الجزء الأول من مقابلتي مع تلفزيون العصر

الثورة السورية: كيف ولماذا انطلقت والمراحل التي مرت بها

الجزء الأول من مقابلتي مع تلفزيون العصر،

برنامج (مسارات) الجمعة 13 حزيران 2014

طريف يوسف آغا

[email protected]

السلام عليكم والرحمة لشهداء ثورات الربيع العربي عامة، وأمها الثورة السورية خاصة، وشكراً لاستضافتي على قناة حقوقية هي قناة (العصر) الكريمة وعلى منبرها الحر برنامج (مسارات).

مهمة الثورة كما أراها هو إقتلاع النظام الديكتاتوري من جذوره وتخليص المجتمع منه ومن رجالاته، في حين أن الاصلاح هو من مهمة الأجيال القادمة التي تقوم به وهي محررة من قيود العبودية. إذا اتفقنا على هذا المبدأ في تقييم نجاحات واخفاقات الثورات العربية فيمكننا القول أن الثورة الليبية تأتي في المرتبة الأولى وتليها التونسية، في حين أن السورية ماتزال على الطريق. أما الثورة اليمنية فقد تم احتوائها بما تم تسميته بالحل السياسي، وأما المصرية فتعرضت للأسف لثورة مضادة كما كان متوقعاً. دعني أقول أولاً أن وصول أنظمة ديمقراطية حقيقية إلى الدول العربية التي تعوم على بحار من الثروات الطبيعية وتتربع في موقع جغرافي فريد في قلب العالم هو قولاً واحداً ليس في مصلحة الدول العظمى التي تهيمن على بلدان العالم الثالث بما فيها بلداننا. والسبب وفي غاية البساطة هو أن تعامل تلك الدول العظمى مع الديكتاتور كحاكم فرد أسهل عليها بكثير من تعاملها مع نظام برلماني يقدم مصلحة بلده على أي مصلحة ويعرف أن هناك من سيحاسبه. ومن جهتي فأرى أن (الديكتاتور)في أي بلد يتبع دولة عظمى بعينها، غربية أو شرقية، تدعمه مادياً وتحميه أمنياً وعسكرياً مقابل تنفيذ تعليماتها وتأمين مصالحها، وبالتالي فهو ليس أكثر من (وكيل عام) لها على بلده، تغيره أو تتخلص منه لأسباب قد تكون معروفة أو مجهولة يتكفل المستقبل بكشف أسرارها.

ولهذا نرى أن هناك محاولات محمومة لاعادة الأمور إلى ماكانت عليه في دول الربيع العربي كي لاتنتقل عدوى الثورات إلى جاراتها، حيث نجحت تلك المحاولات في مصر وماتزال جارية في ليبيا وتونس. أما في سورية، فأنا أدعوك لقراءة المبدأ الذي تتبناه الدول التي تسمي نفسها بمجموعة أصدقاء الشعب السوري مثل أمريكا وفرنسا وانكلترا، جنباً إلى جنب مع الدول الداعمة علناً لنظام الأسد مثل إيران وروسيا والصين. وهو المبدأ الذي يقول (ليس هناك حل عسكري لما يجري في سورية، بل حل سياسي فقط)، أما ترجمته على أرض الواقع كما أثبتته الأحداث بعد أكثر من ثلاث سنوات فهو التالي (لا لانتصار الثورة عسكرياً على نظام الأسد، أي لابديل عن بقاء النظام بهيكلته العسكرية الأمنية الحالية وهذا يعني بدوره بقاء القرار السياسي محصوراً بيد النخبة العلوية التي تسيطر على هذا الهيكل). الخلاف بين الغرب وبين الدول الداعمة للنظام وعلى رأسها إيران هو أن الغرب يرى أن تطبيق هذا الحل سيكون صعباً ببقاء (بشار الأسد) وطاقمه على رأس الحكم، كونه أحرق سفنه مع الشعب السوري بغالبية فئاته. وبالتالي فاستبداله بطاقم عسكري أمني، وبالتالي علوي ولكن غير متورط بجرائم حرب، هو سيناريو أكثر واقعية، أي مايشبه السيناريو اليمني، وأنا واثق من أن هذا الغرب سيكون مستعداً للتعامل مع الأسد نفسه فيما إذا حسم الأخير المعركة لصالحه. في حين أن إيران، كونها تحولت إلى دولة احتلال لسورية، فهي لاتثق بأي سيناريو لايحوي الأسد، لأنها هي أيضاً أحرقت سفنها مع الشعب السوري ولاتثق ولاحتى بنظام علوي آخر لأن يُبقي على هيمنتها المطلقة على البلد. ولهذا كنت قد أشرت في مقال سابق إلى أن عبارة (الأسد أو نحرق البلد) التي يكتبها جنود النظام على جدران البلدات بعد تدميرها ليست مقولة هذا النظام وإنما من صنعه وأوصله إلى الحكم في سيتينيات القرن الماضي، وهو الغرب بطبيعة الحال. وحتى لايحزن السوريون، فهذا هو أيضاً الحال في بقية الدول العربية والأجنبية التي كانت تحت الاحتلال الأجنبي.

