الباحث الإسلامي السنوسي محمد السنوسي في حوار مع "رابطة أدباء الشام"

أبو الحسن الجمّال

أمتنا قادرة على تجاوز أزمتها واستعادة وعيها

clip_image002_86e9d.jpg

-       يجب أن نعيد قراءة ذاتنا ورسالتنا وإمكاناتنا

-       الأمم أقدر على النهوض بما لها من الوعي و"الأفكار الحية"

-       نحتاج خطابًا دينيًا يرسخ الحرية ويشتبك مع الحياة ويزرع الأمل

-       مشكلتنا بالأساس مع خطابات القهر والتسلط واستنزاف الثروات وتزييف الوعي

-       "الإرهاب".. مصطلح فضفاض لا يستخدم إلا في سياق الإسلام والمسلمين!

-       قضية بورما مأساة.. بدأت بالتزامن مع نكبة فلسطين في 48

-       المعايير المزدوجة للمجتمع الدولي أمرٌ معلوم من السياسة الدولية بالضرورة!

................

ما أجمل الهروع إلى شباب الباحثين الذين رزقوا التبحر فى العلوم الإسلامية بكافة ضروبها وسوف نلتقى مع أحدهم وهو الباحث الشاب السنوسي محمد السنوسي، الحاصل على ليسانس الدعوة الإسلامية من جامعة الأزهر عام 2002م، فضّل الالتحاق بالعمل الصحفي والاشتغال بالعمل الفكري، وهو الآن سكرتير تحرير مجلة "التبيان" القاهرية.

له العديد من المقالات والدراسات في عدد من المجلات والمواقع، أهمها "الوعي الإسلامي"، "البيان"، "الألوكة". كما صدر له أول هذا العام كتاب "إضاءات في الوعي.. مداخل أساسية وقضايا شائكة".نناقش معه بعض القضايا المثارة فى الأفق منها قضية الوعى ومناقشة إشكالية المصطلح فى الإسلامى المعاصر وتجديد الخطاب الدينى ومشكلة الأقليات فى العالم الذى تزدوج لديه المعايير وأهمها مشكلة بورما وقضايا أخرى نطالعها فى هذا الحوار المثمر:

•• لكم اهتمام بقضية "الوعي"، وقد أصدرتم عنها كتابكم "إضاءات في الوعي".. فلم هذا الاهتمام؟ وكيف ترى واقعنا من هذه الزاوية؟

• لا شك أن الصراع الذي يجري في عالمنا، أو "التدافع" بالتعبير القرآني، هو في حقيقته صراع أفكار؛ مهما اتخذ من أشكال اقتصادية أو اجتماعية أو عسكرية.. وكلما كانت أمة ما لها نصيب كبير من الوعي، أو من "الأفكار الحية" بتعبير مالك بن نبي المفكر الجزائري المعروف، مقابل ما أسماها "الأفكار الميتة"؛ كان نصيب هذه الأمة من النهوض أكبر، وقدرتها على مجابهة التحدي أشد.

لكن واقعنا- للأسف- يشهد أننا أمة "محنطة الوعي"، أو انتشرت بينها الأفكار الميتة؛ حتى اختل عندنا سلم الأولويات، وضاع جوهر المفاهيم، وانعكست القيم.. وصار العدو صديقًا والصديق عدوًّا.. ولم نعد نحسن رؤية ذاتنا، ولا موقعنا من العالم المعاصر الذي نحيا فيه برؤية غير معاصرة، نحيا فيه بأجسادنا لا بعقولنا، وباستهلاكنا لا بإنتاجنا..

يجب أن نعيد قراءة ذاتنا، لِنعيَ من نحن، وما رسالتنا، وما إمكاناتنا، وما التحديات التي تواجهنا، وكيف السبيل لتحويل المخاطر إلى فرص، والنكبات إلى وقفات.

في كتابي الذي تفضلتم بالإشارة إليه اهتممت بملامسة أربعة محاور رئيسة، رأيتها تشكّل في مجموعها أهم قضايا الوعي التي ينبغي أن نطرح نقاشًا جادًا حولها؛ وهي: المصطلحات والتأسيس الفكري.. أسئلة التغيير والحضارة.. علاقتنا بالغرب والحضارات الأخرى.. إضافة إلى التفكير في المستقبل وما يجب أن نتحلى به من أمل يبعث على العمل والتوكل، لا التواكل.

•• هذا يسوقنا لإشكالية "المصطلح" فى الفكر الإسلامى المعاصر.. كيف نضبطها ولا ننخدع بما تخفيه من مفاهيم ومضامين ملتبسة؟

• تستمد قضية "المصطلح"- سواء في سياقها السياسي أو الثقافي- أهميتها من كون "المصطلحات" هي سفير الحضارات والثقافات، التي تختزلها وتعبر عنها بإيجاز ورشاقة. ولذا، إذا لم ننتبه للمصطلحات التي تفد إلينا فمن السهل أن نجد أنفسنا وقد صرنا نردد ما يريده الآخرون دون وعي، ووقعنا في شباكهم.

