إلى الخنساء الفلسطينية في مسيرة العودة

في ليلة القادسية لم تكن ثَمّة دموع تسيل من مُقلَتي الخنساء تليق بوداع فلذات الأكباد، بل كانت وصايا حازمة تُعلي مصلحة الإسلام على عاطفة الأمومة، فها هي تقول لأبنائها الأربعة: "يا بني، إنكم أسلمتم وهاجرتم مختارين والله الذي لا إله غيره إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خُنْتُ أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجّنت حسبكم، ولا غيّرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين".

فلما دفعتهم إلى ساحة النزال قاتلوا كالأسود حتى لقوا ربهم، فلما بلغها الخبر قالت: "الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته".

كأن هذه الأمة تقدم لنا في كل عصر خنساء، تحمل هذا الاسم ووصف حاملته، وعندما نُقلِّب الأبصار بحثا عنها، تقع لا محالة على المرأة الفلسطينية، وعلى وجه التحديد في غزة الأبية، تلك المرأة التي تُسْرِج خيْل المنايا بحثًا عن حياة الكرامة والحرية والعزة.

إنها امرأة مختلفة، امرأة بألف رجل يحمل معاني الرجولة لا الذكورة، لئن كانت أرحام النساء تدفع الأجِنَّة للحياة إرضاءً للفطرة والتماسًا لتذوق طعم الأمومة، فالخنساء الفلسطينية تُرهق رحمها بالولادات المتتابعة، لكي تقدم لأمتها شهيدًا تلو الشهيد، ترجو أن تُوهب بموتهم الحياةُ للأوطان.

الخنساء الفلسطينية في غزة لا تنشغل بمتابعة مجلات الأزياء وأحدث صيحات الموضة وعبقريات خبراء التجميل، فقد انهمكت في حِياكة الأكفان، ولا تعرف من ألوان الطيف سوى الأحمر، فإما دماء شهيد تُسنده إلى صدرها فيُعطِّر جِيدَهَا بشذاه، ويصبغ خمارها بلون الورود، وإما جراح مناضل تُضمِّدها فيترك في كفيها الأثر كما الحِنَّاء.

عفوًا، 

خنساء فلسطين ليست مثل النساء تَحَارُ في انتقاء العطور، فأنفها الشامخ لا يعرف سوى رائحة القنابل والبارود.

يومًا ما، قال نابليون بونابرت: "المرأة التي تهز المهد بيمينها، تهز العالم بشمالها"، ربما لو كان حيًا وأنصف، لقال: المرأة الفلسطينية تهز المهد بيمينها، وتهز العالم بشمالها"، نعم، فخنساء غزة التي تُربي صغارها على النضال والكفاح، يختلط حليبها بكل معاني الأنفة والعزة، قد أذهلت العالم بصمودها وثباتها وجرأتها.

فإذا رأيتَ ثَمّ، رأيتَ حُرَّةً تجوع ولا تأكل بثدييها، تُواجه الغلاء بالاستغناء، وتجابه الحصار بآمال الانتصار، في كفيها آثار العجين والطحين في البكور، وفي حر الظهيرة تحمل الحجارة وتسير كسفينة صحراوية إلى حيث الأبطال على الحدود.

تلك الخنساء هي وقود الانتفاضة، تؤز الأشاوس أزًا، وتصرخ بواإسلاماه، فتهتز لها قلوب الرجال، هي الخنساء القابعة على أبواب الأقصى، تقيم الصلاة، وتتلو القرآن فتغيظ أعداء الله، وتُكبر في وجه الصهيوني فتبث الرعب في أوصاله.

لجنة المرأة في الهيئة الوطنية لمسيرة العودة وكسر الحصار، تُطلق دعوتها لكل قطاعات المرأة والمنظمات النسوية للمشاركة في الحشد النسوي الضخم الذي تنظمه اللجنة في مخيم العودة بملكة شرقي غزة الثلاثاء في الساعة الخامسة مساءً تحت شعار "فلسطينيات نحو العودة وكسر الحصار"، تؤكد من خلالها استمرار مسيرات العودة، وإصرار المرأة الفلسطينية على مواجهة مشاريع تصفية القضية الفلسطينية.

فيا خنساء غزة يا أم الشهيد، يا زوجة الأسير، يا ابنة الجريح، مسيرة العودة تناديك "أن حي على الجهاد"، حطمي القيود، افتحي الحدود، ألهبي أديم الأرض، تزيني بكفنك الأبيض كما العروس، كبِّري، هلِّلي، حوْقلي، سبِّحي، وعلى الله توكلي.

لن تكوني وحدك، فكل خنساء في العالم ستكون معك، ستلتقي القلوب، ستحلق الأرواح، ستعلو الصيحات، ويشق التكبير سكون الكون، ودونك قول عنترة:

لا تسقني ماءَ الحياة بذلةٍ ....... بل فاسقني بالعزَّ كاس الحنظلِ

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 779