونة بنزعة أبيقورية فلسفية بعيدة عن المتعة المجانية. الوصف الذي قاله امرؤ القيس عبارة عن مقاربة لتلك السرعة التي تصل إلى حد أنها تتوحد مع السكون، وهو ينعت جواده بكثير من صفات الحيوانات القوية والسريعة، ويتصور أن حصانه مُقيد في سرعته "قيد الأوابد هيكل".. كأن كل هذا الحراك يتحول إلى شيء ثابت أشبه ما يكون بألوان الطيف التي لا نراها إلا عبر الموشور.. تنكشف ثم نرى تلك الألوان. العرب ما قبل الإسلام كانوا أصحاب فكر ودليلنا بيانهم الشعري، فهم لما قسّموا الشعر إلى "بيت" و"شطر" و"عجز"، وأقاموا صرح القافية والتفعيلة، عدت هذه مسميات متناسبة مع مسميات الدور، فلكل بيت باب، ولكل بيت صدر، ولكل بيت مدخل، ولكل بيت عمود، ولكل عمود بداية وقفلة، وذلك من حيث الشكل. فهذه المسميات تدل على أن قوانين الشعر هي قوانين العمارة، وأن قوانين السكون والحركة في الشعر هي قوانين الموسيقى، ودليلنا على ذلك أن الخليل بن أحمد الفراهيدي عندما أراد أن يتعرف على موسيقى الشعر العربي لجأ إلى الموسيقى المجردة حتى يعرف التراتب بين الحركة والسكون من خلال التراتب في الإيقاعات والأصوات. البيت الشعري العربي مضبوط بمتوالية الحركة والسكون تناوبا رياضياً موسيقياً جبرياً، تماماً كما يقود المايسترو فرقة عزف موسيقية.

بما أننا نتحدث عن الشعر العربي، نرى أن قمة الشعر العربي القديم تجلت في المعلقات، هل وصل الشعر في العصور اللاحقة إلى مثل ذلك المستوى؟ وكيف تنظر إلى الشعر في الوقت الحالي؟ الذي يحصل في كل انعطافة تاريخية من تواريخ البشرية أن جزءاً من ثقافة الإنسان القديمة تنحسر وجزءاً من ثقافة جديدة تتخلّق حتى ولو كان الوعاء الحامل لهاتين الثقافتين نفس الوعاء. ثقافة العرب ما بعد الإسلام هي ثقافة العرب ما قبل الإسلام، ولكن تغير مضمون الشعر وأهداف الشعر وطريقة التعبير في الشعر. القرآن الكريم هو نقطة الانطلاق المركزية للثقافة العربية الإسلامية التي جاءت بعد الإسلام، القرآن الكريم لم يكن مشروعاً عربياً ولكنه كان مشروعاً إنسانياً موجهاً إلى الناس كافة، والحامل لهذا المشروع الكوني تمثّل في لغة القرآن "العربية ".. اتسعت الآداب القرآنية بالتفسير والتأويل لكي تشمل الثقافات الواسعة في كل آسيا وإفريقيا وأوروبا. هذا يدل على أنهم امتلكوا ثقافة إنسانية كبيرة جداً، حتى عندما نتحدث عن علم التفسير وعلم الكلام باعتبارهما محطتين كبيرتين تلتا عصر التدوين.. نتحدث عنهما باعتبارهما علوماً عربية إسلامية أسهمت فيها العديد من الثقافات التي كانت موجودة في العالم، الفارسية والهندية والبيزنطية وغيرها، بدليل أن جدل الكلام كان موصولاً بالرؤى الفلسفية البيزنطية الإغريقية والآداب المسيحية واليهودية على تنوعها.

مما سبق نستطيع أن نتبين الفارق النوعي بين شعر الأسلاف وشعرنا، وكيف أن الاشتغال الفائق على البيان والبديع التاريخيين كان قرين اشتغالات فكرية موازية وصلت الى تخوم المشروع العالمي.. هذا لا يعني بحال من الأحوال أن الماضي مثال يمكن استدعاؤه، لكن هذا لا ينفي ميزة الماضي العربي الإسلامي الذي اقترن بفتوة حضارية ورسالية ودولتية مؤكدة، مما لا وجود له في أزمنة الرذاذ العربية الماثلة.

