(ربيعُ الحرية) يكشف (فكرَ الخريف)!

مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

▪من يتأمّل ما حدث منذ انطلاق شرارة الربيع العربي من تونس في ديسمبر 2010 حتى الآن، يرى كم تهفو أمتنا للحرية، وكم هي مستعدة للتضحية بكل غال ونفيس في سبيل ما تعتقد أنه حق وخير، وكم تمتلك من نجائب الرجال الذين يعشقون الكرامة ويسابقون الرياح في هبوبها وسرعتها، وينافسون الشمس في علوها وإشراقها، حيث تُذكي أشواقُ الحرية وأشجانُ القوة تحركاتهم البانية وأنشطتهم النافعة!

▪وفي المقابل فقد شهدت سبعُ سنوات عجاف الكثيرَ من الحوادث والأحداث التي سالت في مجاري الشعوب العربية في سوريا واليمن والعراق وليبيا وتونس ومصر، كالاختلاف بين فصائل الثوار والذي وصل في بعض الأحيان إلى حد سفك الدماء، ومن ثورات مضادة التهمت الأخضر واليابس من مقدرات الشعوب المغلوبة على أمرها، ومن حنين واضح من قبل مجاميع عريضة من الشعوب للماضي البغيض حتى أن بعضهم أصبح يُسميه بالزمن الجميل، ناسين أنهم كانوا يتعرضون لانتهاك الكرامات واستلاب الحريات واغتصاب الحقوق، حيث لم يعد هؤلاء يتذكرون العصا التي كانت تهوي على رؤوسهم وإنما يتذكرون الجَزَرة التي تمتد إلى أفواههم!

▪إن ما يحدث من انكسارات وتراجعات في كثير من الأصعدة، ومن حروب أهلية ذات نكهات طائفي أو عرقية أو مناطقية أو حزبية أو قبلية، وما يتتابع من انشقاقات جهوية وعصبيات سلالية، ومن تقاذف للتهم وتفانٍ في التدمير وتسابق على إرضاء الآخر الذي يقف من خلف الحدود يتربص بالجميع الدوائر، كل ذلك وغيره إنما هو أعراض لآفة التخلف الفكري، حيث تعاني مجاميع عريضة من المسلمين من أزمة فكرية حادة تحدّث عنها كبار المفكرين منذ عقود عديدة، وحذّروا من آثارها المُدمِّرة، ولكن دون جدوى كأنهم كانوا يصيحون في واد أو يَنفُخون في رماد!

▪وبعد ما حدث خلال السنوات الماضية اكتشف كثير من الطيبين الذين تَغْلِب عليهم العواطف ويتأثرون بالمظاهر ويتوقفون عند الأعراض، أن النصر الكبير الذي تهفو له الأمة ما يزال دونه خرط القتاد، وتقف دونه مفاوز من الجهل المُركَّب ومستنقعات من الأمية الفكرية، وتَبيّن لهم أننا بحاجة إلى ثورة ضخمة في الفكر، تقوم بتفتيح مدارك العقول وتوسيع آماد الرؤية، وتتولّى تمديد قواعد الوعي، وبناء جسور التلاقي على المشتركات، وبدون ذلك ستستمر جهود وطاقات الأمة في التكسُّر على صَخَرات الأمِّية الفكرية وستتسرّب طاقاتها من ثقوب الجهل الأسود!

▪لقد أدّت رياحُ الحرية التي هبَّت مع الربيع العربي إلى انكشاف الكثير من التيارات في الساحة العربية، فإذا هي بلا لباسٍ من فكر عميق ولا غطاء من رؤى ثاقبة، حيث تفتقد الفكر الذي يمنح أصحابه بصائر الطريق وبوصلة السير، وتفتقر للرؤى التي تساعدهم على استبانة سبيل المجرمين ومعرفة طبائع الطغاة واكتشاف ألاعيب المرجفين، لقد كشف الربيع العربي أن أعدادا مقدرة ممن انحازوا له انحازوا له بعاطفية صرفة، فقد كانوا يعرفون ما لا يريدون لكنهم يجهلون ما يريدون، وعندما سقط الصنم الذي اتفقوا على محاربته اختلفوا على الأمور التي يجب عملها، وتَفرّقت بهم السُّبُل إلى حَد أن بعضهم نَصَّب له صنماً آخر أو عاد وتحالف مع كهنة الأصنام السابقة نكايةً ببعض شركائه في النضال!

