مع الدكتور وجيه يعقوب السيد وحديث عن قضايا العصر الأدبية

أبو الحسن الجمّال

clip_image001_e50f7.jpg

 

clip_image002_88156.jpg

 

clip_image004_84912.jpg

 

clip_image006_550fa.jpg

ومازلنا نهرع إلى دوحة كل أصيل.. كل أديب حقيقى معطاء.. يوثر فى أمته ويكون مهموماً بأفراحها وأتراحها كل الوقت ..أديب لا يتخذ الأدب سلماً لتحقيق أطماعه الخاصة وأغراضه والانتصار لأصحاب أيدلوجيته، يقربهم ويغدق على الجوائز والمناصب..أديب لا يحج إلى الطغاة والظالمين.. يزين لهم سوء أعمالهم، ولكن الأديب الحقيقى الذى يستقل عن أى سلطة ليراقب أعمالها ويشرح أفعالها ولا يعيقه أى مؤثر عن تحقيق دوره المطلوب منه تجاه أمته ...

  وسوف نلتقى فى التالية من خلال حوار مع أستاذ تنطبق عليه هذه الشروط السالفة الذكر ..إنه الأستاذ الدكتور وجيه يعقوب السيد، أستاذ النقد الأدبى الحديث فى كلية الألسن جامعة عين شمس، ولسوف تستغرب عزيزى القارىء الكريم: (أدب عربى وقسم لغة عربية فى كلية الألسن التى تهتم باللغات الغربية وآدابها وأعلامها)؟!!! ..أقول: أن هناك قسم للغة العربية فى هذه الكلية العريقة، ودرس به الأعلام الذين تخرجوا من دار العلوم أى "أنه يجمع بين مناهج المدرستين الكبيرتين الآداب ودار العلوم، فالذين أسسوا قسم اللغة العربية هم من أبناء دار العلوم من أمثال: الدكتور عبد السميع محمد أحمد، والدكتور محمد عبد الرحمن شعيب، والدكتور محمد عبد الحميد سالم، والدكتور جابر قميحة، وغيرهم، ومن أبناء كليات الآداب من أمثال الدكتور عوني عبد الرؤوف، والدكتور عبد الله خورشيد، لذلك فإن طالب الألسن يجمع بين النزعة المحافظة والتجديد".

  ولد الدكتور وجيه يعقوب فى السادس من أغسطس عام 1968، وتخرج فى كلية الألسن قسم اللغة العربية عام 1990 بتقدير عام جيد جداً، وحصل على درجة الماجستير في الأدب والنقد عن موضوع "استلهام التراث في روايات جمال الغيطاني"، كلية الألسن، جامعة عين شمس، عام 1995م، بتقدير ممتاز، وعلى درجة الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث عن موضوع "الرواية المصرية في ضوء المناهج النقدية الحديثة"، من كلية الألسن، جامعة عين شمس، عام 1999م، بتقدير مرتبة الشرف الأولى.

 له العديد من الكتب النقدية منها: الرواية والتراث العربي، هيئة قصور الثقافة، مصر، 1997م، و"دراسة في رواية ثنائية الحب والغضب لعلي أبو الريش"، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الإماراتية، ديسمبر 1998م، و"من قضايا الشعر الجاهلي"، مكتبة الآداب، القاهرة، 2000م، و"محمد حسن عبد الله ونقد الرواية"، كتاب تذكاري، دار قباء، 2000م، و"الرؤية الإسلامية في شعر علية الجعار"، مؤتمر رابطة الأدب الإسلامي بمصر، و"خصائص الأدب في ضوء نظرية النقد الإسلامي"، مؤتمر رابطة الأدب الإسلامي بمصر، 2000م، و"الرواية المصرية في ضوء المناهج النقدية الحديثة"، مكتبة الآداب، القاهرة، 2004م، ومناهج النقد الروائي"، مكتبة آفاق، الكويت، 2013م،."سرديات الرواية العربية"، مكتبة آفاق، الكويت، 2014م، و"الرواية والتراث العربي"، مكتبة آفاق، الكويت، 2014م، و"من قضايا الشعر الجاهلي"، مكتبة آفاق، الكويت، ط 2، 2014م، و"يعقوب يوسف الغنيم وأدب الأطفال"، مؤتمر يوم الأديب الكويتي، قسم اللغة العربية، جامعة الكويت،2010م...علاوة على الأبحاث المنشورة فى الدوريات والمجلات الأدبية فى مصر والدول العربية.

