الدكتور يوسف حسن نوفل وحديث الذكريات

أبو الحسن الجمّال

clip_image001_486b2.jpg

clip_image002_c18a6.jpg

الأستاذ الدكتور يوسف حسن واحد من أهم النقاد المعاصرين لما له من أياد فى هذا المجال وهو يمتلك أدواته الفنية بحرفية شديدة، وتتوافر فيه الشروط التى يتصف بها الناقد، وهى الضمير والحيادية والموضوعية وعدم الشللية وعدم الانتفاعية، وكان لزاما علينا أن نذهب إليه ونتعرف على تجربته فى الأدب والحياة وكان حديثا من القلوب وغزا القلوب جميعاً ..

 والدكتور يوسف نوفل من مواليد مدينة بورسعيد فى الأول من أكتوبر 1939، تعلم فى الأزهر حتى حصل على شهادة الثانوية ثم التحق بدار العلوم وحصل منها على الليسانس عام 1964، ثم على درجة الماجستير من والدكتوراه من ذات الكلية، وله أنشطة علمية وإدارية فى مصر والعالم العربى ...

أثرى المكتبة العرببية بالعشرات من الكتب النقدية والأبداعية فى الشعر والقصة.. ففى مجال الشعر له خمسة دواويين، وله مجموعة قصصية، كما أن كتبه النقدية نيفت على الثلاثين كتاباً منها : "محمد عبدالحليم عبدالله وفن القصة"، و "قضايا الفن القصصي"، و "ديوان الشعر في الأدب العربي"، و"رؤية النص الإبداعي"، و" تطور لغة الحوار في المسرح المصري المعاصر"، و" بيئات الأدب العربي في الدراسات المعاصرة"، و" مفكرون في السعودية"، و" أدباء من السعودية"، و"العرب في صقلية وأثرهم في نشر الثقافة الإسلامية"، و"جماليات القصة القرآنية"، و"من المكتبة القرآنية"، و" المكتبة العربية ومصادرها"، و" موسوعة الشعر العربي الحديث والمعاصر"، وتضم معجمًا لأكثر من 7500 شاعر، في أكثر من ألف صفحة وغيرها...

التقيناه ليسرد لنا تجربته فى الحياة والأدب منذ دخوله معهد دمياط على خلاف رغبته وتنفيذا لرغبة والده وأهله الذين يمتلكون مسجدا فى مدينة بورسعيد كانوا يريدونه إماماً لهذا المسجد، ثم دخوله دار العلوم وتفوقه فى هذا المعهد العريق، وقد حصد الجوائز طوال سنوات دراسته عن المجلس الأعلى للآداب والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ثم علاقته بأساتذته وتشجيعهم الدائم له حتى حصل على الماجستير والدكتوراه، وقصته مع النقد الأدبى وقتاله من أجل إنشاء كلية التربية ببورسعيد يرد الجميل لبلده التى نشأ فيها ومازال يتصل بها للآن..وموضوعات أخرى سوف نطالعها فى هذا الحوار ...

بداية نسأل سيادتكم :ماذا عن النشأة وكيف كان لها الأثر فى حياتكم العلمية والأدبية؟

