إني آنستُ فرجًـا...

‏عَظُم البلاء ، واشتدت اللأواء ، وطغت الأحزان ، وهاجت الفواجع ، وماجت الرزايا ... على الأمة في أقطارها ، وعلى أبنائها ، ومنادي اليأس من جند إبليس يرفع صوته : أن استسلموا ، أن اركنوا ، فيستجيب له المرجفون والأفاكون ، ويذعن لِمـا يريدُ أهلُ الأهواء  أعداء الفطرة أعداء الإسلام . ولكنَّ صوتا من ظلمات  النوائب يقول : ( كلا  إن الله معنا ) ، كلا إن الله سيأتي بالفرج مهما اشتد العسرُ واستفحلت الآلام والأوجاع ، ( كلا إن معي ربي سيهدين ) ... إنه اليقين المطلق بمعية الله ، والاستبشار بقدوم نصره ، وتَبَلُّج فتحِه من قلب الدياجي ، إنها سنن الله في هذا الكون ، وإنها لأنوار النبوة التي لن تُبقيَ كدرا ولا شجنا . فإنَّ هذا العدوان المحدق بالأمة وبوجودها ومستقبلها سيزول ، أقسم بالله سيزول ، ذاك وعد الله ، فلتأخذ الأمة بالصبر والثبات وبالأسباب التي تنضوي تحت أفياء الصبر الجميل ، والثبات الذي لاتزلزله الأعاصير ، وعندئذ ستشفي غليلها ، ويتجلى كالنهار المشرق ليلُها البهيم  ، فلا خوف من أي قوة طاغية باغية ، ولن يخذل الله جنودَه ، ولن يسلمهم لعدوهم الغاشم الزنيم الأثيم . فالقوي النصير هو الله ، فآمِنْ بيقين أن الله لن يخذلك إذا لجأتَ إليه في ساعة العسرةِ ، أو عند فورةِ الكرب ، أو عند نزول المصيبة ، وعلق قلبك بالله. وأَخرجْ منه غير الله في ساعة العسرة ، وَأَرِحْهُ من كل هم وحزن وشدة ، عِشْ واثقًا بالله متيقنًا أنه لن يخلصك إلّا هو سبحانه وتعالى . وثق بالله ، وعند مجيء الفتنة تذكر قول موسى عليه السلام: (كلا إن معي ربي سيهدين) . إن الله هو مَن يهب القوة ، فبورك لمَن جعلها فيما يحب الله ويرضى : ( اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ ، اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ ) رواه الترمذي . فعدو الإسلام مخذول مهما بدا قويا ، وأمره إلى تباب وإلى سوء وزوال ، وأما جند الإسلام المؤمنون فإنهم على خير مهما ادلهمت الأيام بالبأساء واللأواء والضَّرَّاء : (  عَجَبا لأمر المؤمن! إنَّ أمْرَه كُلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابتْهُ سَرَّاءُ شكر، فكان خيراً له، وإن أصابتْهُ ضرَّاءُ صَبَر، فكان خيراً له  ) رواه مسلم .

الأمة اليوم في حال اختبار وتمحيص وابتلاء ،  ليميز الله الخبيث من الطيب ، وليتخذ من هذه الأمة شهداء ... شهداء في عصر المحنة الكبرى التي أذهبت الأموال والثمرات إلى جانب أخذ الشهداء : ( ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ*أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ 155/157 البقرة .   أجل إنه ابتلاء ثقيل ، ثقيلٌ على بعض الأنفس ، ولكنه ابتلاء محمول على رحمة الله ورضوانه وصادق وعدِه . فإن الله سبحانه وعد الأمة المحمدية ببشارة ... بشارة تتراءى لها وهي في دياجير الأحداث التي تتلاطم فيها أمواج الحصار والجوع والخوف والأذى ونقص الأنقُس والأموال والثمرات   : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِين ) ، فالصبر هو حبل الله أيام الشدائد والمكائد والمؤامرات ، وهو الركن الذي يحمي الأمة ويحرس أبناءَها من التقهقر والخذلان : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ ﴾153/ البقرة . فللصبر منزلة عالية عند الله ، وعاقبة الصبر في الدنيا هي الفرج الذي لايُبقي همًّـا ولا كربا ولا أذيَّات ، وأما في الآخرة فروح وريحان وجنة نعيم ، وما أدراك ماجنة نعيم : ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ 10/ الزمر . لقد صبر الرُّسُلُ والأنبياء ، وصبر الصَّالحون  ، فكانت العاقبة فيَّاضة بالرضوان الإلهي ، وبالفرج الوضيء بالحبور  ، وبالنصر المؤزر على كل قوى الطغيان ، ألم يهلك الله النمرود وفرعون وهامان في قديم الأزمان ؟! أما زالت دولتا الفرس والرومان وهما من أعظم دول العالم الغابر ؟! ألم نَرَ اليوم بأُمِّ أعيننا زوال الطغاة والظالمين ؟! وهذا ناموس الله في خلقه ، ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ 49/هود .