 ولسوف نلتقيه فى الحوار التالى نناقش معه بعض القضايا الأدبية والفكرية وهموم النقد الأدبى وإمكانية وجود نظرية نقدية أدبية عربية تنبع من تراثنا وهو سؤال أوجهه لجميع من حاورتهم، وأدب الطفل كما تطرقنا إلى ذكرياته الأدبية والفكرية وعلاقاته بأعلام عصره وأساتذته، وإلى نص الحوار: 

  

-         بداية حدثنا عن النشأة وكيف كانت للقدوة أثرها فى تلك النشأة؟

بدأت علاقتي بالقراءة قبل التحاقي بالجامعة، وذلك من خلال المعارض التي كانت تقام بالمدرسة الثانوية مرة أو مرتين على الأقل في العام. كانت قراءة عامة وغير موجهة يغلب عليها الطابع الديني في البداية ثم تنوعت بعد ذلك، أذكر أن أحد الزملاء هو الذي لفت نظري إلى كتابات الدكتور مصطفى محمود، ومنذ ذلك الوقت فتنت بكتاباته وأسلوبه، وظلت أفكاره وطريقته في الكتابة تمثلان لي نموذجا ومعيارا للكتابة المثالية حتى وقت قريب، ومن أهم الكتب التي قرأتها له في ذلك الوقت: "القرآن محاولة لفهم عصري"، وهو نمط مختلف في التفكير جدير بالمتابعة. ومن المفارقات العجيبة أنني ظللت أحلم بلقاء الكاتب الكبير والمفكر العظيم حتى تم لي ذلك بواسطة الحاجة زهيرة العبد، وأجريت معه لقاء مطولا عام 1996م نشر في مجلة "العالم الإسلامي" بمكة المكرمة عندما كنت أعمل بالصحافة. كما فتنت بأسلوب الدكتور محمد حسين هيكل وطريقته القصصية المشوقة، خاصة كتابه المهم: "حياة محمد"، وأذكر أنني بسبب ولعي بهذا الكتاب كنت أقتني منه نسخا كثيرة وطبعات مختلفة، وأقوم بإهدائه لأصدقائي المقربين، ولم يعجبني تعريض الدكتور رمضان البوطي به في مقدمة كتابه: "فقه السيرة النبوية"، حتى أنه وصل به الأمر إلى حد اتهامه بتكذيب الوحي والمعجزات، والتعامل مع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم على أنها سيرة إنسان عادي، لكنني على العكس من الدكتور البوطي رأيت أن الدكتور هيكل كان حريصا على إظهار الجانب الإنساني العظيم في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو عظيم حتى قبل أن ينزل عليه الوحي، كما أنه كان يريد أن يقدم النموذج المحمدي البشري للقارئ العربي والغربي، فكان من الأنسب أن يقدمه على هذا النحو دون أن يكون في ذلك إنكار للوحي ولا للنبوة. وكذلك تعلقت جدا بكتابات الأستاذ خالد محمد خالد، خاصة كتابيه: "رجال حول الرسول"، و"خلفاء الرسول"، كنت أعايش من خلال ترجماته الشخصيات معايشة حقيقية، فلغته لغة وصفية ذات طابع وجداني من طراز فريد، تستطيع أن تنقل لك الأحداث كما لو كنت تراها وتخالط أصحابها، وتعلقت كذلك بكتابات المرحوم سيد قطب وشخصيته وتحولاته وقناعاته، وأرى أن هذا المفكر الكبير قد ظلم ظلما كبيرا بسبب الولاءات والصراعات السياسية والأيديولوجية، وهو صاحب فكر وصاحب مشروع سواء اتفقت أو اختلفت معه، فيجب أن تنظر في مجمل أعماله وآرائه، فلا يوجد إنسان كامل ومعصوم، ولا توجد أفكار غير قابلة للنقاش والأخذ والرد، كان سيد قطب من أوائل من كتبوا عن المبدع الكبير نجيب محفوظ، وتنبأ بوصوله للعالمية في وقت مبكر، وقد أثر في جيل كامل من النقاد الشباب على رأسهم الأستاذ أنور المعداوي، وقد ذكر ذلك نجيب محفوظ نفسه ورجاء النقاش، بل حتى غالي شكري وهو من غلاة النقاد أصحاب الرؤية الأيديولوجية المعروفة، ولا أنسى هنا مداومتي على استماع حلقات مولانا الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله، فقد كانت كنزا حقيقيا يحوي الدقائق اللغوية ويفيض بالمعاني الإنسانية والصوفية، ويجمع بين البساطة والعمق، وعلى الرغم من اعتماده على التراث الكبير الذي تركه المفسرون العظام من أمثال: الفخر الرازي، والزمخشري، وسيد قطب، فقد كان للرجل لمساته واجتهاداته التي لا تخفى. أما في الجامعة فكان الأمر مختلفا، حيث انفتحت أمامي طاقات أخرى للقراءة بحكم التخصص بطبيعة الحال. بدأت في التعرف على كتابات نجيب محفوظ، ومحمود درويش، وطه حسين، وأحمد مطر، وبعد تعييني معيدا بدأت أفكر في اختيار موضوعاتي للماجستير والدكتوراه، وكنت حريصا على اختيارها بنفسي، كانت القضايا الخلافية مثل آراء طه حسين في الشعر الجاهلي وتقييم النقاد لرواية "أولاد حارتنا" تستأثر بجانب كبير من اهتمامي، وكنت أضع نفسي دائما موضع الحكم الذي يحاول أن يتبنى وجهة نظر محايدة ويستمع للطرفين..