خذ مثلاً قضية "الإرهاب".. هذا مصطلح فضفاض، وله سياقات مختلفة ومتشعبة.. ويراد به في كثير من الأحيان تشويه حق الشعوب الأصيل في الدفاع عن نفسها أمام المحتل الغاشم، بل وصلت درجة العدوانية في استخدامه إلى وصم الإسلام- الدين والقيم، لا سلوك المسلمين فقط- به! فكيف يمكن بعد ذلك أن نمرر دعوات إدانة "الإرهاب"، دون أن نقف لنسأل أنفسنا أولاً: ما "الإرهاب" أصلاً؟ ولم لا يستخدم هذا المصطلح إلا في سياق الإسلام والمسلمين؟!

•• قضية "تجديد الخطاب الديني".. كيف تراها؟

• دعني أصارحك بأمر مهم، وهو أننا نحتاج قبل "تجديد الخطاب الديني"، إلى "تجديد الخطاب الإنساني". بمعنى أن نعيد أولاً للإنسان- باعتباره إنسانًا- ذاته وكينونته وحقوقه، حتى يكون تفاعله مع أية قضية يتعرض لها تفاعلاً صحيًّا.

ونحتاج أيضًا إلى تجديد أنواع أخرى من الخطابات؛ لاسيما الخطاب السياسي، والخطاب الاقتصادي.. مشكلتنا في العالم العربي لم تكن أبدًا ذات أولوية مع الخطاب الديني، وإن كان يحتاج لتجديد.. مشكلتنا بالأساس مع خطابات القهر والتسلط واستنزاف الثروات وخداع الجماهير وتزييف الوعي.

ومع ذلك أعود فأقول: نحن فعلاً بحاجة لتجديد الخطاب الديني؛ بحيث ينقل اهتمامات الناس من دائرة الفرد إلى دائرة المجموع، من الشأن الخاص إلى الشأن العام، من حالة الاستذلال والخنوع إلى فضاء الحرية والكرامة.. يجب أن تكون للحرية قيمة مركزية في الخطاب الإسلامي؛ فإذا كان الله سبحانه لم يرض أن يخضع الناس له بالقهر، وترك باب الحرية مفتوحًا على مصراعيه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.. ووضع في كتابه الكريم القانون الخالد: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}.. فلا يمكن أن يكون دينه الإسلام مُشرِّعًا أو مبرِّرًا لخطاب العبودية، الذي يُراد تسويقه وترسيخه لكن بأشكال ديكورية خداعة المظهر!

من الضروري أن يدفع الخطاب الديني الناسَ للاشتباك مع الحياة، تفاعلاً وأخذًا وعطاءً، ويزرع الأمل، ويبتعد عن تيارات الرهبنة التي أضرت بالإسلام وجعلت المسلمين يتركون دنياهم لغيرهم يلعبون بها!

قبل أن يفكر الخطاب الديني فيما بعد الموت، يجب أن يفكر فيما قبله.. أي في الحياة التي جعلها الله مزرعةَ الآخرة، وموسمًا للعمل قبل موسم الحصاد.

•• يتعرض العالم الإسلامي منذ عقود لهجمة شرسة.. ما دور ما أسميتموه "فقه المواجهة" في التصدي لذلك؟

• نعم يتعرض العالم الإسلامي لهجمة شرسة، لاسيما منذ أن أُسقطت الخلافة العثمانية سنة 1924، وصار أضيع من الأيتام على مائدة اللئام، ودخلنا في مرحلة التجزئة، وإشعال الخلافات المذهبية والإثنية والعرقة؛ لتحويل لوحة عالمنا العربي من فسيفساء بديعة إلى ألوان متنافرة لا جامع بينها، وتكون الأقلياتُ خروقاتٍ وثغراتٍ فيها بدلاً من أن تنصهر في نسيجها الحضاري، كما كان الشأن على مدى القرون الماضية.

ومن هنا، نحتاج إلى ما أسميته "فقه المواجهة" الذي يُعنَى بكيفية مواجهة كل هذه المشكلات والأزمات، وبمعالجة أسباب النهضة ومعادلاتها.

و"فقه المواجهة" يتأسس برأيي على جملة من المرتكزات، أهمها: إدراك أن مهمة التغيير والإصلاح مسئولية جميع أفراد الأمة، وإنْ كانت النخب بمختلف تخصصاتها تشكل العقل المدبر.. تقوية الصفّ الداخلي للأمة؛ بما تعنيه من ترسيخ الوحدة بين المذاهب والفِرَق والقوميات في العالم الإسلامي، ومن تصالح الأنظمة الحاكمة مع الشعوب.. التأكيد على المرجعية الإسلامية في مواجعة مشاريع التغريب والعلمنة.. الإيمان بقدرة الأمة على المواجهة وردِّ العدوان، وبأنها قد تمرض لكن لا تموت، وقد تُهزم لكن لا تُسحق.. إضافة إلى الانتباه لفريضة النقد الذاتي ومحاسبة النفس باستمرار: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

•• "مسلمو بورما" نموذج لما تتعرض له الأقليات الاسلامية من اضطهاد.. كيف ترون تعامل المجتمع الدولي عامة معها، والدول الإسلامية خاصة؟

• قضية بورما فعلاً مأساة، وقد بدأت بالتزامن مع نكبة فلسطين سنة 1948، حين خرج الاحتلال البريطاني من هناك تاركًا المسلمين فريسة سهلة للبوذيين!!

