حوار مع عبد الله الطنطاوي

حوار مع عبد الله الطنطاوي

د. عبد الله الطنطاوي

[email protected]

حاوره : أحمد طاهر أبو عمر

ج1 ـ ولدت في بلدة إعزاز الواقعة شمالي حلب ـ بالقرب من الحدود التركية ـ عام 1938 في أسرة ميسورة ، أبي الشيخ محمود تاجر وشيخ صوفي ، وعنده ثقافة دينية جيدة ، قاوم الفرنسيين الذين كانوا يستعمرون سورية ، جدي علي جاء إلى سورية مع شقيقه مصطفى ، في حملة إبراهيم باشا على سورية عام 1832 ، وبعد فشل الحملة ، غادر إبراهيم باشا وكبار ضباطه سورية إلى مصر ، وبقي في سورية آلاف العسكريين الذين كانوا معه ، ومنهم جدي وأخوه ، تزوجا وأنجبا ذرية توزعت بين الريحانية التركية ، وإعزاز ، وعفرين ، وحلب .

درست الابتدائية في إعزاز ، والإعدادية والثانوية الشرعية والرسمية في دمشق ، في معهد العلوم الشرعية / الجمعية الغراء وحصلت على شهادتي الكفاءة والثانوية العامتين ، ودخلت الجامعة ؛ كلية الآداب ـ قسم اللغة العربية ـ جامعة دمشق .

كان أساتذتي في المعهد الشرعي من خيرة علماء دمشق ، منهم : عبدالغني الدقر ، ونايف عباس ، وخالد الجباوي ، وعبدالكريم الرفاعي وعبدالوهاب الحافظ المعروف بـ (دبس وزيت) والدكتور أديب الصالح ، وكذلك كان أساتذتي في الجامعة من خيرة الأساتذة الجهابذة ، منهم : سعيد الأفغاني ، والدكتور شكري فيصل ، وعمر الحكيم .

وكان ممن أفدت منهم فوائد جليلة : د. مصطفى السباعي ، وأحمد مظهر العظمة ، وعلي الطنطاوي ، وسواهم رحمهم الله جميعاً رحمة واسعة .

خدمتُ العلم في الجيش السوري برتبة ملازم ، وكنت في حرب حزيران 1967 وشاهدت سقوط الجولان ، وهروب كبار الضباط من الجبهة ، بعد صدور بلاغ وزير الدفاع حافظ أسد بسقوط القنيطرة (مركز محافظة الجولان) قبل سقوطها بأربع وعشرين ساعة ، ودعوته العسكر إلى الانسحاب الكيفي من جبهة الجولان المنيعة .

درّست مادة اللغة العربية في ثانويات حلب ثم نقلوني ـ مع ثماني مئة مدرس ـ من وزارة التربية إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ، (لتطهير) وزارة التربية من المدرسين الرجعيين (الإخوان المسلمين) ، وأعتقلت ، وأفرجوا عني (1979 ـ 1980) ثم غادرت بلدي سورية الحبيبة ، بعد أن أخبرني ضابط كبير من أصدقائي أن أمراً باعتقالي صدر إلى الأجهزة الأمنية ، من القصر (الجمهوري) من مخابرات القصر ، ونصحني بمغادرة البلاد بسرعة ، فغادرتها في أيار 1980 وتنقلت في البلاد ، وما أزال في غربتي مع أسرتي وحفدتي وحفيداتي (وعددهم 34 حفيداً) موزعين بين الأردن ، والعراق ، والسعودية ، وألمانيا ، وكندا ، ولله الحمد .

كتبت ونشرت في الصحف السورية والعربية منذ عام 1953 وطبعت أربعة وثمانين كتاباً في الرواية ، والقصة القصيرة ، والتراجم ، والنقد ، والأدب بعامة ، ولي ثلاثة مسلسلات تلفزيونية في تسعين حلقة ، ولي عدد من المسلسلات والأحاديث الإذاعية ، وأشرفت على عدد من المسلسلات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية وأجروا معي عدداً من المقابلات التلفزيونية والإذاعية والصحفية ، ولي عدد كبير من المقالات الصحفية والأدبية والأعمال المسرحية والقصصية والنقدية التي لم تجمع في كتب ، ولي ثلاث مسرحيات كبيرة مُثلت على مسارح حلب ، وأصدرت ثلاث مجلات للأطفال .