* هناك أمنيات يتمناها الإنسان فى مقتبل حياته، ماهى تلك الأمنيات، وما الذى لم يتحقق بعد؟

 - في مقتبل حياتنا جميعا تكون لنا أمنيات وأحلام كثيرة، بعضها قد يتحقق وبعضها الآخر نكتشف مع الأيام أنه لم يكن يناسبنا، وقد تحقق لي من تلك الطموحات الكثير بفضل الله تعالى وكرمه، في البداية حلمت بالعمل في الصحافة فيسر الله لي ذلك وكتبت في مجلات وصحف مصرية وعربية كثيرة، وحلمت بالعمل في الجامعة واستكمال مسيرتي الأكاديمية وقد يسر الله لي ذلك، لكن الباحث الجاد يجب ألا تكون لطموحاته حدود، ويجب ألا يتوقف عن البحث وطرح الأسئلة، عليه أن يقر دائما بالتقصير والنقص، يجب أن يكون شعوره بالرضا عما أنجزه وقتيا حتى يكتسب الثقة والتوازن في أثناء الكتابة والتأليف، لكن بعد أن يفرغ من عملية الكتابة، عليه أن يعيد النظر فيما قدم، وأن يتهم نفسه بالتقصير ويكون أول الناقدين لعمله. على المستوى الشخصي أحلم بأن أسهم في تطوير حقل الدراسات النقدية بجهدي المتواضع، أرجو أن يصبح النقد الأدبي في متناول الجميع، لماذا لا يتبنى النقاد مشروع تبسيط لغة النقد مع الحفاظ على عمقه ومنهجيته؟ لماذا لا نعرف الناس بأهمية النقد في حياتنا؟ أحزن كثيرا عندما ينفق الباحث سنوات من عمره لكتابة بحث علمي جاد ثم لا يقرأه في النهاية سوى عدد محدود جدا لسبب أو لآخر، أرجو أن يتاح لي ولغيري القيام أو الإسهام بطريقة أو بأخرى في تبسيط لغة النقد الأدبي، وتقديمه للناس في صورة مشوقة ومحببة، ولا شك أننا في أمس الحاجة إلى نشر الوعي وتشكيل العقل الناقد، الذي لا يقبل بالمسلمات دون مناقشة. أطمح أيضا إلى العودة إلى الكتابة للطفل من جديد، فقد قدمت مجموعات قصصية للطفل في موضوعات شتى قبل نحو عشرين عاما، ثم انشغلت عن ذلك بالبحث العلمي وبسبب السفر، وأحسب أن هناك العديد من الأفكار التي يمكن أن تقدم في هذا المجال. هناك أيضا موضوعات أدبية ونقدية مهمة تحتاج إلى أن تسليط الضوء عليها، ودراستها في ضوء المناهج النقدية الحديثة، أرجو أن يتاح لي الوقت لدراستها في المستقبل القريب بإذن الله تعالى.

* ذكرياتك عن الأساتذة ورفاق دربك خلال دراستك فى الجامعة وفى حياتك الأدبية فيما بعد؟