- عندما نتحدث عن النشأة لابد أن نرجع بالذاكرة إلى الوراء ..كانت النشأة العلمية فى التعليم الدينى حيث أنهيت المرحلة الثانوية فى معهد دمياط الأزهرى ..هذه المرحلة بالرغم من أنها لم تكن رافقة لى ولكننى كنت مضطر إلى تحقيق رغبة العائلة لأن العائلة تمتلك مسجداً من أقدم مساجد بورسعيد، فهم حاولوا أن يهيأوننى لأن أكون خطيب هذا المسجد، فدفعوا بى إلى التعليم الأزهرى الذى رضخ فيه أبى لعمى ورفضت أمى دون أن تفصح وكذلك كنت مثلها ..كنت رافضاً لهذا المنحى لاسيما وقد أدخلنا بكم من المعارف العربية والإسلامية العميقة بما كان يضيق به عقلى ثم بما لا يتفق مع ميولى الداخلية، ولذلك أمضيت الشطر الأول من هذه السنوات فى تبرم وضيق وبعد عن تحقيق المراتب الأولى فى الامتحانات، وشاء القدر أن أحول من معهد دمياط الدينى إلى معهد القاهرة الدينى فى السنتين الأخيرتين من المرحلة الثانوية، والحقيقة أن هذا كان تحولاً خطيراً بالنسبة لى، فقد انتقلت إلى العاصمة ثم كنت أشاهد فى النصف الثانى من النهار فعالياتها فى عصرها الزاهى منذ سنة 1958 فصاعداً، وشاركت بالحضور فى معظم الندوات، ورأيت معظم إن لم يكن كل رموز هذا العصر من الأدباء والشعراء والنقاد، والتقيت بطائفة من المشايخ فى العاصمة غير أولئك سابقين، وبدأوا يشجعوا فى الظاهرة الأدبية بدأ من الفوز فى المسابقات، بدءأ من قراءة الشعر قراءة جيدة، بدءاً من تقديم الأوليات فى التأليف وبالمناسبة للأوليات فى التأليف وقت أن كنت فى الثانوية وكانت مجلة "الرسالة الجديدة" التى كان يصدرها يوسف السباعى، وعهد إلى الشاعر فوزى العنتيل صاحب ديوان "عبير الأرض" أن يخصص صفحتين فى قلب المجلة لتلقى إنتاج الشباب، فكنت أتابع هذه الصفحات، وأجد ردوده القاسية على إنتاج المتقدمين فشجعنى أصدقائى وقالوا لابد أنه سيعجب ببواكيرك، وأرسلت له قصيدة انتقيتها من إنتاجى، وإذا به يرد على سائر المتقدمين فى أسطر قليلة ثم يقول: "أما هذا الشاب ففيه بعض الأمل ولكننى أود أن ألقنه درساً حتى لا ينساه"، وفعلا يا أخى الفاضل لقننى درساً لم ولن أنساه فيذكر بيتين ويشرّح..هو لا يشرح البيتين بل يشرحنى أنا شخصياً .. الحق أنها صدمتنى فى البداية لأننى كنت غراً لا أفهم معنى النقد وأصبح زملائى يتندرون على باسم العنتيل لكنهم فى الوقت نفسه قالوا لى أسمع وأفهم جيداً كونه أختصك بالتعليق والنقد والتحليل والمؤاخذة والمحاسبة إنك خير من هؤلاء الذين رد عليهم فى سطرين والنقد هكذا.. فكفكفت من غلواء انفعالى فواصلت المسيرة وتشاء الظروف أن التقى به وأنا ناقد فحكيت له هذا الأمر فضحك كثيراً، وقال لى: "لابد أن تزورنى فى البيت وتأتى معك بهذه المجلة"، وصار يقدم الاعتذار فقلت له: لا ..لقد أعطيتنى درساً من ناحتين إن الإبداع ليس سهلاً ولكنه عملية شاقة إذا بنيت على أساس فى النشأة ..كذلك قدمت لى وأنا مازلت جاهلا بمعنى النقد الذى يهدف إلى تقييم النص فأنا لا أنسى ذلك ما حييت.

 فى هذه النشأة لا أنسى أفضال بعض الأساتذة على منهم أستاذ قديم فى المرحلة الإبتدائية تقريباً كتب لى وكنا نهوى (حكاية الأتوجراف) كتب لى أبيات أتت ثمارها بعد ذلك فقال:

جاهد لتظفر بالمنى يا نوفل       حتى يكون لك المكان الأول

لا ترض دون القليل وأنت فى  شرخ الشباب وحظ مثلك مقبل.