أنشأت مع أخوين شاعرين رابطة الوعي الإسلامي عام 1955 ونحن في المرحلة الثانوية ، وكنت رئيس الجمعية العربية المتحدة للآداب والفنون في حلب ، حاضرت في العديد من البلدان ، وشاركت في العديد من المؤتمرات والمنتديات في البلاد العربية والأجنبية .

ج2 ـ في عام ألفين شكلتُ مع مجموعة من الإخوة الأدباء رابطة أدباء الشام ، وفي عام 2003 أطلقنا موقع رابطة أدباء الشام الذي احتل مكانة رفيعة بين المواقع الأدبية ، والحمد لله .

الأعضاء المؤسسون ، والأعضاء المنتسبون والفخريون حوالي ألف أديب وشاعر من الجنسين ، وكثير منهم أدباء وشعراء كبار ومبدعون ، وأساتذة جامعات كبار ، ومن عدة أقطار .. من سورية ، ومصر ، والأردن ، والسعودية ، والعراق ، وماليزيا ، واليمن ، والمغرب ، والجزائر ، وسواها من الأقطار الشقيقة .

ونشر الموقع عشرات الآلاف من القصائد ، والقصص ، والمسرحيات ، والروايات ، والمواد النقدية ، والتاريخية ، والسياسية ، والروحية ، والتراجم ، والمترجمات الأدبية والسياسية ، حتى غدا الموقع مرجعاً لكثير من طلبة الدراسات العليا في مصر والسودان واليمن والأردن ولبنان والسعودية والمغرب العربي ، وإيران ، وتركيا ، وماليزيا ، وأندونيسيا وسواها .

الظروف السياسية والمالية حالت دون تحقيق العديد من المشروعات الأدبية والفنية ، نرجو من الله الفرج .

وأحبّ أن أنوّه ، أن رابطة أدباء الشام هي الشقيقة الصغرى لرابطة الأدب الإسلامي العالمية التي أعتز بكوني أحد أعضائها .

ج3 ـ الأدب الإسلامي أدب أصيل ، عريق ، تضرب جذوره في أعماق التاريخ ، منذ البعثة النبوية الشريفة ، منذ نزول الوحي الأمين ، على الرسول العربي العظيم محمد ، صلى الله عليه وسلم ، يأمره بالقراءة (اقرأ باسم ربك الذي خلق) (الذي علّم بالقلم ، علّم الإنسان ما لم يعلم) فالأدب الإسلامي ظهر مع نزول أول آية ، وأول سورة ، وكان القرآن العظيم وسوف يبقى ذروة الأدب الإسلامي ، ومنطلقه ، ففيه القصة ، وفيه الرواية (سورة يوسف) وفيه التراجم وفيه النقد ، وكل هذا تطور مع الأيام ، وفي العصر الحديث ، برز الناقد العظيم سيد قطب ، صاحب (النقد الأدبي : أصوله ومناهجه) وأخوه الكاتب المبدع محمد قطب صاحب نظرية الفن الإسلامي ، كان يكتبان الأدب الإسلامي وينظّران له ، ويقعّدان القواعد ، ثم تلاهما الدكتور الأديب الرائع نجيب الكيلاني ، صاحب كتاب (الإسلامية في الأدب) والعديد من الروايات والقصص والأشعار الإسلامية ، ثم تلاهم من الأدباء الإسلاميين من كتب أدباً إسلامياً رائعاً في سائر الأجناس الأدبية ، مثل علي أحمد باكثير منشئ المسرح الإسلامي، والروايات الإسلامية ، وعبد الحميد السحار صاحب الروايات والقصص الإسلامية ، وعلي الطنطاوي ، والرافعي ، وعشرات الكتّاب والشعراء في الأقطار العربية والإسلامية ، ومن هؤلاء الأفذاذ الأستاذ أبو الحسن الندوي مؤسس رابطة الأدب الإسلامي العالمية ، وأول رئيس لها ..

وبهذه المناسبة ، أستطيع أن أقول : إن رابطة الوعي الإسلامي التي أنشأناها عام 1955 قد تكون أول رابطة أدبية تبنّت الأدب الإسلامي ، ودعتْ إليه .