  - عندما التحقت بكلية الألسن لم أكن أدري أن بها قسما للغة العربية، ولا شك أن هناك الكثيرين لم يسمعوا بوجود قسم للغة العربية بكلية الألسن حتى الآن، وحين تحدثهم عن قسم اللغة العربية بكلية الألسن يبدون استغرابهم ودهشتهم، ولا أعرف السبب في ذلك ربما لعزوف الطلاب عن دراسة اللغة العربية أو بسبب تقصير الإعلام أو بسبب تقصيرنا نحن في التعريف بالقسم والدعاية له. وأنا أعتبر قسم اللغة العربية بكلية الألسن قسما فريدا ومميزا لسببين؛ الأول: أنه يجمع بين مناهج المدرستين الكبيرتين الآداب ودار العلوم، فالذين أسسوا قسم اللغة العربية هم من أبناء دار العلوم من أمثال الدكتور عبد السميع محمد أحمد والدكتور محمد عبد الرحمن شعيب والدكتور محمد عبد الحميد سالم والدكتور جابر قميحة وغيرهم، ومن أبناء كليات الآداب من أمثال الدكتور عوني عبد الرؤوف والدكتور عبد الله خورشيد، لذلك فإن طالب الألسن يجمع بين النزعة المحافظة والتجديد. وأنا هنا بالطبع لا أقول بتفوق مدرسة على أخرى ولا أفاضل بين كلية وأخرى، ولكني مؤمن بأن لكل مؤسسة علمية شخصيتها وبصمتها الخاصة بها. أما السبب الآخر، فيرجع إلى أن أساتذة القسم يتعاملون مع طلاب يدرسون لغات أجنبية مختلفة، وهو ما يجعلهم حريصين على اختيار نصوص وموضوعات ذات طبيعة خاصة تناسب هذه النوعية من الطلاب وتنفتح على الثقافات المختلفة. قسم اللغة العربية بكلية الألسن من الأقسام المهمة، وله إسهاماته وله شخصيته، وأصبح هناك عدد لا بأس به من أبنائه وخريجيه لهم حضورهم وتواجدهم في المحافل المهمة، أذكر منهم على سبيل المثال: الدكتور سعيد بحيري، والدكتور محمد العبد، والدكتور محمد الوزير، والدكتور سيد قطب، والدكتور عبد المعطي صالح، والدكتورة نجوى عمر، والدكتورة إيمان السعيد، والدكتور عبد الرحمن عبد السلام محمود، والدكتور أحمد يحيى، والدكتور أحمد رومية، وغيرهم كثير. ونظرا لأن عدد الطلاب الدارسين للغة العربية بكلية الألسن قليل نسبيا، فإن هذا يمكنهم من الاستفادة بشكل أكبر من الأساتذة، ويسمح بالمناقشة وإعداد البحوث بشكل أفضل. لا أنسى وأنا طالب عندما كان يدرس لنا الدكتور رجاء عبد المنعم جبر مادة النقد الأدبي القديم، وهو واحد من أبرع الأساتذة والنقاد وإن لم يحظ بما يستحق من شهرة، كان يدرس لنا كتاب: "معالم على طريق النقد"، والكتاب عبارة عن دراسة للنقاد العرب القدامى ودورهم في تأسيس النقد الموضوعي، وكانت مقدمة الكتاب عبارة عن شرح لقصيدة لأحمد شوقي وفق مناهج نقدية مختلفة على ما أذكر، أراد الدكتور جبر أن يدربنا على كيفية التعامل مع النصوص الشعرية، وبعد انتهاء المحاضرة سألت أستاذي عليه رحمة الله: أليس من الأفضل لو كانت تلك القصيدة لشاعر قديم بدلا من شوقي حتى تتناسب مع موضوع الكتاب وهو عن النقد القديم؟ كنت أعرض السؤال وأنا خائف من مضايقته أو إزعاجه بسؤالي، لكنه أبدى سعادته وإعجابه بالسؤال وقال: معك كل الحق، لو أتيح لي أن أقدم طبعة جديدة من الكتاب سأختار قصيدة أخرى. كان الدكتور عبد الله خورشيد مدرسة حقيقية ترك أثرا كبيرا فينا جميعا بعلمه وأخلاقه وزهده وتواضعه، كان لا يغيب عن محاضرة، وكانت محاضرة أشبه بندوة علمية يحضر فيها الطلاب والمعيدون وكان لا يدرس بطريقة تقليدية وإنما يطرح علينا الأسئلة ويطلب منا الإجابة عنها بعد البحث، على أن أهم أثر تركه هو تواضعه وزهده في المناصب، أذكر مرة أن الدكتور رجاء جبر تردد في ضبط كلمة فقلت له لقد سمعتها من الدكتور خورشيد على هذا النحو فقال إن كان نطقها كذلك فهو حجة ولا أراجع خلفه، رحم الله الجميع.

     *هناك أدباء يستلهمون موضوعاتهم من التراث، هل هذا منطلق إلى تزوير أحداث التاريخ تحت مسميات الضرورة الإبداعية؟