وتقع بورما على حدود ديار الإسلام من ناحية الشرق؛ بعد إيران وباكستان وبنجلاديش.. ما يعني أن حدود بلادنا مشتعلة كما أن قلبها مشتعل!!

وللأسف، فبينما تزور الممثلة الأمريكية أنجلينا جولي بورما، كموفدة خاصة لمفوضية الأمم المتحدة العليا لشئون اللاجئين، لم نسمع أن أيًّا من وزراء خارجية الدول الإسلامية زارها أو أبدى موقفًا قويًا داعمًا لها، باستثناء تركيا فقد زارها داود أوغلو.. وهذا يوضح مدى الخلل الذي أصاب خرائطنا الفكرية والجغرافية!! فضلاً عن تخاذل الأمم المتحدة التي لم تتخذ خطوة جادة لردع البوذيين المعتدين.. ولك أن تقارن الحال لو كانت تلك المشكلة تخص ديانة أخرى غير الإسلام!!

العالم الإسلامي يبدو جسدًا مترهلاً مثخنًا بالجراح، ومشغولاً بأزماته الداخلية، وغير قادر على مد البصر، خارج حدوده الجغرافية، فضلاً عن حدوده الزمنية لاستشراف المستقبل!!

غاب رأسه بإسقاط الخلافة، ثم غاب عقله بعدم فاعلية نُخَبِه الفكرية والسياسية، وتاهت عنه بوصلة الطريق بتيارات التغريب والعلمنة، وأصابته الطعنات بضربات موجعة تكاد تكون مميتة..

والحال هذه، فإن الحديث عن موقف دولي داعم لقضايا الأقليات المسلمة، أو غيرها من قضايانا العادلة، هو نوع من "التسول"؛ فهذا عالم لا يعرف إلا لغة القوة، ولا يحترم الضعفاء.. وإذ لم نساند أنفسنا فليس مقبولاً أن ننتظر الدعم من الآخرين!

نعم، المجتمع الدولي له معايير مزدوجة، وله أكثر من مكيال.. وقد اتضح هذا في أكثر من قضية، وبات معلومًا من السياسة الدولية بالضرورة، لا يمكن أن ينكره عاقل!

•• كيف ترى المستقبل؟

• الأمل في الله سبحانه لا يزول، والأمة الإسلامية قد جعلها الله "الأمة الشاهدة" على الناس؛ فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}. ومعنى هذا أن تظل هذه الأمة حاملةَ الرسالة الخاتمة، والمؤتمنةَ على كلمة الله الأخيرة للبشر حتى قيام الساعة.

نعم، قد يصيبها ما يصيب الأمم الأخرى من ضعف ونكبات، لكن تظل الأقدرَ من غيرها على تدارك أمرها ، ولملمة جراحها، وتجاوز أزمتها، واستعادة وعيها من جديد.. مثلما بسطت رايتها أول مرة على مساحة شاسعة من العالم في فترة وجيزة، ربع قرن تقريبًا، مما لم تفعله أمةٌ سابقة عليها ولا لاحقةٌ لها!

إن نسمات الحرية المنعشة التي مرت ببلادنا في السنوات الأخيرة، ويراد لها أن تتحول إلى هواء ساخن ملوث يصيب بالاختناق؛ ستعاود الكرّة من جديد بإذن الله.. لكن الأمم لها معايير زمنية تختلف عن الأفراد.. والشعوب لا تنهض بين يوم وليلة.

لا يجوز أن يصيبنا اليأس، ولا أن نفقد الأمل في قدراتنا التي منحنا الله إياها؛ من وحي صحيح ضمن الله حفظه، ومن ثروات مادية متنوعة تميزت بها بلادنا، ومن تراث زاخر سعدت به البشرية لعدة قرون، وكان الأساسَ للنهضة الغربية المعاصرة بحسب شهادات غربيين كثيرين، منهم المفكر المسلم الفرنسي رجاء جارودي، رحمه الله.

•• ماذا عن مشروعاتك الفكرية القادمة؟

• بفضل الله، الآن بصدد الانتهاء من دراسة عن المفكرين الغربيين الذين أسلموا، وسبب انبهارهم بالإسلام، وكيف يمكن لنا أن نفيد من هذه التجارب في تأكيد قدرة الإسلام على مخاطبة أرقى العقول البشرية، واجتذابها لساحته، رغم واقع المسلمين المزري!

والجديد الذي تقدمه هذه الدراسة أنها لا تجعل من دراسة الشخصيات التي أسلمت محورًا لها، كما هو  الشائع، بل تجعل الموضوعات التي اجتذبتهم للإسلام هي المحور.

أرجو أن ترى هذه الدراسة النور قريبًا، وأن تشكل إضافة للمكتبة الإسلامية، وأن تعيد لنا- نحن المسلمين العرب- الثقة في النور الذي منحنا الله إياه من غير جهد ولا استحقاق.

وسوم: العدد 633