هذا يذكرنا بحركة الترجمة الواسعة أيام المأمون، هل ترى أن الفلسفة الإغريقية هي بداية التفكير العلمي وانطلاقة العلوم عند العرب؟ إذا انطلقنا من التدوين، نحن في مشكلة، لأن ما عُرف منه أوروبياً كان مُجيراً على الثقافة التدوينية الإغريقية وخاصة ما يتعلق بجدل الكلام، أي جدل الفكر،خاصة وأن الإغريق تميزوا بنظرة دنيوية ميتافيزيقية متنوعة ومتعددة، بل إنهم وضعوا هذه النظرة ضمن مراتبية محكمة الإغلاق ومحكمة التفاعلية بين الأعلى والأدنى، وإلى ذلك قدموا بعض المشاريع المتعلقة بالمسائل الأرضية، وكانت لهم نظرات تصوف ولهم استقراءات كلامية فلسفية. لكن هذا الأمر يعود إلى بداية التدوين ولا نستطيع أن نتحدث عن تلك البدايات، لأن مفهوم البداية مثل مفهوم الما بعد، فليس هناك ما قبل وما بعد، لأن هناك آداباً وأفكاراً إنسانية لم تصل إلينا، ولكن ما زالت بعض ملامحها المدونة تدلل على أنه كانت هنالك أيضاً رؤى مثل فكرة التوحيد عند إخناتون التي وصلت إلينا بطريقة متواضعة، وكتاب الموتى عند الفراعنة الذي له علاقة بمفهوم الحياة والموت وما بعد الموت والبعث وما قبل البعث، وله علاقة بنسبية الحيوات وسرمدية الموات والانتقالية في عالم الموات، وكانت الدور بالنسبة لهم ليست الدور التي نسكنها ونحن أحياء، بل هي تلك التي نسكنها في المقابر بعد الانتقال من الحياة الدنيوية.. أزعم أن المدونات التي وصلت إلى الإنسانية لا تمثل إلا القليل من الحقائق. ولهذا، لا بد من اللجوء إلى استنطاق الحجارة، وإلى استنطاق اللُّقى الأثرية، وإلى إمعان الذائقة لمعرفة أن لكل بداية بداية قبلها، وأن لكل نهاية ما بعدها، ولا نهاية للتاريخ. الشيء المهم هنا الإشارة إلى أن النزعة المركزية الأوروبية حاولت أن تعمل time table أو جدولة لتاريخ الفكر الإنساني، وفي هذا نوع من المخاتلة برأيي الشخصي.. ورثنا من تلك المدونات أشياء هامة، ولكن القول بمركزية المرحلة، ثم بعد ذلك تجاوز مراحل هامة كان فيها للحكم العربي الإسلامي فعل عظيم في الشؤون الثقافية والفكرية والحياتية.. هذه المرحلة تُغفل عن عمد من قبل العقل المركزي الأوروبي الذي يبتغي شوفينية من نوع آخر. في المقابل عندنا مركزيتنا الخاصة، ولهذا السبب فإن الحقيقة توجد في مكان ما في منطقة وسطى بين الأقوال والتنظيرات ذات الجذر الشوفيني بالمعنى القومي أو بأي معنىً آخر.

العالم الحديث مهتم بالعلوم منها المادي والإنساني، لماذا تراجع العالم العربي في هذا المجال واكتفى بتحصيلها في الغرب؟ لكل شيء إيجابيات وسلبيات، نحن عندما نتحدث الآن عن النزعة العلمية المعرفية البرهانية فإننا نتحدث عن نتاج للفلسفة الأوروبية التي بدأت في القرن الثالث عشر ضمن إطار فك الاشتباك غير الحميد بين الكنيسة في القرون الوسطى وبين الآداب الإنسانية التي سبقت هذه الكنيسة. الثورة المعرفية التي قدمتها الكنيسة يومها والتي قادها أمثال توما الأكويني، اسبينوزا.. هذه الثورة المعرفية كانت تعني فيما تعني الانخلاع عن اللاهوت الكنسي الذي قيد مساحة التفكير والعقل، وتعني ايضاً إخراج العلم اللاهوتي من عنق الزجاجة إلى فضاء الرحابة الإنسانية، تفاعلاً مع الإسلام وآدابه ورؤاه الكلامية والفلسفية، وأيضاً مع الأغارقة. ومن يومها نشأت تباشير الحلحلة الأُولى للخصومة بين العلم والدين، إلى أن جاءت لحظة الفكر العقلي البرهاني الذي استبعد الميتافيزيقا استبعاداً إجرائياً وليس إلحادياً كما يتوهم الكثيرون. هذا الاستبعاد الإجرائي كان يعني ببساطة شديدة الاهتمام بالشأن الدنيوي بذاته، التأمل في الطبيعة وقراءة الظواهر وقوانين الوجود الموضوعية بذاتها. تبعاً لذلك كان هذا التقدم المعرفي العلمي البرهاني هائلاً، وخبت الميتافيزيقا وأصبحت روحانيات فلكلورية. اليوم وصلوا في أوروبا وفي هذا العالم العلمي الكبير إلى منطقة متقدمة في البرهان والعقل بمقابل افتقاد الروحانيات، فالإنسان ليس كائنا فيزيائيا "أبيقورياً" يعيش اللحظة فحسب، بل إن لديه حاجات تتجاوز الضرورات المادية الصرفة. العواطف ليست مادية.. كذلك المشاعر والحالة الوجدانية، ومفهوم السعادة ، والعلاقات الحميمية. كل هذه الأمور تدخل في البُعد الآخر للقيم الإنسانية.

هنا مأزق الفكر المادي البرهاني الرياضي الجبري، فمن جراء الاستبعاد الإجرائي للميتافيزيقا وصلوا إلى مجافاة الروح. بالمقابل نحن أمعنا في إلغاء العقل، فمنذ رفض "الاعتزال الكلامي"، وإلى يومنا هذا ونحن نمعن حتى في التعدي على الغيب ونزعم وندعي أن هناك من هو قائم على أمر الغيب ومن يحل محل الحق، ومن يفتي نيابة عن القرآن، ومن يقدم موازياً مفهومياً للنص الديني. هذه المشكلة نجدها في كل المذاهب الإسلامية، وسنكتشف في نهاية المطاف أن هناك مؤسسة دينية استبدادية، مُقيمة في مرابع التاريخ البائد، وفي تلك الشروط التي استنفدت أغراضها وتستخدم الدين كما كان يستخدم في القرن الثاني عشر والثالث عشر في أوروبا.