 - قضية استلهام التراث كانت موضوع دراستي في الماجستير، حيث درست ظاهرة استلهام التراث في روايات جمال الغيطاني، باعتباره أهم كتاب جيله في التعامل مع التراث بصورة فنية، وقد كتب في هذه القضية العديد من النقاد والباحثين، منهم: الراحل الكبير الدكتور علي عشري زايد وكتب عنه أيضا الدكتور مراد مبروك وسعيد يقطين ومأمون الصمادي وغيرهم، وهو موضوع يحتمل العديد من الدراسات. ورأيي في هذه القضية باختصار هو أن هناك فرقا بين من يستنسخ التراث ويعيد كتابته لأسباب دينية أو تعليمية أو تهذيبية كما فعل جورجي زيدان، ومحمد فريد أبو حديد، وعلي أحمد باكثير، ونجيب الكيلاني، وهؤلاء يجب أن يلتزموا بالحقيقة التاريخية، وفي الحقيقة فإن كتاباتهم لا تضيف كثيرا على المستوى الفني، وبين من يستلهم التراث لأسباب فنية مثل جمال الغيطاني، ونجيب محفوظ، وصلاح الدين بوجاه، ومحمود المسعدي، وغيرهم، فهؤلاء لا يحرصون على المادة الحكائية، ولا يشغلهم التاريخ وأحداثه وإنما هم يتخذون منه وسيلة ورمزا فنيا يطرحون من خلاله قضايا معاصرة بلغة جديدة، لذلك فإن هذا النوع من الكتابة ليس من الضروري أن يلتزم فيه الأديب بما يعرف بالصدق التاريخي، على العكس من النوع الأول الذي أشرنا إليه، يكفي أن يحافظ الكاتب على الخطوط العريضة للأحداث التي يقوم باستلهامها، لأنه يقدم عملا روائيا ولا يقدم عملا تاريخيا.

*كيف نميز بين الأديب الدعى والأديب الحقيقي الذى يمثل أمته؟

 - الأدب الجيد يفصح عن نفسه ولا يحتاج إلى دعاية. هذه حقيقة يجب أن نقر بها في البداية، وأهم ما يجب أن يتوفر في العمل الأدبي هو الصدق والموهبة والتعبير عن قضايا المجتمع وهموم الناس والشعور بالمسؤولية. هناك من يبحث عن الشهرة بأي ثمن، حتى لو كان ذلك عن طريق افتعال أزمة أو السباحة ضد التيار، وهناك من يشق طريقه بصبر ودأب وإصرار، وهذا النوع من الكتاب هو المرشح للبقاء والتأثير في الناس. في الستينيات حاولوا الترويج لنوع معين من الأدب ودعمته المؤسسة الرسمية ووسائل الإعلام، لكنه بعد ذلك كان يباع على الأرصفة ولا يجد من يقرأه. على العكس من ذلك فإن الأدب الأصيل الذي سجن أصحابه أو شوهت أعمالهم أو تجاهلتهم وسائل الإعلام، نجد الناس بالملايين يقبلون على قراءته ويسعون إلى الحصول على كتبهم بشتى الطرق. لذلك مهما بذل الأدعياء من جهد للدعاية لكتاباتهم فإن ذلك لن يجدي نفعا، ولن يرفع لهم قدرا أبدا.