 كان هذا الأستاذ شاعراً وهذه الأبيات كتبت على وجه التحديد سنة 1956 وكان عمرى لم يتجاوز 17عاما، ومازلت احتفظ بها فى الأتوجراف عندى وكان لها تأثيرا كبيراً ولو كان حياً لقبلت يديه لأنه أول من أعطانى شرارة التشجيع والمساندة فإذا فى هذه الفترة ..فترة النشأة لا استطيع أن أذكر وأحصى فضل الأساتذة وفضل أن الله أنعم علىّ وبث فى حب القراءة والإطلاع والرغبة فى الإبداع سواء كتابة قصصية أو شعرية بل والأدهش من ذلك الرسم وعندى كراسة رسم مكتوب عليها 1954- 1955 كنت أقلد رسوم الكاريكاتير الموجودة فى المجلات لصاروخان وغيره للشخصيات العامة ومازلت احتفظ بها حتى الآن ..

  هذه العوامل جميعها أدين لها بالكثير فى نشأتى التى كانت فى إطار من الطبيعة الفاتنة الخلابة حيث ولدت فى جنوبى بورسعيد البحر الأبيض المتوسط خلفى وأمامى بحيرة المنزلة حينما كانت واحة غناء وحافلة بالطيور وغيرها والخضروات والمزارع الجميلة وضوء القمر ليلاً كان يسكرنى ثم فى متتصف مرحلة الصبا اقتربنا أيضاً فى بورسعيد من مياه البحر المتوسط فإذا ولدت على شواطىء بحيرة المنزلة ونشأت على شاطىء البحر المتوسط ولذلك فإن البحر المتوسط وبحيرة المنزلة هما بطلا دواوينى الخمسة، فإذا قرأت دواوينى الخمسة ومنه ديوان اسمه "مرايا المتوسط" لأنى أرى أن البحر الأبيض المتوسط هو محتضن الحضارات القديمة والحديثة والغزوات والحروب ..هذا الجو العبقرى ولدت فيه ونشأت ومازال لى بيت على شاطىء المتوسط كلما ضقت ذرعا بمدينة القاهرة لجأت إلى هناك وجلست أناجى البحر وأعود إلى طفولتى الشاعرة ..

بورسعيد فى هذا التوقيت كانت تضم حى للفرنجة وحى للعرب ، هل تأثرت بهذا المشهد؟

 - لاشك أنا وكثيرون كتبوا عن مدينة بورسعيد وأؤيدهم فى ذلك ..لأننا كنا نشعر بالدونية، كان هناك شارع محمد على الذى هو امتداد لطريق السفر (طريق مصر الإسماعيلية)، الحرمان الذى كان يسيطر علينا نتيجة التسلط الاستعمارى وأحياناً أخرى كنا نختلط بأبناء وبنات الأجانب ونحب بناتهم ويحبوننا ونذهب إلى الشاطىء سوياً .. فالشعوب بينها تمازج وتجاذب..كنت أعرف اليونانى واليونانية ونطلق عليهم الأجريج (نسبة إلى الأغريق) ..فإذا لاشك هذا أيضاً ترك تأثيره ..ربما بعض أصدقائى من أدباء بورسعيد صاغوه فى أعمال فنية لكننى أرى أنه كامن فى أعماقى ولد لدى انتماء إلى وطنى ولذلك أنا ولدت جنوب حى العرب، ونشأت إلى فترة طويلة جداً فى حى العرب، ولم أذهب إلى حى الشرق الذى صار عربياً إلا وأنا كبير وكلما جلست فى شرفة بيتى أقول "كان محرما على المرور من هنا وليس فقط السكنى" ..