فإذاً لسنا هنا أمام دين بالمعنى الروحي المجرد للكلمة وإنما نحن أمام مؤسسة دينية، وأمام مؤسسة دينية مرتبطة بمؤسسة سياسية مقيمة في مرابع الاستبداد. هذا يعني بكل بساطة أن علينا أن نفض هذا الاشتباك غير الحميد بين الواقع والمجتمع.. الوجود الاجتماعي من جهة، وبين هذه المؤسسة التي تتدثر بالروحانيات، وتتدثر بالماورائيات من جهة أخرى، وأنا لا أقول هذا الكلام من باب التعميم، لأن هناك اجتهادات دينية، وهنالك من هم وسطيون وعقلاء من علماء الدين ومن يتلمسون في تاريخ الأسماء العظيمة، ممن أصَّلوا علوم الدين كالإمام محمد بن حامد الغزالي الذي قال بكل صدق ما معناه: لقد قرأت البرهان فلم أجد جواباً، وذهبت بعيداً في الكلام فاحترت، وجرّبت التصوف ولم أتمكن من السير في هذا الدرب. بكل هذا التواضع كان الغزالي وكأنه يقول: لا تبحثوا عن الجواب من خلال العقل المجرد، ولا تقتفوا الكلام أو الرأي حد السفسطة، ولا تتساهلوا في درب المشقة الصوفية الذي يمكن أن يحار فيها بعض الناس. ماذا عن القطيعة مع التراث؟ هناك أسماء مهمة مثل أدونيس وكمال أبو أديب وغيرهما يدعون إلى ذلك، برأيك هل القطيعة ضرورية للتطور؟ دعيني أتكلم عن واحد منهم أدونيس على وجه التحديد لأنه مثير للجدل- أنا تتبعت كتابات أدونيس منذ " أغاني مهيار الدمشقي، وفاتحة لنهايات القرن، الثابت المتحول بأجزائه، وزمن الشعر، ومقدمة للشعر العربي، والصوفية والسريالية، وديوان الشعر العربي وأمس الكتاب الآن، ومفرد بصيغة الجمع.. الخ.." وكثير من كتاباته ورؤاه، وتابعت مناظراته. وأنا أعتقد أنه يتمتع بموهبة استثنائية وسحر لغوي، وبذكاء حقيقي مقرون بثقافة عالية. ولكنه يتعامل مع التاريخ الإسلامي تعاملاً يتّسم بدرجة عالية من القسوة، ويسلخ هذا التاريخ العربي الإسلامي من كل تواريخ البشرية سلخاً يتبدى وكأنه سلخ غير مفهوم، بمعنى أنني عندما أتكلم عن تاريخ التعذيب في الإسلام، وعن تاريخ الدماء في الإسلام، وعن تاريخ الصراعات في الإسلام لست معنياً بتبرير تلك الحقائق، ولكنني معني بالإشارة إلى أنها ليست الوحيدة في تواريخ العنف البشري. ففي أوروبا التاريخية كانوا أكثر قسوة، فإذا كان أسلافنا يسملون العيون، ففي تاريخهم يخلعون الجلود، وإذا كانوا يقتلون بالسيف في عوالمنا العربية، فانهم كانوا يخوزقون الناس. هذه ليست مناظرة بيننا وبين أوروبا، ولكن تاريخ الوحشية التي جاءت من تضاعيف الأديان، وكذبت باسم الأديان،الأديان الموحدة الثلاثة، لا علاقة لها بالنصوص الأصلية، وهي ليست حكراً على المسلمين والعرب، بل إنني أزعم أن العرب والمسلمين أقل فداحة في وحشيتهم التاريخية. ألاحظ هذا البعد عند أدونيس وهو بُعد يكرسه، ولا أدري لماذا يكرسه،بهذا الإمعان. الشيء الآخر، وهو مهم جداً، أنه عندما يقوم بتصنيف إجرائي توصيفي للاتباع والإبداع في التاريخ العربي الإسلامي، ينتخب انتخابات يميل فيها إلى الألوان الفاقعة. أنا لا أستطيع أن أعتبر محمد بن حامد الغزالي، على سبيل المثال، متبعاً نمطياً تقليدياً، بل كان وسطياً مجدداً، وبعض أئمة الشيعة كانوا مجددين. الاختيارات الممعنة في تكريس التصادمية الحادة بين الاتباع والإبداع صفة أساسية في كتابات أدونيس. فمن لا يعترف مثلاً بشعر الصعاليك أنه شعر تمردي؟ ومن لا يعترف بأن في التصوف أبعاداً جميلة جداً؟ أنا لا أختلف معه في هذه الأشياء.. من لا يعترف بالشكيين الكبار الذين كانوا موجودين؟ من لا يعترف بجابر بن حيان والتوحيدي؟ كل هذه أمور جيدة ذكرها أدونيس، ولكن المهم في الأمر أن لا أضع هذا النوع من التوصيف الإجرائي في نوع من الاستغراق التمازجي الفاقع مع الذات، وخاصة فيما يتعلق بأمر التعامل مع تاريخنا الخاص، دون أن ندافع عن هذا التاريخ بحال من الأحوال. أنا قرأت تناولات متنوعة لتاريخنا عند هادي العلوي، نصرحامد أبو زيد ، محمد حسين هيكل، حبيب جاماتي، عباس محمود العقاد، طه حسين، وآخرين.. لكنني لم ألمس ذلك الإمعان الخادش المُتجنّي كما عند أدونيس. والنقطة الثالثة، التعامل مع إبداعات النهضة. إن رؤية أدونيس إلى عصر النهضة هي على هذا النحو ببساطة شديدة، فالإحيائيون النهضويون العرب لم يقدموا جديداً، وأنهم إنما أعادوا إنتاج الماضي فحسب. والحقيقة أن اعادة إنتاج الماضي ليست تقليداً ميكانيكياً بل ينطوي على تمثل ضروري لمفردات الماضي الإبداعية، توطئة لانزياحات مؤكدة. لكن الاحيائيين لم يكونوا بعيدين أيضاً عن التراث الإنساني. ألم يكن سلامة موسى على تماس بالثقافة الأوروبية؟ ألم يكن زكي نجيب محمود على تماس بالثقافات الإنسانية الشاملة؟ ألم يكن طه حسين على علاقة بالأفكار الشكية الكانتية؟ ألم يكن علي أحمد باكثير على تماس بالثقافة الدرامية الأوروبية بمعناها الكبير، أي بالثقافة الشعرية الأوروبية؟ إذاً، هذا التعدي وهذا التعميم على فترة الإحياء النهضوي بما في ذلك حتى على أحمد شوقي، فيه نوع من الاستطرادات السريعة التي لا تليق بمقام أدونيس، ولا أنسى في هذا الصدد توصيفه الاستنسابي للجواهري والبردوني ووضعهما الإجرائي في شعر العصرين الأموي والعباسي. وأخيراً، وليس آخراً، كتاب "الصوفية والسريالية": الذي يدخل الصوفية في ثقب الإبرة السريالية.. الفكر السريالي يتشابه مع الصوفية في جوانب كثيرة.. فيما يتعلق بالبعد الأنوي. الأنا السريالية فيها نوع من الانخطاف وفيها نوع من التطير ولكنه ليس تطيراً مُتروحناً كما يقول هادي العلوي، ليس تطيراً قائماً على اعتناق مبادئ ذات قيمة عليا ما ورائية. السريالي شخصية مادية وجودية خارجة من رحم الشك ومن رحم الفكر والبرهان العقلي، ومن رحم الرفض العدمي. لكن المتصوف حتى في ما يبدو متطيراً، يحمل في دواخله حالة انتماء للمثال والمطلق .. يقدس العلاقة الزوجية ويحترم الصداقة، يتعاطى مع الطبيعة بسوية أخلاقية.. ليس استهلاكياً نهماً، وهو مُقل وزاهد، فمن الصعوبة بمكان أن نعتبر التشابهات الشكلية بين البعدين الصوفي والسريالي مثابة للمعاني الكبيرة . لعل هنالك بعض السرياليين لديهم اهتمامات بالتصوف، ولكن عندما أتكلم عن تيار فكري وفلسفي وسلوكي لا أستطيع أن أضع الصوفية والسريالية في نفس المربع. هـل يمكن أن يـكون وراء هذه القطيعة مع التراث والتقرب من الغرب الطموح إلى جائزة نوبل؟ وهل هذه الجائزة مرهونة بقضية السلام مع إسرائيل بالنسبة لأدونيس؟ لا، هذا موضوع لا أحب البحث فيه.. ونوبل لن تضيف شيئا لأدونيس الشاعر والمفكر.

