سورية بين نظام سادي وثورة شعب 22

)الجاسوس الصهيوني إيلي كوهين مرحب به في دولة البعث(

الحلقة الثانية والعشرون

كان من نتائج الانتكاسات التي عصفت بالتيار القومي داخل الحزب أنه بعد مضي أسبوعين على انعقاد المؤتمر القومي السادس، أي في 11 تشرين الثاني 1963م، رقي صلاح جديد إلى رتبة (لواء) وسمي رئيساً للأركان العامة للجيش، بقرار صادر عن المجلس الوطني لقيادة الثورة. كما كلف اللواء أمين الحافظ في 12 من الشهر نفسه، بتشكيل حكومة جديدة احتل فيها أنصار القيادة القطرية في سورية قسماً كبيراً من المقاعد.

ثالثاً: عقد تحالف بين الاتجاهين المتطرفين في كل من القيادة القطرية للحزب في سورية والعراق، ونتج عن هذا التحالف ما عرف بالجناح (اليساري) في حزب البعث. ولقد استقبل هذا التحالف بكثير من التشجيع الضمني أو الظاهري، من قبل عدد كبير من الضباط الشباب وأصحاب الغايات والتطلعات والطموحات الشخصية.

وفي الوقت الذي كان الصراع على أشدّه بين أطراف مراكز القوى داخل حزب البعث الذي استطاع التمكن من الحكم بعد أن أجهز على كل منافسيه وأعدائه.. سواءً على الصعيد المدني أم على الصعيد العسكري.. نقول في هذا الوقت بالذات استطاع (كوهين) الجاسوس الإسرائيلي أن يتسلل إلى عضوية حزب البعث الحاكم.. كما استطاع أن يقيم علاقات حميمية مع بعض أعضاء المجلس الوطني لقياد الثورة مثل: (الرائد سليم حاطوم). كما تعرف إلى (اللواء أمين الحافظ) يوم كان ملحقاً عسكرياً في الأرجنتين قبل قيام انقلاب 8 آذار 1963م، وبالتالي غدا كوهين رجل مرحب به في أوساط حزب البعث الحاكم في سورية.

من هو الجاسوس الصهيوني (إيلي كوهين) ؟

ولد (إيلي كوهين) في الحي اليهودي بالإسكندرية في 16 كانون الأول 1924م، وكان أبواه (شاؤول وصوف كوهين) قد هاجرا من مدينة حلب السورية إلى مصر. ونشأ إيلي متديناً حيث كان يمضي معظم أوقاته في الكنيس متعبداً.. وكان متفوقاً في مدرسته.. فظفر بمنحة دراسية مرموقة للتعليم في مدرسة (الليسية الفرنسية)، وفي وقت مبكر أصبح يجيد الفرنسية والعبرية بطلاقة. ودرس التلمود، وحفظ بعض النصوص عن ظهر قلب. وكان إيلي رياضياً قوي البنية. وأدت ميوله في البحث.. واهتمامه العميق باليهودية إلى إرساله أول الأمر إلى مدرسة (ميمون) في القاهرة ثم إلى مدارس (رامبام) لدراسة التلمود.. وكان يشرف عليها (موشي فنتورا كبير حاخمي الإسكندرية).

وبين العاشرة والعشرين من عمره.. تحول اهتمامه عن الموضوعات الدينية إلى الرياضيات والفيزياء. ولما دخلت مصر الحرب مع الحلفاء عام 1940م، اكتسب إيلي هواية جديدة ألا وهي الأسلحة.. وكان شغوفاً بوجه خاص بمختلف أنواع الطائرات. وفي عام 1950م هاجرت أسرة إيلي إلى فلسطين ورتب هو لها خطة السفر الكاملة. قدم جميع الوثائق اللازمة لها.. ورفض أن يرحل معها ليبقى في الإسكندرية ليقوم بأعمال التجسس ومعه جهاز الراديو الذي زودته به إسرائيل.. وكان يرسل إلى تل أبيب أية معلومات يتمكن من الحصول عليها. وكان ذلك أول أعمال إيلي التجسسية الرسمية التي كلف بها من قبل الموساد الإسرائيلي.

وفي تشرين الثاني اعتقل كوهين.. وكان متأكداً وهو في زنزانته أنه سيعدم. فقد انقضت سنوات وهو يتجسس، ولم يكن يشك في أن تكشف حقيقة ما مارسه من نشاطات تجسسية.

واستطاع إيلي إقناع سجانيه بأنه صهيوني في معتقداته فقط، ولم يتمكن المحققون من العثور على أي دليل على ممارسته لأية نشاطات تجسسية. ولكنهم أخبروه بأنه سيطرد من مصر.