كنت شاهدا على أحداث وطنية حدثت فى هذا المكان، كيف تتذكرها؟

- اتذكر طائرات الحرب العالمية الثانية أشباحاً كطفل، لكن الذى عاش فى أعماقى وأثرّ فى تأثيراً قوياً عدوان 1956، لأنى رأيت الحريق وعشته ولمسته ورأيت المظليين يهبطون ورأيت بيت جارى يحترق وأحياء بأكملها تحترق ..كل هذا رأيته فى عام 1956، ثم بعد ذلك عدوان 1967، وشاركت فى استقبال العائدين وجروحهم منتنة ومتقيحة لا يستطيعون أن يضعوا أقدامهم على الأرض التى تورمت فى عشرة أضعاف حجمها ..شاركت مشرفاً ومساهماً فى تضميد جراحهم واستقبالهم وتسكنيهم فى المدارس وعشت أيضاً تلك المأساة، وازداد الوعى الأدبى لدى، وأثر فى أعمالى الأدبية، ثم عشنا نصر أكتوبر عام 1973، بما لها وما عليها. فهذه الأحداث العامة فى مصر والخاصة فى مدن القناة ..رأيت معسكرات الانجليز ولم أرى رأى العين نبيل الوقاد الذى خلع ملابسه وجعل منها وقوداً مشتعلاً بالغاز وألقى به فى المعسكرات ..صحيح أننى لم أره رأى العين لكننى رأيت ذلك وكان من الممكن أن أصنع ذلك لو أنى أوتيت بعض الجرأة التى لديه ..أننى كنت أرى معسكرات الانجليز ورغم الطفولة كنت أحزن لمنظرها لذلك سعدنا جداً بثورة 1952، لأنها أراحتنا من تلك الوجوه الصفراء ..

بورسعيد فى أدب يوسف حسن نوفل؟

- هى فى قلب ذلك الأدب الإبداعى وخصوصا الشعرى وبالنسبة للقصة لى مجموعة واحدة، ولكن ليس فيها ظلال، وكما قلت منذ قليل أن البحر عنصر أساسى ..فالناقد محمد عبدالمطلب حينما كتب عن المعجم الشعرى عندى التقط ذلك، وقال البحر والماء ويدخل فى ذلك عالم الأساطير الجن المتصلة بالبيئة الساحلية، يدخل فى ذلك البحر بما يضمه من أسرار تاريخية من هجوم وغارات وغزوات وفتوح وبما فيها من تحضر وبعثات كل هذا مصوغ بطريقة غير مباشرة فى دواوينى لاسيما ديوان "مرايا المتوسط" وفلسفته وأنا لم ألف أبياته فى القاهرة وإنما فى شرفتى المطلة على البحر المتوسط على مسافة مائتى متر منه فى بورسعيد، فكنت أقرأ الموجات ويخيل إلى أن هذه الموجات فيها سطور تحكى قصة غزوة أو معركة أو مقابلة بين أسطول فرنسى أو انجليزى أو الرومان مستعرضاً كيف أن البحر هذا مر بتسميات عديدة فبعد أن كان يسمى "البحيرة الرومانية" نسبة إلى الرومان وسيطرتهم عليه، صار فى يوم من الأيام يطلق عليه "البحيرة العربية" بعد الفتوحات الإسلامية التى فتحت جزر البحر المتوسط كله وذهبت إلى جنوب أوربا وأسبانيا ..كل هذا فى ذهنى وفى دواوينى، وهذا هو البحر فى حياتى وفى شعرى على وجه الخصوص.