لكنه مطروح في الساحة الثقافية ومن حقنا أن نناقشه.

كـلنا نحن العرب متـألمون من الأوضاع القائمة في العالم العربي، وكلنا نتوق إلى مجتمع أفضل وأحسن، ولكنا نشعر أن رزايا تاريخنا الحاضر أثقلت على أوضاعنا القائمة حتى اننا أمام أوضاع جمهورية وأوتوقراطية وأوضاع ملكية لا مرجعية لها في تاريخ الملكيات العربية، وتشوهت حتى الحاكمية، بمعناها الادعائي الجمهوري والسلطاني معاً، هذه آلامنا المشتركة جميعاً. قرأت مؤخراً كتاباً لأحد المفكرين اليهود يقول فيه لا يوجد شيء اسمه مجتمع إسرائيلي، ولا جنسية إسرائيلية في هذه الدولة التي تدعي أنها علمانية واسمها إسرائيل، فهي دولة تميز بين من يحملون الجنسية الإسرائيلية، وهي دولة ما زالت مشدودة بخيط رفيع وقوي جداً بالاستيهامات الدينية التوراتية، وبما يسمى بالديانة اليهودية، لكنها في نهاية المطاف تفرق بين يهود الأشكيناز والسفرديم، ناهيك عن الفلاشا والعرب، وقوانينها متضاربة من الداخل، وحالة الوحدة القائمة من داخل هذه الدولة أقرب ما تكون إلى وحدة الخوف منها إلى وحدة الرؤية، مع الإقرار بكثير من النجاحات التي يعملونها بسبب الإخفاقات العربية أساساً. فإذاً، إسرائيل بحد ذاتها مشكلة توصيفية، مشكلة جغرافية، مشكلة تاريخية، هي تركيز مكثف لمشاكل كونية وعالمية منبعها القارة العجوز أوروبا وامتداداتها في الولايات المتحدة، وضحاياها العرب وغير العرب ممن يتعاملون مع هذا الوضع الغرائبي غير السوي. ولهذا السبب كلنا نتعامل مع اليهود شئنا أم أبينا، أنا لا أتكلم عن اليهود بالتعميم الإطلاقي ولا بالتعميم الثقافي، أنا أتكلم عن الصهاينة الذين يحملون جوازات سفر غير إسرائيلية، كبار الصهاينة يحملون هذه الجوازات ولا يعيشون في فلسطين.. هناك أصوات من اليهود الذين يعيشون في فلسطين بوصفهم إسرائيليين يتحدثون بصوت عالٍ جداً ضد هذه المؤسسة وخرائبها.