أجل ... الصَّبر مفتاح العاقبة الآمنة الجميلة ، ما أجمل أن يراك الله صابرا إذا نزلت بك كارثة أو حلَّت بك مصيبة : ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ﴾ . كم عربدت قريش ، وكم تطاول مشركوها وعُتاتُها على النُّبُوَّة ، فصبر نبيُّنا صلى الله عليه وسلم ، كما أمره الله ، وكما وعده مولاه : ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ 49/ هود . لايخذل الله مَن آمن به وجاهد في سبيله ، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ،  إنَّ مَن يستقرئ التاريخ ، ويسأل الأيام لايجد إلا حكم الله العدل ، ففرق بعيد بين المؤمنين بالله عزَّ وجلَّ وبين شرائح الكافرين لعنهم الله ،  وكذلك الفرق بين المؤمنين بالله ورسوله ودينه ، وبين المنافقين والمرجفين ، وهل يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ، لن يكون الجواب إلا : ( لايَسْتَوُون ) ، يقول الله تبارك وتعالى : ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ 21/ الجاثية . فالمؤمنون  بالله غير الكافرين به ، والصَّابرون غير الذين خذلتهم الدنيا بأهوائها ، لأن الصَّابرين نالوا شهادة الإحسان ووسام الظفر بفضل من الله : ﴿ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ 115/هود . والفرحة الكبرى يوم الحشر ، يوم لاينفع مال ولا بنون ، فلأهل الإيمان والصَّبر ما لا عين رأت ولا أُّذن سمعت ولا خطر على قلب بشر : ﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ ﴾ 11/المؤمنون  ، عاش المسلمون الشدائد ، ويعيشونها اليوم مريرة قاسية مؤلمة ، ويستغل المنافقون والأفاكون وقعَ هذه المصائب على المسلمين وعنفوانها ليثبطوا الهمم ويقتلوا روح الجهاد التي تحيي الأمة بعد ذاك السبات العقيم ، ويستخفوا بقدرات أبناء الأمة الجبارة ،  ولكن خاب فألهم ، واضمحل تآمرهم ، فالعسر مهما استفحل أيضا لن يغلب يسرا قدَّره الله لهذه الأمة ، لأبنائها الأبرار الأخيار  ‘ فالعبارة الهادية باقية تجلجل في صدور المسلمين : ﴿ فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ الَّلهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَنَّكَ الذِين لايُوقِنُون  ﴾ ، إنه كلامُ الله الذي لايأتيه الباطل ، ولا تمحوه النوازل ، إنَّه وعْدُ الله ولا يخلفُ الله الميعاد : ﴿ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الميْعَاد﴾ .