 لماذا وكيف بدأت الثورة السورية

 لمن يدافع عن النظام ويصفه بأنه عروبي وقومي أقول بأنه لوكان كذلك لما ساند إيران، العدو التاريخي للعرب، في حربها مع العراق، بعكس مافعلته بقية الدول العربية، ولمن يصنفه بأنه علماني أقول لو كان كذلك لما ميز طائفته على باقي شرائح الشعب عموماً واضطهد الأغلبية السنية خصوصاً. أما من يتبجح بأنه حامل راية البعث وشعاراته أقول بأنه هو من اغتال ولاحق مؤسسي الحزب واتهمهم بالخيانة بعد أن انتهى دورهم بايصاله بقصد أو بدون قصد إلى الحكم، ولمن يقول بأنه وطني أقول بأنه لو كان كذلك لما ارتكب بحق الشعب أسوأ المجازر في التاريخ الحديث.

 كانت الثورة السورية آخر من انضمت لأخواتها بقية ثورات الربيع العربي. وهي الثورات التي بدأت في تونس في ديسيمبر 2010 بحرق (محمد البوعزيزي) نفسه بعد مصادرة عربته وإهانته، ثم انتقلت عدواها إلى مصر في الشهر التالي، جانيوري 2011 وإلى اليمن فليبيا في فيبروري وأخيراً إلى سورية في آذار، مارس.

 كانت ثورتا تونس ومصر قد انتهيتا بهرب رئيس الأولى وتنحي رئيس الثانية بعد عدة أيام فقط من اندلاع الثورة الشعبية فيهما، وثورتا اليمن وليبيا قد بدأتا للتو. أطفال مدرسة ابتدائية لايتجاوز أعمارهم 12 عاماً في مدينة درعاجنوب سورية تأثروا بأحداث ثورات الربيع العربي فكتبوا على جدران مدرستهم عبارات مثل (ارحل يابشار) (يسقط بشار الأسد) و(جاييك الدور يادكتور). قبضت المخابرات على أطفال المدرسة ونقلتهم إلى (فرع فلسطين) السئ الصيت في دمشق وتم تعذيبهم وتقليع أظافرهم. شكل وجهاء درعا وفداً اجتمع مع رئيس الأمن السياسي في مدينتهم، عاطف نجيب، ابن خالة بشار الأسد، وطالبوا بالافراج عن أبنائهم، ونزع رئيس الوفد من على رأسه (الكوفية والعقال العربيان)، وهما رمز للكرامة عند العشائر العربية، ووضعهما على الطاولة في حركة رمزية تناشد الشرف والمروءة عند رئيس المخابرات المذكور للافراج عن أبنائهم. ولكن الرجل الذي لايعرف معنى الشرف ولاالمروءة لم يقدر معنى تلك الحركة التي قام بها وجهاء المدينة، وهم من العشائر العربية الأصيلة التي تعيش لتفاخر بشرفها وكرامتها. فهو لم يرفض طلبهم فقط بل وأهانهم برمي (الكوفية والعقال) على الأرض وقال لهم: انسوا هؤلاء الأولاد واذهبوا لانجاب أولاد غيرهم، وإذا احتجتم مساعدتنا في ذلك فأرسلوا نسائكم لنا. هذا التصرف الأرعن كان بمثابة الدعوة التي لبتها الثورة في اليوم التالي.

 المراحل الثلاثة للثورة السورية

 اسمح لي هنا أن أستعرض سريعاً المراحل الرئيسية الثلاثة التي مرت بها هذه الثورة منذ انطلاقتها في 15 آذار 2011 وحتى اليوم.