طالما اقتربنا من السياسة، يبدو أن العرب تحكمهم الهيمنة السياسية والدينية، نجد أن الموقف السياسي يستند إلى تبرير من سلطة دينية، كيف تنظر إلى تدخل الدين بالسياسة؟ هناك قاعدة تقول إن الأطراف غير الرشيدة والمتناقضة تلتقي في منابعها وأهدافها، عندما يكون المنبع واحداً، والمصير واحداً تظهر هذه الحالة بين السلطة الرسمية في العالم العربي والتيارات الأصولية الأكثر تعصباً وعدمية، من السبب في ازدهار هذه التيارات ؟ أليست هي السلطة بذاتها؟ أليس هذا النظام بذاته هو السبب؟ هذه الأنظمة التي همّشت العقل، وهمّشت الليبرالية، وهمشت الحداثة، وهمشت اليسار واليمين. أليست هي السبب في اندحار الطبقة الوسطى؟ أليست هي السبب في انبعاث هذا المنطق الديني المتعصب للإسلام السياسي العلني؟ فالحالة القائمة الآن في العالم العربي تقع مسؤوليتها الأساسية على كاهل الأنظمة التي خرجت بشعارات وبأردية قومية ويسارية وتحررية، وتكشفت في النهاية عن كونها مخلوقاً مشوهاً للحاكمية التاريخية والفكر الجمهوري، حتى بالمعنى الأفلاطوني وليس بالمعنى الفرنسي أو الإيطالي. إننا نعيش في ظل أنظمة سلطانية خربة لا علاقة لها بمنطق العصر من حيث التناوب الشرطي بين الإدارة المدنية والحاكمية، فالحاكمية في هذه الأنظمة ليست شرعية بل مُلكاً "بضم الميم"، سواء كانت جمهورية أو غير جمهورية، والمُلك يعني ببساطة إلغاء الآخر بالمعنى المطلق والشامل، وكما أن لكل فعل ردة فعل، فإن هذا الإلغاء المُتعمد القسري الذي يفتقر لأي بعد روحي ومادي وحياتي، جاء برد الفعل العكسي القادم من التيارات الإسلامية التي نتمنى أن يكون فيهم رشداء، على الأقل وسطيون، فهناك فراغ حقيقي في الرؤيا وفي الخيارات، وهنالك تخبط حقيقي. أنا أعتقد أن الوضع القائم هو وضع احتقاني مخاضي عسير، والمحزن أكثر أن الأنظمة العربية ليست مؤهلة للتعامل الواقعي مع هذه الحقيقة، بل نراهم مخطوفين ومأخوذين بمُغالبة الحقائق عن طريق القوة، وعن طريق الترهيب والترغيب، ولكنهم لن يتمكنوا من دفع فاتورة الترغيب ولا يمكن لهم أن يمنعوا التغيير بالترهيب. نحن في عصر لا يسمح بالترهيب الذي كان يحصل في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم. كل شيء أصبح مكشوفا على الأرض وأمام العالم، العالم يتداخل، وأنظمتنا لا تستطيع دفع الاستحقاقات على المستويين المحلي والدولي.

ـ طالما اقتربنا أيضاً من الفاتورة والاقتصاد وأنت دارس له، كيف تنظر إلى الطفرة العقارية السريعة؟ التركز العقاري والاستثمار العقاري الكسول لا يمثل رأس مال محلياً في أي بلد عربي، وهو يمثل رأس مال مغسولاً ونوعاً من الهروب بالرساميل إلى الموقع الآمن، والمكان الأكثر قدرة على الاستيعاب، بالتالي تعبر الظاهرة عن الاوليغاركيا المالية التي لا تتورع عن تهريب مئات الملايين من بلد إلى آخر، وهذا نوع من العمى الحقيقي الذي مداه ليس محلياً في بلد ما، وإنما هو مدى إقليمي، وتعبير حقيقي عن الأزمة، والمحنة القائمة في كل هذه البلدان التي يتم امتصاص الرحيق منها، بل حصيلة خيراتها المادية من خلال هذا التهجير المالي. هناك مفارقة، فمقابل المليارات المغسولة يعيش الناس تحت خط الفقر وكأنهم ينتمون إلى قرون سحيقة، وبالمقابل يتم تشييد الأبراج هروباً بالأموال، ولكن إلى أين المفر؟ وماذا بعد؟ كيف يمكن لي أن أعيش بمنتهى الثراء والفقر منتشر في كل مكان؟ تلك هي الرسالة التي يفترض أن يفهمها عرابو المال والحروب الدولية الذين يرعون زمن المفارقات ويصوغون له. ـ سنعود إلى الأدب والفنون وتراجع الشعر وتقدم الرواية والمقالة الفكرية والفنية، ولكن الصورة تسيطر على هذه الفنون.

أولاً أريد أن أوضح ما يتعلق بالصورة، فالصورة عندي توازي كل ما في الوجود من صور.. الكتابة صورة والفراغ صورة وكل ما يحيط بنا من ظواهر تتمرأى أمامنا بوصفها صورة، ولكنها في ذات الوقت ليست مجرد صورة بصرية إنها تحمل في داخلها موسيقاها الخاصة وبالتالي نسمع هواجسها النغمية. وهناك صورة تُسمع ولها أنغام حقيقية مثل المسرح والتلفزيون والسينما، ثم إن لهذه الصـورة نكهتها الخاصة، وبهذه المناسبة أستعيد مقولتين في التراث العربي.