*كيف ترى الوضع الثقافي الراهن فى مصر؟

 - من الصعب لأي متابع أن يصف الواقع الثقافي في مصر في لقاء أو في مقالة. ربما يحتاج الأمر إلى دراسة متأنية وجادة ترصد الجوانب الإيجابية والسلبية المختلفة في الثقافة المصرية وتقيمها بشكل موضوعي. لكن المتابع للوضع الثقافي المصري الحالي بإمكانه أن يرصد عدة أمور منها؛ سيطرة اتجاه بعينه وهو الاتجاه اليساري على وسائل النشر والدعاية، وهذا الوضع مستمر منذ الستينيات كما ذكر المفكر الكبير الدكتور عبد الرحمن بدوي في سيرته الذاتية، ولا يرجع ذلك إلى مواهبهم وإمكانياتهم الفذة، وإنما إلى الشللية واستغلالهم للوضع السياسي والقيام بدور المحلل لأي نظام سياسي قائم، ويرى الدكتور بدوي أن ثمن تمويل الروس للسد العالي كان ضمان هيمنة التيار اليساري على أجهزة الثقافة والنشر وهو ما حدث بالفعل. وأغلب هؤلاء له موقف سلبي من الحضارة والثقافة الإسلامية بالذات، أحيانا أشعر بأنهم مستعدون لقبول أي شيء سوى ما قدمته قريحة المفكر المسلم والأديب المسلم والفقيه المسلم. أذكر أنني عند إعدادي لرسالة الدكتوراه عن مناهج النقد الروائي حرصت على أخذ رأي الدكتور جابر عصفور والتشاور معه، وكان وقتها الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، وبمجرد أن طرحت عليه فكرة الأدب الإسلامي والنقد الإسلامي رفض المصطلح بشدة، وقال لي بالحرف: أنت تريد أن تفتح علينا أبواب جهنم، لا يوجد شيء اسمه أدب إسلامي. لكنني مضيت في دراسة الموضوع، لأن الناقد عليه أن يتابع الحركات الفكرية والأدبية المختلفة الموجودة على أرض الواقع مهما كان رأيه فيها. ولا أنسى مرة حين اتصلت بأحمد عبد المعطي حجازي وكنت على علاقة طيبة به آنذاك عقب نشره مقالا في جريدة الأهرام، يدعو فيه إلى محاربة التطرف عن طريق العودة إلى دراسة الجسد العاري في كليات الفنون الجميلة، وما أن حدثته عن قيمنا الشرقية والإسلامية وأنه لا ضرورة فنية تدعو لتبني هذا الرأي الشاذ حتى هاج وماج، واتهمني بمعاداة الفن والتقدم وغير ذلك من التهم الباطلة التي تدل على ضيق أفق هؤلاء، وحين رشح الدكتور شوقي ضيف لنيل جائزة الدولة التقديرية أو جائزة مبارك فيما أذكر، كانت نظرة أعضاء المجلس الأعلى للثقافة له نظرة غير منصفة وغير موضوعية، حيث تم استبعاده واختيار أنيس منصور بدلا، وقد تحدثت مع فاطمة المعدول وكانت آنذاك مسؤولة مهمة في وزارة الثقافة، وحاولت أن أعرف منها المعايير التي استندوا إليها في تصويتهم على منح الجائزة للكاتب الصحفي أنيس منصور بدلا من الكاتب والمؤرخ الأدبي المعروف شوقي ضيف، رأيت تسفيها وتقليلا من شأن باحث كبير مثل الدكتور شوقي ضيف قدم خدمات جليلة للثقافة العربية وتاريخ الأدب العربي، وتحقيرا من شأن التراث. نحن بحاجة إلى مؤسسات وهيئات موضوعية ومتوازنة تضم التيارات والاتجاهات الأدبية كافة دون إقصاء لأحد، ودون استئثار فئة بعينها على مقاليد الثقافة والفكر وتوجيهها باتجاه معين، وللأسف الشديد ثبت أن معظم هؤلاء المثقفين أصحاب شعارات جوفاء، يتكلمون عن قيم الحرية والعدالة والمساواة، وهم أبعد الناس عن ذلك، هم إقصائيون ونخبويون وتمييزيون بامتياز. ولذلك لا يمكن لعين المتابع أن تخطئ أن مصر لم تعد مركزا للنشاط الثقافي، فقد فقدت مصر جزءا كبيرا من تأثيرها كما نعلم جميعا.

*هل أدت الجامعة على مدار تاريخها دورها فى الارتقاء بالأدب وفنونه؟

- قدمت الجامعة العديد من النقاد والمبدعين منذ نشأتها، قدمت طه حسين ومحمد مندور وغنيمي هلال وعبد الرحمن بدوي ونجيب محفوظ ومحمود حسن إسماعيل وفاروق شوشة، لا أقول إن هؤلاء أصبحوا أدباء ومبدعين بسبب الجامعة وإنما بسبب موهبتهم في الأساس، ولكن الجامعة لا شك صقلت هذه الموهبة وأخذت بأيديهم لتطوير أساليبهم وتنمية أفكارهم ورؤيتهم للحياة. ولا شك أن النقد الأكاديمي الحقيقي الذي طورته الجامعة بسبب مناهجها البحثية أكثر انضباطا ودقة من النقد الانطباعي والذوقي الذي كان سائدا لفترات طويلة، كما أن إجراءاته وأدواته أكثر قدرة على تحليل النصوص الأدبية بصورة علمية ومنهجية. وقد قام النقد الأكاديمي بدوره منذ تأسست الجامعة ولا يزال يقوم بدوره حتى الآن، لكن الروح الأكاديمية ليست حكرا على من يحصل على درجة علمية من الجامعة، وإنما هي أدوات وإجراءات يقوم الناقد بتطبيقها على النصوص الأدبية إن أحسن الاستفادة من هذه المناهج، ونحن نجد هذه الروح متحققة في نقد كثير من النقاد خارج أروقة الجامعة. ألا يعد نقد العقاد والرافعي ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس والشيخ محمود شاكر في كثير من جوانبه نقدا موضوعيا وعلميا ويتمتع بالروح الأكاديمية؟ لقد طبق هؤلاء مناهج نقدية حديثة بكفاءة منقطعة النظير على النصوص الأدبية، وأسسوا للنقد العلمي من خلال ممارساتهم وتطبيقاتهم. لكن يبقى للنقد الأكاديمي وللنقاد الأكاديميين دورهم ونكهتهم وطابعهم المميز لهم ولأعمالهم كما أشرنا.

