أستاذية العالَم

المحاور:

- لا يزال موقع أستاذية العالَم شاغراً منذ تخلى المسلمون عن هذا التشريف المضمخ بعرق ودماء التكليف الذي استشعره سلفنا العظيم.

- ‏نال بنو إسرائيل شيئاً من هذا الموقع حين قال الله تعالى لهم: (وأني فضلتكم على العالمين)، ولكن هذا الموقع كان مربوطاً ومشروطاً بأداء أدوار وواجبات كبرى، لكنهم تخلفوا عنها وتراخت أيديهم عن حمل رايتها، فنزع الله تعالى منهم الموقع وطردهم من رحمته؛ (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة: 79). 

- ‏ استمر اليهود في تقمصهم شخصية شعب الله المختار فكذبوا على الله تعالى وعلى أنفسهم وعلى الناس. 

- ‏انتهز اليهود غيبة المسلمين عن موقع السيادة والريادة، فأخذوا بحبال من رضي التعامل معهم من المنافقين من أصحاب الملل المختلفة، مقابل ثمن بخس؛ حتى أوصلوهم اليوم إلى ما وصلوا إليه من إفساد وعلو (سياسي واقتصادي واجتماعي ..)، وصدق الله: (لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا) .. ولكن شتان بين استاذية ذات مسؤولية، وإفساد متحلل من كل شيء. 

- ‏نالت أمة الإسلام رتبة أستاذية العالم حين كانت تحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحقق مقتضيات الإيمان بالله وتوحيده، قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: ١١٠).

- ‏أستاذية العالَم رتبة سامية رفيعة ظفرت بها أمة الإسلام لما اكتمل الدين في حياتها على مستوى الحاكم والمحكوم وعلى مستوى الفرد والجماعة، وحين نقص الدين في حياتها تعطلت عجلات أستاذيتها حتى تأخرت وسبقها غيرها ممن لا يستحقون نيل درجة تلميذ في مدرستها.

- ‏أستاذية العالَم اليوم مخطوفة، وهي رهينة لدى عصابة مجرمة استباحت كل محرم واشترت ذمم زعامات سهلوا مهمتها في اغتصاب أديان وأرواح وعقول وأموال وأعراض البشر .. ولا يمكن للص أن يصبح أستاذاً وإن لبس عمامة الأستاذ و تحدث بلغة المعلم.

- ‏مثلما تتطلب رتبة الأستاذية في الجامعات بحثاً متواصلاً وإبداعاً متجدداً؛ كذلك استاذية العالَم تتطلب وجود نفر من المجددين ينهمكون في البحث عن مخارج وإبداع آفاق لبلوغ تلك الغاية النبيلة. 

- ‏لابد أن تتعلم الأمة فقه وآداب أستاذية العالَم كي تتمكن من المحافظة عليها أطول فترة ممكنة .. وإلا فما أسوأ حال أمة ضعفت من بعد قوة وتراجعت من بعد تقدم وهبطت من بعد صعود، قال تعالى محذراً: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) (محمد: 22). 

- ‏لن تستشعر البشرية قيمة عودة الإسلام أستاذاً عليها إلا إذا أدركت جمال ما كانت عليه أحوالها عندما كان الإسلام أستاذها .. وعندما تذوق مرارات غياب الإسلام واستيلاء أصحاب الأهواء على ذلك المكان الرفيع. 

- ‏حتى تستعيد أمة الإسلام مكانها الطليعي ومكانتها الشريفة بين الأمم؛ فإنها لابد أن تحقق ما يأتي من معالم وقواعد وشروط:

١. تمكين بعض القيم العليا، ومنها: تعظيم الله والشعور بالمسؤولية والفهم والإخلاص والطاعة والثبات والتجرد والأخوة والعمل والجهاد والتضحية والثقة.

٢. تثبيت الثوابت بعد التوافق عليها وتغيير المتغيرات عند الحاجة لتغييرها، في مشهد من الثبات على الأصول والمرونة في الفروع.

٣. التعامل المناسب مع التحديات والتربص الذكي للفرص.