المقولة الأولى: الصورة باختصار هي أن نقرأ كل الظواهر والرؤى والشواهد بوصفها صورة ترى بالعين والقلب معاً كما يقول الحلاج "رأيت ربي بعين قلبي"، وكما يقول ابن عربي " لقد صار قلبي قابلاً كل صورة".

المقولة الثانية: أستعيرها من ابن عربي الذي كتب "فصوص الحكم" وكتبت تنويعاً عليه بعنوان "فصوص النصوص" واعتبرت النص كالفص، وللنصوص أشكال، فهناك نص بصري وهناك نص مكتوب وهناك نص مسموع وهناك نصوص تتجاوز المرئي والمكتوب والمسموع كالإشارة، وكالاتصال غير اللفظي، وكلها في نهاية المطاف نصوص، وهذه النصوص كالنبتات النابعات من أصل واحد ولكنها تتمايز في الحجم وتتمايز في التركيز، فهي بهذا المعنى "فصوص" فكل فصوص النباتات متمايزة بالضرورة من حيث أحجامها ومن حيث تركيزها لكنها جاءت من مصدر واحد ومن مكان واحد، ثم إنها تعبير مكثف عن الحالة الوجودية الكلية، إن ذلك الفص الذي يتحول إلى شجرة هو البذرة، التي تعيد إنتاج هذه الشجرة، لكن هذه الشجرة على تواشج مع كل ما في الطبيعة، مع الماء والتراب والهواء والكائنات والبرودة والحرارة وما إلى ذلك. هكذا تبدو النصوص خلاصة الخلاصة في هذا التعبير الإنساني. وتدخل في هذا الباب الصورة، فالتقاطع بين هذه النصوص وبين هذه الأشكال أو هذه الظواهر النصية ليس تقاطعاً افتراضياً، ليس تقاطعاً مزاجياً بل هو حقيقي. وبهذه المناسبة يمكن أن أستعيد بعض السير الإبداعية. كان الطبيب حكيماً وكان الموسيقي عالم رياضيات، وكان "دافنشي" يرسم وهو يسمع الموسيقى، هؤلاء لم يكونوا يفعلون ذلك لمجرد الترويح عن النفس، لمجرد أن هذا الشيء مجاور لذاك، ولكنهم كانوا يعتبرون هذه الأشكال مُحايثة لبعضها البعض.. بالمعنى التداخلي الإشكالي، أي أنها في حالة وصل وفصل مع بعضها البعض. من هذه الزاوية أنا أنظر للصورة في إطار الثقافة العربية الإسلامية. الصورة تعرضت لتعميم ما يسمى بعصر التدوين. في هذا العصر تم إخضاع الإبداع البصري لعلم الكلام، وكانت هنالك مقولات منها مقولة التشبيه والتنزيه، وهذه واحدة من التخريجات الكلامية المشابهة للمقارنة الميكانيكية بين العمل الواقعي والعمل التجريدي، وتبدو نسبية المقولة في كون العمل الواقعي في دواخله تجريد، وكل عمل تجريدي في دواخله واقعية. أنا عندما أرسم لوحة في إطار الطول والعرض أعتبر البُعد الثالث في هذه اللوحة افتراضياً، ولكني أرسمه ضمن نفس القوانين الهندسية التي آخذها من البعد الثالث الواقعي في الطبيعة، فكأنني أخلق إيهاماً وأصنع تجريداً في هذه اللوحة الواقعية. والحال فيما يتعلق بالعمل التجريدي، هذا العمل التجريدي إذا راجعته سأجد أن واقعيته تكمن في موسيقاه وتوازنه والكيمياء الغنائية التي حملت نفس المشكلة التي ترافقت مع علم كلام التشبيه والتنزيه، فكأن كل تجسيد تشبيه، لكن هل كل تجسيد يقترن بالبورتريت؟ .حتى في المسيحية كانت عندهم حرب كبيرة جداً اسمها حرب الأيقونات: لماذا نرسم؟ لماذا نشبه؟.. وتحديداً الكنيسة الأرثوذكسية.. يعني محاولة تليين الاشتباك بين التجريد والتجسيد أو بين الفكر الماورائي الموصول بالحقيقة الواقعية، والحقيقة التي تستمد النفحة مما هو غيبي ماورائي، وأن كل تمظهر في هذه الحياة الواقعية هو تمجيد مكثف لإشارة علوية. من هذه الناحية حصل نوع من الانحسار في ثقافة التصوير لصالح ثقافة التجريد، وكانت اللغة الحامل الأكبر لصالح الثقافة التجريدية. ولهذا السبب على وجه التحديد أصبح التجريد في الحرف العربي فناً قائماً بذاته. ونحن إذا رأينا النصوص العربية القديمة واستقرأنا عتبات هذه النصوص وكيفية كتابتها وكيفية التغني بزخارفها سنكتشف أنهم حولوا النص المكتوب إلى فن حقيقي تجاوزاً لهذا المنع الإجرائي الاستيهامي الذي جاء به علماء الكلام، وبالتالي انحسرت الصورة المجسدة أمام الصورة المجردة المموسقة بالزخرفة والنمنمة والنقش والرقش.