الأدب الإسلامي مذهب متميز من المذاهب الأدبية الأخرى ، ينتمي إليه مئات الشعراء والأدباء الإسلاميين المتميزين والعالميين .

ج4 ـ النقد مذاهب كما الأدب وسائر الفنون الأخرى ، وهو يقوم على التذوق ، والثقافة المتخصصة والثقافة الموسوعية ، وقد يكون النقد قطعة أدبية بامتياز ، كما نراه عند محمود شاكر ، والمهم الإخلاص والحيدة والغوص وراء الجوهر ، وتمييزه من العرض ، والتجافي عن التشوهات ، وأكثر الذين نقرأ (نقداً) لهم ، ليس بنقد ، والذين يمارسون النقد في أيامنا على درجات ، منهم الصالحون لممارسة النقد ، وأكثرهم دون ذلك . وسيد قطب كان يفضل النقد التكاملي الشامل وأنا معه .

وأنا مارست النقد ، وما أزال ، وأولي اهتمامي الشعراء والأدباء الموهوبين الواعدين بالكثير ، أقدّم أعمالهم للناس على شكل دراسات ، وأحياناً مقدمات ، أساعدهم في عبور اللجج التي يسبحون داخلها ، وأخاف عليهم من (القناصة) المترصّدين على الشاطئ الآخر ، الذين يتصيدون الهفوات ، ليبرزوا عضلاتهم الواهنة في وجوههم .

أنا لم أتفرغ للنقد ولا لغيره ، كنت وما زلت أسعى لسدّ الثغرات في العمل الإسلامي ، في كثير من ميادينه .

ج6 ـ الرواية فن بديع ، أجد فيه نفسي ، وأحيا في الرواية ، وأذوب مع أحداثها .. عندما كتبت سلسلة (أبطال الحجارة) وهي عشر روايات للأشبال ، كنت أبكي وأنا أكتب ، وعندما كانت زوجتي تدخل عليّ وترى الدموع في عينيّ وعلى خدّيّ ، تستغرب قائلة : أنت تكتبها من خيالك ، وتبكي ؟

وكان هذا في غير هذه السلسلة أيضاً .. في رواية (عينان مطفأتان وقلب بصير) وفي (الوادي الأحمر) وسواهما .

أتحين الفرص الآن لكتابة ثلاث روايات ، الأولى عن الإمام البخاري ، والثانية : الرجل الإعصار عن أستاذي وشيخي الدكتور مصطفى السباعي ، والثالثة عن معلمي وصديقي اللواء الركن المجاهد المؤرخ العسكري العظيم : محمود شيت خطاب ، لأنهم يحيون في قلبي وعقلي ، وأحياهم ، رضي الله عنهم جميعاً .

من خلال الرواية تستطيع أن تبثّ أفكارك ورؤاك التي تؤمن بها وتتبناها وتدعو الناس إلى تبنّيها ، دون أن يحسّ قارئك ... إنها تتغلغل في النفس الإنسانية دون ضجيج ، ولهذا ترى المذاهب الفكرية والسياسية تعكف عليها ، كالماركسية ، والشيوعية ، والوجودية ، والإسلامية وسواها .

ج7 ـ كما ذكرت قبل قليل ، كل مذهب يسعى إلى ترسيخ مبادئه ، من خلال الالتزام بها في أدبه وسبل عيشه ، ولهذا ، عندما نقول : هذا أدب ملتزم ، وذاك أديب ملتزم ، للإسلامي ، والماركسي ، والوجودي ، فنحن نعطي التزام كلِّ بما يدعو إليه ، فأنا ملتزم بما يدعوني إليه ديني من مبادئ وأهداف خلقية ، وروحية ، وسلوك إنساني إسلامي ، وغيري يلتزم بما يؤمن به . وهذا مغاير لدعاة الفن للفن .

فأولئك ملتزمون بالمبادئ الفنية ، بالجمال الفني ، والأولون تهمهم الفكرة والمبدأ ، وإن اضطرهم هذا إلى الخروج ـ قليلاً ـ عن متطلبات الفن ، وقيمه .