الطريق إلى دار العلوم:كيف ابتدأ؟

 أحسنت فى فى اختيار هذا العنوان ..الطريق إلى دار العلوم..وبدأ هذا الطريق حينما كنت فى الصف الثالث الثانوى الأزهرى وجلسنا نختار فبعضنا ذهب إلى كلية اللغة العربية التابعة للأزهر، وكنت أسكن قريبا من الجامعة فى حى الحسين والتقى فى بعض الأحيان ببعض الدراعمة، ثم لمست التنافس بين الدراعمة والأزاهرة ..كل يدافع عن منهجه وانتمائه ويقلل من شأن الآخرين فتبلور أمامى الطريق فصممت على تحويل البوصلة إلى دار العلوم مع أن أعز أصدقائى السابقين سيتجهون إلى كلية اللغة العربية أو كلية الشريعة أو كلية أصول الدين ..إنما أنا صممت وحاولوا صدى وقالوا "سيترتب على ذلك تحويل السكن"، وقلت ولو..سأسكن فى السيدة زينب، فقالوا لابد أن تكون حافظاً لكثير من أبيات الشعر لأنهم سيعملون اختبار على ذلك، وقال لنا الأستاذ عمر الدسوقى بعد ذلك: "جاءتكم جيبة ..لما أنا ذهبت إلى اختبار القبول بدار العلوم قالوا لى: ماذا تحفظ من الشعر؟ فأشرت لهم إلى حقيبة سفر كبرى كانت معى، وقلت لهم: هذه محفوظاتى". انظر إلى الأجيال ..المهم ظللت أعد العدة لهذا الامتحان وأحفظ الشعر لكن مشكلة كبرى تجسدت أمامى، فأنا أتذوق الشعر جيداً وأكتبه، لكننى ضعيف الذاكرة وذاكرتى غير حفاظة...لذا عمدت إلى القصائد الطوال والحل الثانى قلت لنفسى لابد أن أبهر اللجنة وألفت نظرها بشيئين: أولاً أطعم محفوظاتى بشعر عربى فقلت إلى جانب الشعراء حافظ وشوقى والبارودى فكان هناك شاب لبنانى كان يراسلنى فأرسل لى ديوان "سليمان العطشى" والديوان رائع جداً وحفظت منه قصيدة "الضفة الثانية"، وهى تصور كيفية استولى التركى على لواء الأسكندرونة من سوريا إلى جانب حفظت شيئاً من شعرى فحين دخلت وسألونى باستهانة: "ها وأنت ما محفوظاتك؟" ويبدو أن الذى كان يسبقنى لم يوفق..فقلت لهم:

 هل تريدون شعراً مصرياً أم عربياً؟

فاستغربوا وقلت لهم: أحفظ شعرا عربياً بمثل ما أحفظ شعراً مصرياً.

 فقالوا لى: اسمعنا.

فقلت لهم "الضفة الثانية" بكسر الضاد لأننى كنت قد وجدت بالقاموس أن الضفة بالكسر والفتح والكسر أقوى ..اللجنة كانت مكونة من عضوين عضو من الكلية، وعضواً من تفتيش اللغة العربية وقال لى عضو تفتيش اللغة العربية: الضفة (بالفتح) يا ولد..

فقال له أستاذ دار العلوم: يجوز الأثنان ..

فقلت لهما "والكسر أقوى".

والحقيقة زاد اهتمامهما وقالا: اسمعنا.

وتلوت عليهم القصيدة وبعد أن انتهيت قلت لهما:

 أتريدون شيئاً من شعرى

فقالا: (وكمان)..أذهب أذهب فأنت ناجح.

 فكان هذا أول خطواتى فى دار العلوم. ثم دخلت دار العلوم فانقشعت تلك الغمامة التى أشرت إليها وأنا معهد دمياط وأحسست أننى أحلق فى السماء .وأننى فتحت طاقة كبرى أمام عقلى من المحدودية فى معهد دمياط أو معهد القاهرة الدينى، ثم انفجر الطوفان العلمى أمام القمم ..أنا عاصرت القمم عن كثب لأنهم يلتقطون الأوائل النابهين فكانوا يشجعوننى لاسيما وأنا أشارك فى ندوات الكلية منذ السنة الأولى فاشتهرت بينهم شاعراً وقصاصاً وأنال جوائز المجلس الأعلى للفنون والآداب طيلة دراستى فى الأربع سنوات والسنة التمهيدية ..إذا رجعت إلى تاريخ المجلس الأعلى للفنون والآداب كنت أحصد جوائز الشعر والقصة والمقال ..كما حصلت على جائزة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية وطبع لى كتاب "العرب فى صقلية".والدكتور محمد عبدالمطلب دفعتى يوما بيوم..