ـ سنعود إلى الفلسفة الإغريقية فنحن عندما نضع أنفسنا خارج الفلسفة، ألا يحق لنا أن نتفلسف ونتساءل: ما هو الوجود؟ ماذا يجب أن نفعل؟ ما هي الحقيقة؟ وكل هذه الأسئلة موجودة منذ القدم وما زالت مطروحة وسوف تبقى، وهناك من يجيب عنها في الغرب ويحق لهم هذا التساؤل كله وعندنا محرم وخط أحمر لا يجوز الاقتراب منه؟ في تقديري أن الفلسفة تعني بساطة شديدة التعاميم الكلية التي تحلق حولها كل العلوم، وتسمى قلب العلوم لأنها تنظر لما هو عميق وما هو جوهري، لما هو متماه تماهياً إيجابياً ومنسقاً مع كل الظواهر، الفلسفة يتفرع عنها كل شيء: الفن والرياضيات والموسيقى، ولهذا كانت تُسمى تاريخيا بالحكمة. وحاول ابن رشد في مقالته الهامة أن يفض الاشتباك بين الحكمة والشريعة الدينية فكتب "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال"، وقال يومها إن الحكمة اذا التقت مع الشريعة في المقاصد فإنه لا خلاف بينهما، وإذا اختلفت مع الشريعة في المقاصد أو في الأهداف النبيلة فإنه قد ينشأ خلاف. الفلسفة ببساطة شديدة تعني الحكمة.. تعني أن نتأمل وأن نرى وأن نستقرئ وأن ننظر إلى وحدة الوجود، وأن ننظر إلى وحدة التواجد، وأن نحلق بأجنحة وعقول من حرير وبرؤيا مفتوحة على الآخر. تعني أيضاً أن لا نرفض لمجرد الرفض، وأن لا يكون لدينا مُسبقات ذهنية، وأن لا نعتقد بأننا نرى كل شيء ونعرف كل شيء، هذه هي الفلسفة.. هي علم الحكمة، والحكمة هي الحاضن الكبير لكل العلوم الأخرى، فأي علم وأي ثقافة وأي ذهن أو أي معرفة إن لم تكن محمولة بالحكمة فهي محدودة. الطبيب الحكيم غير الطبيب الماهر، والكاتب الحكيم غير الكاتب المهني، والفنان الحكيم غير الفنان الذي يعرف علم الألوان وعلم المنظور والكتلة. الحكيم هو الذي يرى ما وراء الظاهر، والحكيم بمعنى من المعاني يجاور الفلسفة ولكنه إلى ذلك يجاور الروحانيات، وسنرى أن كبار المكتشفين وكبار العلماء الذين اجترحوا مآثر عظيمة.. هؤلاء كانوا على تماس مع التأمل، وعلى تماس أيضاً مع التحليق إلى الآفاق الأخرى، وإلى البحث عن المعرفة بقوة الخيال المغروس في الغيب المجهول، واللامعلوم اللطيف كالإشارة، لأن ما لا يُعرف هو أساس ومفتاح المعرفة.

من هذه الناحية، أنا أعتقد أيضاً أن الفلسفة مهمة لتوازن الإنسان، وأيضاً للتصالح مع الذات ومع الطبيعة ومع المجتمع ومع العالم ولا أقصد بالفلسفة هنا البرهان العقلي الصرف، بل التأمل الذي مثاله الشاعر الفنان والفيلسوف المتصوف طاغور الهندي.

ـ لماذا تراجعت برأيك دراسة الفلسفة في مجتمعاتنا العربية؟ برأيي هذا خطأ بالغ له بعدان: البعد الأول، هو بُعد استدعائي استيهامي للتاريخ، واعتبار أن الفلسفة لا فائدة منها، وفي فكرة استبعاد الفلسفة ممالأة مزيفة للشريعة بوصفها موروثا سطره المدونون المتعصبون، ومن عجائب القدر أن يعود هذا الاستبعاد الفقهي للفلسفة كما حصل في المرحلة الرشدية، لكن ابن رشد دلل على نقطة التلاقي الممكنة بين الشريعة والحقيقة كما أسلفنا، وكان أول من التقط الإشارة مصلحو الكنيسة الكاثوليكية الذي استعانوا بالرؤية الرشدية لتليين الخلاف بين الكنيسة ومقتضيات العقل والعلم البرهاني. . البعد الثاني، أن علينا أن لا نلهث وراء العلم المادي البرهاني، لكن الآخر المادي الابستمولوجي يعيد النظر في هذا الأمر الآن. في المراكز العلمية التي تبحث في التصوف وتبحث في الفلسفة وتبحث في الماورائيات، وتبحث في الديانات. وفي الغرب المادي حيث الآن مؤسسات ومعاهد كثيرة جداً مهتمة إلى حد كبير بمعرفة كينونة الإنسان ومصائره، ومخرجه من المحنة التي هو فيها.. محنة افتقاره للمثال "بكسر الميم" الروحي. ـ ولكننا محرومون حتى من التساؤل، وهذا ينطبق على الأطفال فنمنعهم من السؤال. أين تكمن المشكلة؟ الإنسان جذره وروحه ومداه الحرية، الطفل عندما يولد يكون متحررا عملياً. أنا أعتبر أن الطفولة هي تعبير عن سوية البشرية. هي التعبير البسيط عن التساؤل وعن الشك وعن التجريب وعن الحلم. أحلام الأطفال تختلف عن أحلام الكبار. الطفل إشارة أساسية وكبيرة عن هوية الإنسان الفطرية الجنينية، لكن هذا الإنسان ما إن يكبر حتى يبدأ بالتداعي هبوطاً وبنواميس تبدو حرة جداً، فيا للمخاتلة!.