*متى نرى نظرية أدبية حقيقة تنبع من الثقافة المصرية العربية ولا تصطدم بالتربة المصرية التى تطرد كل غريب وشاذ؟

حاولت العثور في أثناء إعداد بحثي عن مناهج النقد الروائي، على خطوط عريضة لما يمكن أن يسهم في تشكيل نظرية أدبية تنبثق من الثقافة العربية وتعبر عن البيئة العربية، وتراعي خصوصية الثقافة العربية، وتحاول تنقية النقد من مصطلحاته وتصوراته الغربية التي لا تناسب مجتمعاتنا في بعض الأحيان. لكنني توقفت عن البحث في هذه القضية، لأسباب كثيرة منها: أن النقد - خاصة الروائي - يعتمد في المقام الأول على الترجمة وليس لدينا تراث نقدي يمكن أن يحل محل النقد الغربي، فمن الصعب الاكتفاء بما ننتجه في هذا الباب، دون الاستفادة مما لدى الآخرين. وعندما نقرأ تراثنا النقدي القديم، سنجد أن نقادنا استفادوا من النقد اليوناني ولم يجدوا غضاضة في ذلك، سنجد ذلك في كتاب نقد الشعر لقدامة بن جعفر بوضوح وعند القاضي الجرجاني من خلال بحثه في علاقة الشعر بالدين وغير ذلك من القضايا المهمة. لذلك فإن أقصى ما يمكن أن نفعله الآن، هو حسن الاستقبال والتعامل مع المصطلحات النقدية، واختيار ما هو ملائم لثقافتنا وبيئتنا، مع قراءة تراثنا قراءة واعية وفاحصة عسى أن نستطيع استخلاص بعض العناصر التي تفيدنا في هذا الباب.

*كيف نستفيد من دراسة التراث العربى فى تنمية الروح الإبداعية في الوقت الراهن؟

- التراث العربي ثري ومتنوع جدا، وتراث أية أمة هو دليل وجودها وحيويتها، ولسنا في حاجة إلى التأكيد على دور التراث العربي والإسلامي وما يمثله من قيمة كبيرة في حياة العرب والمسلمين إلى يومنا هذا. للأسف هناك من يفهم استلهام التراث فهما حرفيا بعيدا عن الواقع، ويرى أننا يجب أن نعيش أسرى للماضي وألا نخرج من عباءته، من الممكن لمن يعايش التراث ويقرأه على نحو مختلف أن يقدم أعمالا إبداعية متميزة، وهناك فرق بين استلهام التراث واستنساخ التراث، استطاع جمال الغيطاني على سبيل المثال أن يستنطق هذا التراث ويعيد اكتشافه ويقيم بينه وبين الواقع جسورا متينة، فلم يشعر قارئ رواية الزيني بركات مثلا أو رسالة في الصبابة والوجد أو التجليات أنه أمام نصوص قديمة عفى عليها الزمن، ولكنه شعر أن هذه النصوص تقضي على هذه الازدواجية وتقدم نموذجا فنيا يجمع بين القديم والحديث، وكذلك فعل نجيب محفوظ في ليالي ألف ليلة وفي أصداء السيرة الذاتية وفي حضرة المحترم وفي كثير من أعماله، خاصة في تعامله مع اللغة والحبكة القصصية المنبثقة من قصص ألف ليلة وليلة والمستوحاة من الحكاية العربية القصيرة شديدة التكثيف.

*كيف ترى مستقبل الأدب الإسلامي؟

 - الأدب الإسلامي فكرة نبيلة ولها حضورها ومنطقها ومشروعيتها بالتأكيد. لكن نبلها وحضورها لا يكفيان لحجز مكان مميز لها بين التيارات المتلاطمة. أكثر من يتحدث عن الأدب الإسلامي هم حسنو النية جدا، ولديهم غيرة حقيقية على دينهم وعلى أدبهم، ويسعون إلى غرس القيم من خلال الكلمة الطيبة، ولا يدخرون جهدا في سبيل ذلك. لكن المشكلة ليست في هذه المشاعر وحدها، وإنما في وضع تصور حقيقي وشامل لمفهوم الأدب الإسلامي والنقد الذي يدور حوله. المشكلة الكبرى من وجهة نظري تكمن في أن كثيرا ممن يمارسون العمل والدعوة للأدب الإسلامي يفهمون رسالة الأدب فهما حرفيا، ويخلطون بين الأدب والدعاية، ويقربون هذا الأديب ويقصون ذاك بناء على تصورات معينة أغلبها شخصي وغير صحيح. الأدب الإسلامي هو أدب الحضارة الإسلامية، الذي تشكلت مفاهيمه وتصوراته عبر التاريخ دون إقصاء لأحد. كثيرا ما كنت أقول لأصدقائي المهتمين بهذا الجانب - وقد قدمت أكثر من دراسة وشاركت في أكثر من مؤتمر خاص بالأدب الإسلامي -: يجب أن نبحث عن صورة الأدب الإسلامي في أدب نجيب محفوظ وجمال الغيطاني وأحمد شوقي ومحمود درويش وغيرهم وليس في كتابات نجيب الكيلاني أو الخطب أو الأشكال الوعظية المباشرة. يجب أن تقدم في هذا الباب دراسات جادة وموضوعية وبعيدة تماما عن فكرة البحث في نيات الكاتب، كما يجب أن يتسع الاهتمام ليشمل الجانب الفني وليس فقط الجانب الفكري. عندما كنت أواظب على حضور ندوات الأدب الإسلامي بجمعية الشبان المسلمين، كنت أعاني من فهم بعض الأصدقاء للأدب الإسلامي على نحو ضيق، بعضهم يحاكم الكاتب على عبارة أو على رسمه لشخصية روائية على نحو معين، وهو لا يحمل المؤهلات التي تجعله في موضع الحكم أو تأويل النص وفهم أبعاده وأغواره بصورة صحيحة.