  ذكرياتك مع الأساتذة بدار العلوم؟

- ذكرياتى معهم متشعبة فمثلاً نهلت المنطق والفكر العلمى من الدكتور محمود قاسم، وعلم اللغة من الدكتور إبراهيم أنيس الذى كان يحدثنا عن تجارب كتابه قبل أن يطبع الكتاب، ونهلت أيضاً من الأستاذ عبدالسلام هارون وبعد ذلك كتبت عنه حينما فاز بجائزة الملك فيصل، ثم انتدبته عندى فى كلية البنات جامعة عين شمس وكيلاً للدراسات العليا، ومن أبرز أساتذتى الدكتور عبدالحكيم بلبع الذى لم يعمر كثيراً، والدكتور أحمد هيكل وزير الثقافة الأسبق، وكنت من أقرب التلامذة إليه أيضاً كان من أساتذتى، وكان يعمل مدرساً مساعدا الدكتور محمد أبو الأنوار، وعندما كبرنا وكنت اتصل به وأقول له: (يا أستاذنا ..فيرد:أستاذنا إيه أنت اللى أستاذنا) واستمرت أستاذيته لى وأنا على مشارف الستين عندما تقدمت إلى جائزة الإبداع الشعرى بمكة التى يرأسها الدكتور محمد زكى يمانى، وعلمت من الدكتور الطاهر مكى أن لجنة البحث كانت مكونة من المسدى التونسى، والدكتور أبو الأنوار، والدكتور عبدالحكيم حسان، وصفوا ال500عمل إلى أن صاروا اثنين أنا والدكتور جابر عصفور، فمنحونى الجائزة .. فإذا استمرت أستاذية أبو الأنوار حين كنت طالباً وحينما كنت شيخاً أفوز بجائزة عالمية..

أعود إلى أساتذتى منهم الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكى هو الأقرب لى ولكنه فى فترة متأخرة وكنت وأنا طالب كان يعمل بالخارج ..واستمرت أستاذيته حتى الآن وهناك أساتذة آخرين لهم الفضل فى تعليمى ..كل هؤلاء أثروا بآرائهم وأفكارهم وكتبهم..

ما الدوافع جعلتك تختار مجال النقد الأدبى؟

- لعلك تذكر أننى قلت منذ قليل أننى كنت أحصد جوائز المجلس الأعلى للفنون والآداب طيلة دراستى فى الأربع سنوات والسنة التمهيدية لدرجة كنت أنفق بعض الجائزة وأدخر البعض الآخر، وفؤجئت عندما هممت بالزواج أن ما أدخرته من الجوائز قد غطى نفقات زواجى ..هذا سلم إلى إجابة عن سؤالك ..فكنت أفوز فى فروع متعددة ..فنظرت فى الأمر فقلت فى نفسى: أنت فى الشعر لا تفوز بالجائزة الأولى، وفى القصة الجائزة الثالثة، لكن فى المقال والبحث الموجز الأول باستمرار هذا فى المجلس الأعلى للفنون والآداب، أما فى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية فأربع سنوات على التوالى كنت أفوز بالمركز الأول فى البحث ومنه الكتاب الذى أشرت إليه، عندئذ قلت لنفسى "يا ولد أنت ناقد لا شاعر"، فأهملت الشعر كثيراً، وهذا أدى إلى أن الشاعر الكبير الدكتور حسن فتح الباب رحمه الله كتب مقالاً فى مجلة الشعر بعنوان "جناية النقد على شعر يوسف نوفل"، السبب الذى جعلنى اختار النقد وأغلبه وقتى والشعر لماماً مؤشر الجوائز ..مؤشر الجوائز قال لى: طريقك النقد والدراسة أكثر من طريق الإبداع ولكن ظللت محافظاً على الإبداع إلى أن أصدرت خمسة دواويين ..لكن التجلى الحقيقى ونعمة الأكبر هى فى النقد الذى أصدرت فيه حتى الآن ما يزيد على ثلاثين كتاباً ..

وماذا عن رسالتيك للماجستير والدكتوراه؟

  - حصلت على درجة الماجستير عام 1969م برسالة كانت بعنوان "صورة المجتمع المصرى فى الرواية المعاصرة منذ الحرب العالمية الثانية وحتى حرب 1967"، بإشراف الأستاذ الدكتور أحمد محمد الحوفى، الذى لم أذكره فيما مضى عندما تحدثت عن أساتذتى، وهو أستاذ فاضل له فضل على وكان الأستاذ الدكتور محمد مهدى علام مناقشاً ..أى فخر هذا حين أقول ناقشنى مهدى علام وناقشنى أيضاً الدكتور أحمد هيكل ... أما فى الدكتوراه كانت بإشراف الأستاذ الدكتور عبدالحكيم بلبع رحمه الله وكانت عن محمد عبدالحليم عبدالله وكان أول بحث عن عبدالحليم عبدالله..وناقشنى أيضاً الدكتور أحمد هيكل والدكتور عبدالقادر القط، ونوقشت عام 1973.