وفي 20 كانون الأول 1956م.. وجد إيلي كوهين نفسه على ظهر سفينة متجهة إلى نابولي.. حيث نزل مع باقي اليهود المطرودين من مصر بانتظار السفن التي تقدمها لهم حكومة إسرائيل.

وأخيراً عاد كوهين إلى إسرائيل في 12 شباط عام 1957م. وتسلم إيلي الوثائق التي تشهد بأنه مواطن إسرائيلي. وعاد إلى أهله الذين فارقوه منذ أكثر من ست سنوات. وقضى إيلي عدة أشهر قبل أن يجد عملاً في أواخر عام 1957م في وزارة الدفاع الإسرائيلية.

وفي أوائل عام 1959م قابل إيلي امرأة عراقية تدعى (ناديا) في نادي الجنود بتل أبيب.. وقبل انقضاء أقل من أسبوعين تزوج كوهين من ناديا.

بعد انقطاع كوهين عن العمل بفترة طُلب إليه الالتحاق بجهاز الموساد (جهاز المخابرات الإسرائيلي). وشرع إيلي في دراسة مكثفة استغرقت ستة أشهر في مختلف فنون مهنته الجديدة.. وبقي طيلة مدة تدريبه تلك.. ساكناً في شقة استأجرها الموساد له بتل أبيب بعيداً عن أسرته لتكون مركزاً للتدريب.. وهي ما تزال كذلك حتى يومنا هذا.. ولم يكن يسمح له بمغادرة الشقة بدون إذن.. وفي العادة لم يكن يخرج إلا للسير في المساء بصحبة مدربه ضابط الموساد (إسحاق زلمان).

وقام إيلي طيلة فصلي الربيع والصيف من عام 1960م بدراسة جميع مناهج الموساد.. وقد علمه خبراء مجربون في فنون التخريب كيف يضع المتفجرات والقنابل الزمنية الموقوتة من أبسط مركباتها.. كما أُخذ إلى معسكرات الجيش ليرى كيف تستعمل أجهزة التفجير المختلفة.. في نسف الجسور والمنشآت. وقام خبراء في فنون المعاركة والمصارعة بتعليم إيلي كيف يناجز خصمه وهو أعزل.

عكف إيلي كوهين على دراسة الإسلام.. وحفظ آيات كثيرة من القرآن عن ظهر قلب.. كما تعلم ما يقوم به وهو يؤدي الصلوات الخمس.. كما تفرضها الشريعة الإسلامية.

ذهب كوهين مع مدرّبه إلى الحدود السورية - مرتفعات الجولان - وعرف من مدربه أنه يُخطط له للذهاب إلى سورية.

وفكر رؤساء كوهين في إرساله أول الأمر إلى سورية منتحلاً شخصية مواطن من إسبانيا أو أمريكا الجنوبية.. ولكن قرارهم الأخير هو اختيارهم له شخصية عربية يتقمصها.

بدأ إيلي كوهين دراسة مكثفة عن تاريخ سورية.. وتطورها الاقتصادي.. وحكومتها.. وجغرافيتها.. وطوبوغرافيتها. كما قام عدد من الأساتذة تعليمه اللهجة السورية.

كما ألزمته قيادته بتعلم كل ما يقدر عليه من معلومات عن الأرجنتين.. من تاريخ وسياسة وجغرافيا وصقل لغته الإسبانية.

وأخيراً أعطى الموساد إشارة الانطلاق إلى كوهين.. فقد حان الوقت لإرساله إلى العمل.

في الأول من آذار 1961م وصلت طائرة (سويس إير) القادمة من زيورخ في الوقت المحدد في مطار (ازيزة) في (بيونس آيرس) عاصمة الأرجنتين. وكان أول النازلين من الطائرة كوهين.. وبعد الإجراءات الجمركية والهجرة غادر المطار وأخذ سيارة أجرة.. وأوضح كوهين رجل الأعمال للسائق أنه غريب في المدينة.. وطلب منه أن يشير عليه بفندق ينزل فيه. ومضى السائق به إلى عنوان معروف في شارع (أفنيدا نويفي دي جوليو) في قلب المدينة.

وعندما وصل رجل الأعمال (كوهين) إلى الفندق كتب اسمه في السجل: (كامل أمين ثابت) تاجر تصدير واستيراد.. وكان جواز سفره يدل على أنه سوري.

كانت مدينة بيونس آيرس حافلة بالأندية التي يؤمها السوريون واللبنانيون.. حيث يجتمعون في كل مساء للتحادث ولعب النرد.