▪لقد كشف الربيع العربي أن قطاعات من فتية الأمة الأقوياء موسوعيون في ثقافة الموت، حيث امتلكوا من البسالة والشجاعة وقدّموا من التضحيات، وامتلكوا من فنون المواجهة ما سارت به الركبان وصار حديث الناس، لكن أكثر هؤلاء عندما اخْتُبروا في مواقع البناء واعتلوا مقامات الحياة أثبتوا فشلاً ذريعاً، ولم يكتفوا بذلك بل تَذرّعوا بكل شيئ لتبرير فشلهم غير ملتفتين إلى قصورهم وتقصيرهم، وأثبتوا بذلك أنهم بحاجة إلى بناء فكري جديد، وأكدوا أن امتحان الحياة في سبيل الله أصعب من الموت في سبيله!

▪لقد كشف الربيع العربي مدى خلط كثير من الثوار بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، حيث تجاوزت الاختلافات أحياناً المسائل المتغيرة إلى ثوابت دينية ووطنية، وسمح آخرون للخلاف أن ينتقل من العقول إلى القلوب، فاضْطَغنت القلوب وامتلأت بالكراهية لبعضها على أمور صغيرة وتافهة، وبرزت بذلك ثقوبٌ وثغراتٌ كثيرة لتسلل منها رياح الفتن وأعاصير الكيد التي تبدو كأنها نسائم عليلة، وعندما نجحت في التسلل إلى الداخل تَحوَّلت إلى ريح صَرْصر وعواصف عمياء، وهاهي أمطار الفتن تزيد طينة الأمة بِلّةً وتزيدها رياح التقسيم غثائيةً!

▪وبسبب هذه الأمية الفكرية تركت مجاميع من الثوار توظيف السُّنن الجارية لصالح نصرة ثوراتهم، ظانّين أن السُّنن الخارقة ستتدخَّل لنصرتهم حتماً ما داموا على الحق، وبدلاً من أن يبحثوا عن العِصِيّ التي يدفعون بها العصابات التي تستهدفهم، انتظروا أن تأتيهم عصا كعصا موسى التي تلقف ما يأفك الأفاكون، بل إن نفَراً من الآملين بدون عقل تركوا صناعة القادة الذين تحتاجهم معتركات البناء داعين الله أن يبعث لهم المهدي المنتظر!

▪لقد أثبت الربيع العربي أن العقول عندما تضيق فإنها تتولّى تضييق كثير من الدوائر الواسعة، ويصير أصحاب هذه العقول كأنهم يسيرون في طريق إجبارية، بسبب محدودية الخيارات التي تُنتجها مداركهم العقلية المتواضعة، ولا يزالون يمثلون ردود أفعال منقوصة لأفعال غيرهم الكاملة، وربما صنع غيرهم أقدار بلدانهم كيفما يريدون واكتفى هؤلاء برفع الرايات البيضاء، ظانين أنهم بذلك إنما يَلِجون إلى الإيمان من باب رُكنه السادس!

▪إن الربيع العربي بحاجة إلى مراجعات عميقة لا تراجعات عقيمة، بحيث يتم التركيز على دراسة جذور هذه الإشكالات والآفات التي تتكرر في سوريا واليمن وليبيا والعراق ومصر وتونس، مع اختلاف في العناوين والأشكال وفي المقادير والنِّسَب؛ حتى يتم استئصال شأفتها وتجفيف منابعها، وبذلك فقط يمكن أن يتم تطوير الانفعالات إلى فاعليات وتحويل الانكسارات إلى انتصارات، ويمكن أن تستحيل التحديات العريضة إلى فُرص كبيرة، بحيث يتم الاستفادة من أحجار العثرة الضخمة في تأسيس مباني النهوض الحضاري المنشود.

_____________

أ.د. فؤاد البنّا،رئيس منتدى الفكر الإسلامي،أستاذ العلوم السياسية جامعة تعز.

وسوم: العدد 770