وماذا عن المسيرة الأكاديمية ومشروع كلية التربية ببوسعيد؟

الحديث عنها ذو شقين هنا وفى الخليج العربى ..أما هنا فالحمد لله رب العالمين توليت رئاسة قسم اللغة العربية مرتين طبقاً للقانون فى كلية البنات وتوليت قسم اللغة العربية فى كليات جامعة قناة السويس فى مدن السويس، والإسماعيلية وبورسعيد، والعريش فى وقت واحد، حين كنت منتدباً بعض الوقت لإنشاء كلية التربية ببورسعيد، ولها قصة حيث كنت أقرأ تصريحات لرؤساء جامعة قناة السويس فى ذلك الحين عن إنشاء كلية للتربية فى بورسعيد..وبورسعيد بلدى وأرسلت خطاب لرئيس جامعة قناة السويس، وذكرته بالأمر وعرضت استعدادى للمساعدة وطلبنى تليفونياً، وقال: عدى على فى الغد، وذهبت إليه وعرضت عليه المشورة، واتصلت بمحافظة بورسعيد، وأمدنا بالدعم المالى وأرسل الدعم المالى للجامعة، فالجامعة قالت لابد أن ييوافر المكان، وأنا جالس عند المحافظ أصدر أوامره بسحب المفاتيح من رئيس حى الشرق وتحول مبنى حى الشرق قبل أن يسكنوه إلى كلية التربية لدرجة أن مجلس جامعة قناة السويس قال لى: "ماصنعت لهؤلاء المسئولين؟" ولا يعرفون أننى بورسعيدى وبصداقتى انتزعت الموافقة انتزاعاً ونشرنا إعلان لطلبة بورسعيد فى جميع كليات ومعاهد الجامعات الأخرى بالانضمام للكلية الوليدة من السنة الأولى إلى السنة الرابعة فجأتنا عقبة أن مجموع الطلاب لا يسمح بالتنسيق مبدئياً كلية التربية فذهبت إلى محافظ بورسعيد رحمه الله، فقلت له: "حدث فى أحداث 1967 تقدير ظروف أهالى سيناء فتغاضوا عن المجموع وهؤلاء أولاد فى معاهد أخرى مجموعهم أقل من هنا"، واتصل المحافظ على الفور بالدكتور أحمد فتحى سرور وزير التعليم أمامى الذى أرسل الموافقة فى اليوم التالى، وقال "يصرح لهم بالتحويل من معاهدهم بصرف النظر عن المجموع، ونشأت الكلية فى الأربعة سنين وبعد ثلاثة أسابيع من افتتاحها أبلغنى رئيس الجامعة أن الدكتور سرور سيزور الكلية وبمجرد وصولى سأل عن العميد فقدمت له نفسى وقال لى:

كم عمر هذه الكلية؟

فضحك رئيس الجامعة وقال: "عمرها ثلاثة أسابيع".

وانفصلت الكلية عن الجامعة صارت جامعة بورسعيد مستقلة.وأنا مازلت اتصل بالكلية ومنذ سنوات أهديت جزءً كبيرا من مكتبتى لها وأوصيت لها ببقية مكتبتى.