* وماذا عن أدب الطفل؟

- الكتابة للطفل للأسف الشديد مهضوم حقها في مجتمعاتنا، سواء على مستوى التأليف أو النشر أو بسبب عدم اهتمام الدوائر الرسمية بهذا المجال الحيوي. كثير من كتاب الأطفال للأسف الشديد هم كتاب بالمصادفة، لا يعرفون طبيعة الطفل ولا سيكولوجية الطفل ولا اللغة التي تناسبه، هم يتعاملون معه على أنه رجل صغير، لذلك فإن أقصى ما يقومون به، هو أنهم يبسطون اللغة ويختارون مفردات يظنون أنها تناسبه، ويقدمون له النصيحة الفجة من منطق أبوي، دون أن يدركوا أن الطفل كائن مختلف تماما، له خياله وله طريقته في التفكير، وأن ما يناسب الأطفال في بيئات أخرى قد لا يناسب أطفالنا، لذلك يجب أن تكون لدينا خطط وبرامج وأفكار جادة تناسب أطفالنا. أعجبني جدا كامل كيلاني يرحمه الله، عندما كتب عن السيرة النبوية وأحداثها للطفل، وضع نفسه موضع الطفل وتساؤلاته المشروعة وخياله، لذلك لم يكن تقليديا في طرحه ولا معالجته، على العكس من عبد التواب يوسف الذي كان يقوم في الغالب بتلخيص وتبسيط الأحداث لتتناسب مع الأطفال، دون أن يتخيل أو يتصور الأحداث وفق منطقهم هم. أدب الأطفال عندنا للأسف الشديد ليس له خطة واضحة، هو عبارة عن اجتهادات فردية، كما أن كثيرا منه مترجم من لغات شتى، وقد لا يكون مناسبا لأولادنا. وأنا هنا لا أريد أن أغمط حق الكتاب أو أنتقص من قيمة ما قدموه، لكني فقط أريد لهذه الكتابات أن تكون وفق خطة مدروسة، وأن تلقى الدعم الكافي والمستحق من الدولة، وأن تعالج قضايا حقيقية وواقعية، وأن يكون لديها مشروع فكري وأخلاقي وتربوي واضح. حين أصدرت جريدة الأهرام مجلة علاء الدين للأطفال أسندت رئاسة تحريرها للكاتب المعروف عزت السعدني، وهو كاتب صحفي كبير بلا شك وصاحب تحقيقات صحفية مهمة، لكنه لا يملك أي خلفية حقيقية عن الكتابة للطفل، لذلك كانت مجلة علاء الدين للأطفال اسما وهي أبعد ما يكون عن ذلك، أما مجلة بلبل التي أصدرتها مؤسسة أخبار اليوم وتغير اسمها فيما بعد - وقد شاركت فيها - فقد كانت تعتمد على القصص المترجمة بنسبة تزيد على سبعين في المائة من أبوابها التحريرية، وكانت أشياء قديمة ومملة في أغلب الأحيان ومكررة، ولم أعثر حتى الآن على مجلة عربية للأطفال - على كثرة ما يصدر منها - يتحقق فيها ما أصبو إليه، باستثناء مجلة ماجد نسبيا، فهي تنشر أعمالا مترجمة في حدود معينة مقبولة، وتتيح الفرصة للشباب وللمواهب الحقيقية، وهي تضم نخبة مميزة من الكتاب والرسامين والمحررين. وأما دور النشر فهي تهتم بالتوزيع والربح في الغالب، ولا يعنيها الرسالة التي تقدمها ولا القيم التي تدعو إليها.

وسوم: العدد 667