 المرحلة الأولى: المرحلة السلمية، وقد استمرت لحوالي الستة أشهر حتى خريف عام 2011 وكانت بمجملها مقتصرة على المظاهرات والاضرابات والهتافات بالحرية وبأن (الشعب السوري مابينذل). قابل النظام المظاهرات السلمية بوحشية غير مسبوقة قتل خلالها الآلاف من المدنيين العزل في محاولة منه لوأد الثورة وإعادة المحتجين إلى بيوتهم. منعت إسرائيل حلفائها الغربيين من التدخل المباشر ضد نظام الأسد، في حين دعمته روسيا والصين بامدادات السلاح وبحمايته دولياً باستعمال الفيتو في مجلس الأمن مرتين، ودعمته إيران بمستشارين عسكريين وأيضاً بالسلاح. أعتقد بأن الثورة أخفقت حين انتظرت ستة أشهر كاملة لحملها السلاح، والتي أرى أنها ماكانت إلا هدراً للوقت والأرواح التي كان يمكن استغلالها في محاربة النظام الذي لايفهم أصلاً معنى السلمية. وقد برزت في هذه المرحلة حوادث كشفت الوجه السادي والمتوحش للنظام مثل قبضه على الطفلين حمزة الخطيب وتامر الشرعي في ريف درعا وتعذيبهما حتى الموت والتمثيل بهما قبل تسليمهما لعائليتهما، وكذلك قبضه على الفتاة(زينب الحصني) ثم تسليم أهلها أشلاء جثة فتاة على أنها ابنتهم، وأخيراً وليس آخراً قبضه على مطرب الثورة في حماة (ابراهيم القاشوش) صاحب أغنية (يللا ارحل يابشار) وذبحة واقتلاع حنجرته ورميه في نهر العاصي. برزت كل هذه الحوادث لتؤكد أن هذا النظام غير قابل للتفاوض ولاللاصلاح، وأن حمل السلاح ضده هو الطريق الأمثل والأنجع للتعامل معه.

 يعتقد الكثيرون أن النظام أحرق سفنه في الشعب السوري في هذه المرحلة من الثورة، ومن جهتي فأعتقد بأنه فعل ذلك على أيام الأسد الأب حين ارتكب مجزرة حماة الشهيرة عام 1982 والتي راح ضحيتها مايقرب من خمسين ألف مدني في حوالي الاسبوعين، دون تفريق بين نساء وأطفال وشيوخ. وهي المجزرة التي تعتبر الأسوأ في النصف الثاني من القرن العشرين وعلى مستوى العالم، ومن الواضح أن المجتمع الدولي تجاهلها واستمر بالتعامل مع النظام كونه بقي مستمراً بتقديم الخدمات المطلوبة منه. وبالمناسبة فان مجزرة حماة قد تم ارتكابها بعد أن سلم أفراد الطليعة المقاتلة المنشقة عن الاخوان المسلمين أنفسهم وأسلحتهم للنظام، وهذا هو سبب عدم ثقة أحد بالعروض التي يقدمها النظام اليوم للمصالحة. وكنت قذ كتبت في هذه المجزرة قصيدة قلت في مطلعها:

لا لَنْ نُسامِحْ ولَنْ نَنسى

قَتلتُمْ في حَماةَ خَمسينَ ألفا

وغَّيبتُمْ أضعافَهُمْ في السُجونِ

وأرسَلتُمْ أضعافَهُمْ إلى المنفى

 المرحلة الثانية: مرحلة حمل السلاح، وقد استمرت لسنة ونصف من نهاية 2011 حتى بداية عام 2013 تقريباً. وقد حمل السوريون السلاح بسبب الوحشية التي قابل بها النظام مظاهراتهم السلمية في المرحلة الأولى، كما وانشق المئات ثم الآلاف من جيش النظام ليشكل منه المقدم (حسين الهرموش) نواة الجيش السوري الحر ثم ليتابع قيادته العقيد (رياض الأسعد) بعد خطف الهرموش وتسليمه للنظام في عملية خيانة قامت بها عناصر أمنية تركية علوية قامت الدولة التركية فيما بعد باعتقالهم وتقديمهم للعدالة. استمرت إسرائيل في هذه المرحلة على موقفها المعارض للتدخل الغربي العسكري ضد النظام، في حين زادت روسيا من امدادات السلاح، كما زادت إيران من تلك الامدادات وكذلك من أعداد المستشارين العسكريين. ارتكب النظام في تلك المرحلة العديد من المجازر بالسلاح الأبيض ضد المدنيين مثل مجازر داريا وحلفايا والحولة، وكذلك باطلاق صواريخ السكود البعيدة المدى لقصف المدن الآهلة بالسكان بعد خروجه منها، ولكن بالرغم من كل ذلك، فقد أحرز الجيش الحر والكتائب المقاتلة التي انضمت إليه من صفوف المدنيين، أحرزت انتصارات على كافة الجبهات بحيث سيطر على حوالي ثلاثة أرباع سورية بما فيها المعابر الحدودية مع تركيا والعراق الأردن، وطرق أبواب دمشق واستولى على طريق المطار الدولي، فانكفأ النظام ليتمترس داخل المدن الرئيسية فحسب. في نهاية هذه المرحلة كان النظام قد هزم بالكامل وبات إعلان سقوطه الرسمي متوقعاً في أي لحظة، وبالتالي تعتبر المرحلة الأكثر نجاحاً والتي أوصلت الثورة إلى أقرب نقطة من الحسم العسكري على الطريقة الليبية.