٤. تفعيل دور الأفراد بتحميلهم المسؤولية كأفراد، وتمكين دور المجموعات ذات الغاية نفسها (غاية استعادة الأستاذية للأمة الإسلامية) وفتح آفاق التنسيق بينها.

٥. اعتماد السيرة النبوية كنموذج معياري لقياس حراكنا الجاد نحو تلك الغاية النبيلة.

٦. استلهام ضوابط ومعالم هذا الحراك الشريف من وحي كتاب الله تعالى، لاسيما ما ورد فيه من قصص الأنبياء والأمم.

٧. حصر نقاط القوة وتعظيمها، والكشف عن نقاط الضعف وترميمها.

٨. ضبط سلم الأولويات على ضوء الاحتياجات القائمة والقادمة.

٩. التركيز على الإصلاح أو التغيير السياسي فهو على الرغم من شدته وقسوته إلا أنه أساس لما بعده من إصلاح وتغيير (فقد يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) ولن يتم ذلك إلا بمتابعة صور الإصلاح والتغيير الأخرى (الإيماني والاجتماعي والاقتصادي والتربوي والفكري ..).

١٠. الخروج عن النمطية والتقليد، والاتيان بما هو متجدد وجديد .. وذلك لتوفير عنصر المفاجأة وحرق المراحل في خطة المسير.

١١. توقع الأزمات والمنعطفات والانقلابات وتوفير خطط بديلة ومخارج طوارئ لتحويل التحدي إلى فرصة.

١٢. حصر واستثمار الأسباب الموجودة، والإلحاح على الله تعالى أن يمنحنا الأسباب المفقودة.

١٣. تفعيل مفهوم وقيمة الخلافة الراشدة باعتبارها مقصد من مقاصد خلق آدم وإنزاله للأرض، قال تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) .. مع التأكيد على أن إعمار الأرض عبادة، وتركها للمخربين من المفسدين والمجرمين إثم ومعصية وكبيرة.

١٤. إحسان تبادل وتوزيع الأدوار بين النخب الفكرية والمجتمعية، ليؤدي كلٌّ دوراً وواجباً، ولا يؤتين من قِبله.

١٥. الحذر من الخصوم والانتباه في الوقت ذاته إلى نقاط ضعفهم؛ فهم على الرغم من قوتهم وشدة مكرهم، إلا أنهم ضعاف أمام قدرة القدير، ولعل من نقاط ضعفهم؛ غرورهم، وشدة بأسهم على بعضهم عند تعارض مصالحهم؛ (ومكر أولئك هو يبور)، (وقلوبهم شتى).

١٦. الثقة بوعد الله تعالى والتفاؤل وعدم اليأس، واليقين التام على قدرة الله تعالى وحكمته، قال تعالى: (.. وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق: 3).

١٧. عدم الاغترار بأي نظام أو بناء قام على الظلم والقهر والاستبداد، واليقين التام بأنه يحمل أسباب زواله، قال تعالى: (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ) (الحج: 45).

١٨. تجاوز التباينات الفكرية، والبحث عن الجوامع وترك التنازع أثناء المسير فهو عنوان الفشل الخطير.

١٩. الصبر والمصابرة وعدم استعجال الثمرة لأن الأستاذية رتبة تحتاج إلى صبر في طلبها، وصبر عند ممارستها، لما قد يتعرض له الأستاذ من جهل الجاهلين وحسد الحاسدين لاسيما في زمان لا احترام فيه للعلم والمعلم.

٢٠. إنما يكتمل نصاب السعي لبلوغ استاذية العالم عند توفر ركن الإدارة والإرادة .. فالإدارة تكتيك ورؤى وتخطيط ومتابعة وتقويم، والإرادة همّ وإخلاص وعزيمة وصدق .. ما خاب ذو أمل سعى  ** يوماً ومقصده نبيل.

 وختاماً:

ليكن همنا فيما بقي من أعمار، تكريس جهودنا لخدمة هذه الغاية الشريفة .. ويا لسعادة من ظفر بمقعد في ركب المجددين .. السالكين سبل الإصلاح .. الطامحين لرفعة أمتهم واسترداد هيبتها بين الأمم .. ولو كلفهم ذلك أرواحهم ودماءهم.

وسوم: العدد 791