كنت في منطقة "دارفور" السودانية مؤخراً، ورأيت الناس في المخيمات، وبعض الأماكن البسيطة وهم يحملون الملامح السوية للبشرية.. أماكن نصفها بالبدائية غير حضارية والعكس صحيح. والحقيقة أن غير المتحضرين هم الذين يعيشون في مدن الأبراج والمصانع.. هؤلاء متوحشون حقيقيون، حيث لا يسأل أحد عن أحد، والكل في حالة جزع ولهاث، بينما هؤلاء البسطاء الذين يعيشون في دارفور هم في حالة أكمل للإنسانية وأكثر حضارة منا. لاحظت أنهم يتعاملون مع آلة النقل البسيطة، تعاملاً حميمياً، نلاحظ أن كل سيارة نقل لها خصوصية صاحبها، فهو يلونها ويجملها لتصبح جزءاً منه، فأنت أمام تاكسيات لا واحدة تشبه الأخرى.. شاهدت أسواراً مشيدة من الخيش العادي، وأُخرى من الحجر، وجدت البيوت التقليدية القديمة تتناغم مع المناخ وتستأنس الطبيعة المجاورة. تبعاً لذلك، مفهوم الحضارة والإنسانية ينحسر كلما تباعدنا عن الفطرة السليمة.. حينها تذكرت رؤية طاغور للحضارة حيث كان يعتبر أن أول جدار بناه الانسان كحاجز بينه والطبيعة أفضى إلى وحشيته، كما أنه اعتبر الجدار الذي يبنى لستر الموتى هو البيت الحقيقي، لأن هذا الميت بحاجة إلى حاضنة حتى يولد بحياة أخرى. كان العرب يعودون إلى البادية مباشرة، عندما يأتيهم وليد فيذهبون به إلى مرضعة تعيش في البادية ليصبح أكثر قدرة.. أكثر حرية في التعبير عن نفسه، وحتى يكون أكثر فراسة وأكثر شكيمة. هذا يعني ببساطة شديدة أن الحرية هي قدس الأقداس. الحرية مهمة جداً، حتى علماء الكلام الأكثر رشداً كانوا ينظرون إلى مقولة الجبر والاختيار بوصفها مقولة واحدة، فأنا مُجبر ومُخير في آن واحد، فهل أستطيع التأبي على هذه الحقائق الكونية؟ أنا مجبور باحترام نواميس الكون، وإن لم أفعل ستعصف بي العواصف والزلازل والكوارث، وأنا مخير في احترام تلك النواميس، وإن فعلت تماهيت إيجاباً مع الطبيعة.

ـ أين نحـن من كل ذلك، وخاصة أن هناك فلسفة شرقية وأخرى غربية وخاصة في النظر إلى الطبيعة؟ أنا أحب الفلسفتين التاوية والبوذية لأن لهما علاقة بالطبيعة. التاو فلسفة الفراغ بوصفها الحالة الجوهرية للطبيعة، وهذا الفراغ لا يتصل بالمرئي، بل أيضاً اللامرئي، ودلالة الفراغ يتمثل في الماء والهواء، والخلاصة أن ما نراه فراغاً ليس الا امتلاءً، وتبعاً لذلك فإن كامل المنظومة الشعرية والفنية التشكيلية والكتابية، وحتى السلوكية، تنظر للفراغ بوصفه الحامل للسر الأكبر الكامن في التأمل لحركة الطير والمياه والأنسام والرمال.. تأمل الفراغ المتناهي على المدى الطويل.. وفي التوحد مع النفس من خلال إلغاء العوارض والحواجز، فالتاو فلسفة تحقق المثال من خلال الاستحالة، وإمكانية النظر من خلال سديم العماء اللامرئي. البوذية أيضاً هي فلسفة تقوم على الطبيعة وتعتبر أنه ما من شيء في الطبيعة يستطيع أن يؤكد ذاته إلا بكل ما في الطبيعة، فمثلاً: الورقة من شجرة، والشجرة من تراب، والتراب منك، فإذاً أنت أمام كل شيء في الطبيعة، فالواحد هو ترميز لكل شيء، والكل لا معنى له إلا بالواحد، وهذا الكلام يعتد به البسطامي الصوفي فعندما سألهم أحدهم ان يعد أرقاماً قال: واحد، واحد، واحد! .. وكأنه يقول أن الواحد متعدد، وأن التعدد واحد. هذه هي البوذية. أنا أرى أنه إذا اعتقد الإنسان يقيناً أن لكل واحد ثانيا وثالثا، وأن هذا التعدد مُتفاعل مع النفس ومتداع معها، وأن الأدوار تكاملية قائمة على مثل ذلك التشابه، لا فرق بين إنسان وشجرة،إذا تأملنا جيداً هذا الأمر سنجد أن الوظائف الحيوية، وأن التمظهرات التفصيلية تؤول الى جوهر واحد. هذا يعني أننا بحاجة لأن نلتفت للآداب الشرقية، ولنقرأ هذه الآداب لأن فيها جزءاً كبيراً من هذا التساؤل. لهذا السبب، أنا أؤمن بشكل قطعي بأن الحكمة هناك، لأنهم ما دخلوا في مأزق الجدل العقيم البيزنطي بين الوعي والوجود، بين الظاهر والمستتر، فاختزلوا كل هذا الجدل لأنهم اعتبروا الظواهر التعددية استتباعاً جبرياً لواحدية الكون. بعد مداخلة اعتبرت الرواية النسائية 'ليس فيها الا الجسد والهروب من المواجهة.