 دور الجامعة فى الارتقاء بالأدب وزيادة جرعات الوعى؟

- الجامعة دورها أكبر فى هذه المسألة وخصوصا مع وجود قصور فى أجهزة الثقافة لأسباب مادية وغير مادية، ودور الجامعة فى الثقافة العامة لا يقل عن الدور الأكاديمى داخل المدرجات وداخل البحوث ..إذن الجامعة ميدان إسهامها ورسالتها المقدسة فى ثلاثة محاور: قاعة الدرس حيث الدرس الأكاديمى، وفى معامل البحث ورسائل الماجستير والدكتوراه، وفى المجتمع..ولهذا استحدثت الكليات وكيلا ثالثاً لشئون خدمة المجتمع والبيئة ومهمته أن يطلع خارج السور يتفاعل مع جيرانه فى الرياضة والثقافة وفى التربية وفى الفنون ..لكن اعتقد أن هذا الدور لم يأخذ حقه حتى الآن ..

متى نذلل العقبات التى تواجه المبدع كى يرى عمله النور؟

- الحقيقة هناك عقبات تعوق المبدع وخصوصاً الناشىء ..أول هذه العقبات استحالة النشر كنا زمان نقول صعوبة النشر أما اليوم فاستحالة النشر.. فلابد أن نذلل ونضع حلاً ..الدولة فكرت زمان فى مشروع الكتاب الأول، والكتاب الأول صاحب الفضل علىّ، وأنا أيضاً من أفضال المجلس الأعلى للفنون والآداب على فى الجوائز وأفضال أخرى أنه نشر لى الديوان الأول واسمه "كلمات حب" وكان مشرف على المشروع الشاعر الكبير د.عبده بدوى، ويجب على الدولة حل مشكلة النشر التى أصبحت مستحيلة وأيضاً تيسير سبل القراءة واعتقد النت وشبكات التواصل الاجتماعى أسهم فى حل هذه المشكلة.

سؤأل أوجهه لكل الأدباء والنقاد، متى نرى نظرية نقدية تنبع من أرضنا العربية الإسلامية؟

- هذا الأمر مازال الآن فى نظرى الشخصى صعب المنال، لأننا يغلب علينا التلقى أما عن ضعف أو تباهى بعقدة الخواجة والتعالى والتعاظم، ومادمنا متلقين فلن نستطيع أن نكون منشئين ..

كيف نستفيد من تراثنا الأدبى فى دراساتنا المعاصرة؟

- أنا أعمل فى كتاب "المكتبة الأدبية التراثية" منذ خمسين سنة، فأنا أعيش فى هذا الجو أتأمل ظاهرة أن تحقيق التراث ونشره ..كان مزدهراً فى أواخر القرن التاسع عشر، واستمر هذا النشاط حتى منتصف القرن الماضى حيث قامت "لجنة الترجمة والتأليف والنشر" بأعظم جهد فى هذا المجال ولا يلتفت إلى ذلك الكثيرون ..جهد لا يقل بل يفوق جهد دار الكتب المصرية فى تحقيق التراث ونشره، وتبين أننا مفتونون بأشخاص على السطح منهم أستاذنا عبدالسلام هارون، وإبراهيم الإبيارى، وأبو الفضل إبراهيم، ومحمود شاكر ، وغيرهم .. بينما هناك أعلام يسبقونهم ولكنهم لم يستمرون وإذا قررت أن تحصى عدد المحققين للتراث منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم لما استطعت حصرهم .. فمازال التراث فى حاجة إلى جهودنا لاسيما وإننا نستورد النسخة ونشتريها من المكتبات الأجنبية فمعظم تراثنا استوليا عليه وسرق ونهب إلى مكتبات دول أوربا ..وبين يدى بحث للدكتورة عائشة عبدالرحمن يتناول مراحل "البرتينا" فى فيينا فكتبت كيف استولى القناصل والسفراء على المخطوطات وتهريبها ..فمازال التراث يستصرخ من يمد له يد الإحياء ..

روشتة أخيرة موجهة للنقاد والأدباء؟

- القراءة ثم القراءة قبل التعجل بنشر الإبداع ..لا تتعجل قبل أن تكون قرأت وهضمت واستوعبت..

نصيحة أو رأى للنقاد وأنا منهم وقد يكون في ما أذكره: الضمير والحيادية والموضوعية وعدم الشللية وعدم الانتفاعية لأن تلك آفاتنا وستقضى علينا..  

وسوم: العدد 656