الأمة ليست بقطعان همل لاقيمة لهم في الحياة ، مازال فيها قرآنها وسُنَّة نبيِّها صلى الله عليه وسلم ، وهي لن تنسى ماكلفها الله به في هذه الحياة ، وهي تعلم مكانتها عند ربها ، ومعنى مجاورة ربِّها في جنات الخلود ، وما هذه الدنيا إلا زاد قليل للوصول إلى مدارج الخلود الأبدي ، ليس الصبر فيها على شقاء لأنها لاتستحق أن يشقى فيها مَن شهد بالوحدانية لله تبارك وتعالى ، وإنما الصبر فيها على ساعات الابتلاء ، فالصابر يحتاج إلى جميل الاطلاع على ثمراته اليانعات ، وليس إلى خضوعه  إلى قبائح أهل الأهواء أعوان إبليس . إن الإقبال على الله يطهر القلب من كل الشواغل المقيتة ، ولا يخذل الله عزَّ وجلَّ عبدا أوى إليه مستغيثا برحمته ، وإنما سيسقيه من مُزن رضوانه وقبوله فيحيا ذلك العبد وفي جنبيه حيويَّةٌ مقدسة تعينه للوصول إلى أبواب الرضوان . فلا يعتريه ريبٌ ، ولا يقعده نصبٌ ، لأن الغاية نفيسة ، والجائزة غالية غالية غالية ، أليست هي من عند الله ! أليست نهاية الرحلة في جنَّة مارأتها عين بشر ، فهي لأهل البصائر الذين يرون ما لا يراه أبناء الملذات والأهواء الدنيوية . وهي من ثمرات الصبر الجميل لأهل الصبر الجميل ، الذين لا تجافيهم السكينة ، ولا تنأى عنهم الرحمات . إنهم استيقظوا من غفلة ،  فكانت انتباهتهم  نورا أضاء وحشة أفئدتهم ، فأسلموا أمرهم لله ، وشمَّروا عن ساعد المجاهدة للنفس  ، فهبت عليهم نسائم القبول فكادوا يطيرون إلى منازل حلاوة المعرفة التي لم يألفْها إلا القليل من أقرانهم الذين دانت لهم أنفسُهم ، وكانوا من النَّاجين . الذين آنسوا جذوة الفرج التي تتثنَّى في ظلمات الزمان . هيهات ... هيهات على مَن فاتته أنوار البصيرة ، فهو ينفر من الخير النضيد ،  فعاش والله أدنى من البهائم فيما هداها الله إليه ، ألم تروا أن البهيمة إذا دخلت المرعى فإنها تميز بين الطيب فتأتي إليه ، وتعرف الخبيث فتنفر عنه . فلا فائدة من عقل عطَّله الإنسان فَضَلَّ وأضلَّ ولم يدخل ميدان عمارة الأرض بما أوحى الله ، فأعمى قلبَه بيديه ، ونأى عن محراب الهداية ، وغابت عنه قدسية : ( كتبَ ربُّكم على نفسِه الرحمة ) . ودخول الإنسان إلى الدنيا على بصيرة  ينجيه من الوقوع في خطيئة العمر  ، والدنيا دار تكليف وابتلاء ، فقد يلاقي المسلم الأذى من عدو ماكر حاقد ، وقد تنزل به جائحة ، وعليه في كل الأحوال أن يصبر لأن الدنيا ليست المقر ولا هي دار خلد ، وإنما هي فصل ينجح فيه المجدون بالتقوى وبالأعمال الصالحات الباقيات ، ولا يأسف المسلم على مايرى من متاع وزينة بيد الأعداء ، وَلْيَقْرَأْ قول الله تبارك وتعالى : ( وَلَوْلاَ أَنْ يَكونَ الناسُ أمة واحدة لجَعْلنا لمنْ يكفُرُ بالرَّحمن لبُيوتهم سقفاً مِنْ فِضَّةٍ ‏) ، إنه استدراج لأولئك الكافرين ، وأما الابتلاء فهو مركب المسلمين إلى جنات الخلود : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا ... ) .

إنها الأيام ستمضي ، وإن قوافل الصابرين ماضية إلى حيث وعدها الله ، ألم يُقتل أنبياء الله ، ألم يصبْهم الأذى ؟ ألم تصب الصالحين المراراتُ والأكدار ؟ فيا أهل الفرائض والنوافل والطاعات شدوا الهمم ، وشمروا عن سواعد الصبر ، فإن الله لن يضيِّعكم ، فأوصدوا أبواب إيمانكم في وجه إبليس اللعين ، وتوكلوا على الله حق التوكل ، وأبشروا بفتح من الله ونصر مبين ، وليس ذلك على الله ببعيد .  فلقد آنست الأمة الفرج القريب .

وسوم: العدد 764