ج8 ـ أنصح أدباءنا الشباب بالاجتهاد في هذا الميدان الدعوي الإنساني ، بالتمكن من القيم الفنية المتلازمة مع القيم الخلقية والشعورية السليمة ، ليكون أدبهم أصيلاً ، يعبّرون عن ذواتهم ، وعن دعوتهم ، وأخلاق دينهم العظيم ، أن يرهقوا أنفسهم في دراسة القيم الفنية ، ليصبّوا أفكارهم من خلالها دون فجاجة ومباشرة منفرة .

أنصحهم بالتخصص ، والتمكن من مقومات كل جنس من الأجناس الأدبية والفنية ، وأن يقرؤوا لعمالقة كل فن .. فالناقد والمفكر يقرأ للعملاقين : سيد قطب ومحمد قطب وسواهما من النقاد الإسلاميين ، وكاتب القصة والرواية ، يقرأ للسحار ، ونجيب الكيلاني ، وباكثير ، وكاتب المسرحية يقرأ لعبقري المسرحية العربية علي أحمد باكثير ، وشداة الشعر يقرؤون لشعرائنا الأفذاذ : الأميري ، ومحمود حسن إسماعيل ، وعبدالله عيسى السلامة ، ومحمد نجيب مراد ، ومصطفى عكرمة ، وحيدر الغدير ويوسف العظم والحسناوي ويحيى حاج يحيى وسواهم من شعراء الإسلامية ، فإذا تمكنوا من الأجناس الأدبية والفنية الإسلامية ، قرؤوا لأصحاب المذاهب الأخرى .. أقول لهم : اجتهدوا يا شباب ، لتكونوا المبرزين ، كل في مجاله ، في ميدانه ، على ألا تغفلوا عن الميادين الأخرى ، وعن الأدباء ، والشعراء الآخرين ، كبدوي الجبل ، وعمر أبي ريشة ، وأحمد مطر وسواهم ، فهؤلاء عباقرة ..

وأدعوهم إلى التمكن من اللغة العربية ، نحواً وصرفاً وأسلوباً ، فالأخطاء فيها خطيئات .

ج9 ـ الناقد مثقف مبدع موهوب ، ذو ثقافة شاملة ، وخاصة في المجال الأدبي أو الفني الذي يمارسه ناقداً للشعر أو للقصة ، أو المسرحية ، أو سواها ، وأزيد :

أن يكون ذا ثقافة موسوعية في سائر شؤون الحياة ، في النبات ، والحيوان ، والفلك والأنواء ، وسواها ، فهذه روافد تزيده تعمقاً في دراسة النص .

وأزعم أن الأستاذ الهائل سيد قطب ما قدّم كتابه الرائع النقد الأدبي أصوله ومناهجه ، إلا لأنه كان ذلك المثقف الذي وصفت ، وما جاء بكتابه الهائل الظلال ، إلا لأنه كان ذلك الناقد المثقف اللقف الذي أوتي من الموهبة والعلم والإيمان ، ما فتح الله له هذا الفتح المبين في ظلاله الوارفة .

ج10 ـ هذا واجب ، ورابطة الأدب الإسلامي العالمية سعت وتسعى ، ولكنها تفتقر إلى الموجّه أو الموجهين الذين يتجردون من اهتماماتهم الصغيرة .. الشخصية .. ليكونوا من ذوي الآفاق والرؤى المديدة ، الواسعة ، متعاونين غير متنابزين ولا متنافسين فيما يضر ولا ينفع .. كنت وما زلت أؤمل منها الكثير لولا القصور والتقصير .

ورابطة أدباء الشام تقف دون تحقيق أهدافها عوائق مادية ، وسياسية ، فنحن أو كثير منا مطاردون مشردون في البلاد ، ولا نملك من المال ما يمكننا من الدعوة إلى مؤتمر ، ولا من العلاقات السياسية ، ما يمكننا من فتح مقر أو مقار لها نجتمع فيه ،لتدارس خطة أو خطط ، للنهوض برسالتنا الأدبية الغنية .

نحن متفائلون بمستقبل مشرق ، يكون التمكين فيه لأدبنا الملتزم بقيم الحرية والعدالة وقضايا الإنسان ، وعلى أرضنا .. نعمل وندأب ونبني ، وندعو الله العظيم أن يعيننا على ذلك ، ندعوه دعوة المضطر ، ونثق برحمته ، ونتطلع إلى استجابة سريعة منه سبحانه ، والحمد لله رب العالمين ..