 المرحلة الثالثة: مرحلة التدخل الايراني المباشر، وهي مرحلة بدأت منذ حوالي العام وماتزال مستمرة حتى اليوم.فبعد أن فقدت إيران الأمل من قدرة جيش النظام على الصمود في وجه الثورة، قررت الكشف عن أوراقها وأهدافها بالسيطرة على سورية عسكرياً وليس سياسياً فقط. فبدأت بخطة التجييش الطائفي لتحرف مسار الثورة من ثورة حرية وكرامة إلى حرب بين الأغلبية السنية من جهة والأقلية العلوية وحليفتها الشيعية من جهة ثانية. فرتبت تهريب أو الافراج عن المئات من معتقلي تنظيم القاعدة في سورية والعراق ومولتهم لتشكيل تنظيم جهادي تكفيري باسم (دولة الاسلام في العراق والشام، أو داعش) وجعلتهم يعلنون محاربتهم لنظام الأسد كي يتمكنوا من التغلغل في صفوف الثورة. وسرعان ماكشف التنظيم عن وجهه الحقيقي حين بدأ بمهاجمة فصائل الجيش الحر واحتلال المناطق التي كان قد حررها من النظام. وقد ساعدت روسيا أيضاً في هذا المجال حين سهلت وصول مقاتلين شيشانيين سنة شكلوا كتائباً سلفية وادعوا بأنهم إنما أتوا للجهاد ضد نظام الأسد، في حين أنهم لعبوا نفس الدور الذي لعبته (داعش) وغدروا بالثورة السورية وشوهوا صورتها أمام الداخل والخارج معاً. قامت إيران بعد ذلك وبناء عليه بترتيب إرسال الآلاف من المقاتلين الشيعة من الحرس الثوري الايراني وحزب الله اللبناني والميليشيات الشيعية العراقية واليمنية، وأيضاً متطوعين شيعة من أفغانستان وباكستان وأذربيجان وافريقية، كلهم جيشتهم تحت شعارات طائفية مثل (يالثارات الحسين) و(لن تسبى زينب مرتين) و(لبيك يازينب). مستغلة وجود عدة مزارات يرتادها الشيعة في دمشق وضواحيها كمقام السيدة زينب ومقام السيدة رقية وغيرهما، ومستغلة كذلك وجود عدة قرى سورية مثل نبل والزهراء في ريف حلب وغيرها على الحدود اللبنانية تحوي على سكان شيعة ادعت أنهم مهددون من قبل المقاتلين التكفيريين السنة من أمثال (داعش).

 استردت القوات المشتركة الشيعية أولاً ريف دمشق باقناع النظام استعمال أسلحة كيماوية في مجزرة الغوطة، كما شنت هجوماً شاملاً في منطقة القلمون المحاذية للحدود اللبنانية، فاحتلت بلدات القصير ويبرود وغيرها وتمكنت من دخول حمص القديمة باتفاقية سمحت للثوار المحاصرين فيها بالانسحاب وتسليمها سلمياً. خرج عدة مسؤولين إيرانيين ومن حزب الله اللبناني مؤخراً بتصريحات أغضبت نظام الأسد مفادها أن النظام كان سينهار بالكامل لولا أن أتت إيران وحلفائها لنجدته في اللحظة الأخيرة. بالرغم من الوقاحة السياسية لتلك التصريحات، إلا أنها غنية بالحقيقة المرة والتي مفادها أن سورية باتت تحت الاحتلال والوصاية الايرانية. ومن جهة ثانية تمكنت (داعش) حليفة وصنيعة إيران والعراق والنظام، من احتلال الرقة ومناطق في ريف حلب وادلب ودير الزور بالتعاون الوثيق مع حلفائها. ولكن ما أمر من هذا هو استمرار من يسمون أنفسهم بأصدقاء الشعب السوري، بتجاهل التدخل الايراني العلني من جهة، وباستمرار تجاهلهم لحقيقة (داعش) وأمثالها وحسابها على الثورة، وبالتالي التحجج بها للامتناع عن تزويد الجيش الحر 

بأسلحة مضادة للطيران كي (لاتقع في اليد الخطأ) حسب تعبيرهم.

أما أين نجحت وأين أخفقت الثورة السورية وبقية ثورات الربيع العربي وأين هي اليوم وإلى أين تتجه فهو موضوع الجزء الثاني والأخير من المقابلة.