واختار ثابت النادي الذي ارتآه ملائماً.. وسرعان ما تبادل ثابت أطراف الحديث مع طائفة من الناس.. الذين طلبوا منه التعريف بنفسه. فبدأ ثابت في سرد قصة حياته الوهمية. قال: إن والده أمين وأمه سعيدة غادرا بلدهما سورية قبل سنوات ليجربا حظهما في العاصمة اللبنانية المزدهرة، بيروت، وهناك ولد كامل وأخته (عينا) التي توفيت وهي طفلة صغيرة ولم تجر الرياح بما اشتهت العائلة.. فانتقلت إلى مصر.. واستقر أمرها في الإسكندرية أخيراً.. وهناك قضى كامل أكثر أيام طفولته.. وكان والده يلح على أن تحتفظ العائلة بالجنسية السورية.. وهو الذي غرس في كامل حباً عميقاً لبلده.. وقال كامل لمستمعيه أنه أقسم حين كان والده في النزع الأخير بأن يزور سورية في يوم من الأيام.

أصبح إيلي شخصية شعبية في دائرة المهاجرين السوريين.. كما عرف أن (نادي الإسلام) وهو مطعم ومركز اجتماعي هو خير الأمكنة التي يلتقي فيها بأولي النفوذ من أبناء الدول العربية. وذات يوم اتصل الحديث بينه وبين رجل أصلع.. متوسط السن.. قال لإيلي أن اسمه (عبد اللطيف الخشن) وإنه محرر أكبر جريدة عربية في الأرجنتين.. وقدم الخشن إيلي إلى الشخصيات العربية البارزة في بيونس آيرس.. كما عرّفه إلى الدبلوماسيين ورجال المجتمع الأغنياء.

وفي أحد الأيام وخلال حفل قابل العميد (أمين الحافظ) الملحق العسكري في سفارة الجمهورية العربية المتحدة.. وسرعان ما أولى أمين الحافظ ثقته هذا الشاب المتحمّس.

في أواخر عام 1961م زفَّ ثابت لأصدقائه البشرى بأنه يعد العدة للسفر إلى دمشق.. وعندئذ أمطروه بوابل من أسماء معارفهم وعناوينهم من رجال أعمال، وموظفي حكومة، وأصدقاء شخصيين.. ووعده الجميع بأن يكتبوا إلى دمشق ليضمن كل مساعدة ممكنة للاستقرار هناك.

والحقيقة أن كوهين، وبناءً على تعليمات من رؤسائه، عاد إلى تل أبيب بعد أن حصل على تأشيرات من القنصلية اللبنانية وقنصلية الجمهورية العربية المتحدة.

بعد أن قضى كوهين إجازة قصيرة بين أهله في تل أبيب.. حان وقت عودته للعمل.. وقد زوده رؤساؤه في الموساد بالأدوات والتجهيزات الالكترونية ومواد التصوير ومواد تساعده على صنع المتفجرات وأقراص سُمٍّ يستعملها عند الضرورة القصوى وهي على هيئة أقراص أسبرين. كما كان معه مواد كيماوية لصنع المتفجرات الشديدة.. أودعها في أنابيب معجون الأسنان.. وعلب صابون الحلاقة.. وكانت مجموعة تجهيزات الكاميرا اليابانية الممتازة التي معه تشتمل على أدوات لصنع مسودات الأفلام الصغيرة.

انطلق إيلي كوهين في رحلته.. ومضى إلى ميونخ ثم إلى مدينة جنوا في إيطاليا. ومن هناك في الأول من كانون الثاني.. أقلع كامل أمين ثابت في حجرة من الدرجة الأولى على ظهر الباخرة الإيطالية سونيا إلى بيروت.

شرع إيلي في تمكين نفسه بصفة عضو بارز في صفوة السوريين.. حتى أثناء رحلته بالسفينة من جنوا. فبعد إقلاع السفينة بوقت قصير.. اتصل الحديث بينه وبين رجل سوري عريض الجاه والثراء يدعى (مجدي شيخ الأرض) وقد برهن هذا على أنه حلقة وصل ممتازة.. فقدم إيلي إلى عدد من أولي الشأن في سورية وساعده بغير علم منه.. بأن أخذه في سيارته من ميناء اللاذقية إلى دمشق. وقد تمكن إيلي بالسفر في سيارة هذا الرجل الخطير من عبور الجمارك دون تفتيش.

استقر المقام بإيلي في شقة فسيحة بالدور الرابع من مبنى حديث في حي (أبو رمانة) المزدهر.. وكان المبنى ذو أهمية كبيرة لكوهين.. حيث يقع في مواجهة مقر قيادة الأركان السورية.

كوّن إيلي شركة استيراد وتصدير.. شهدت نجاحاً فور إنشائها تقريباً.. وقد أدار إيلي العمل بكفاءة.. حيث كان يرسل من سورية الأثاث القديم.. وطاولات نرد.. ومجوهرات.. وتحف فنية.

وكان إيلي إذا ما عاد إلى شقته في الليل.. يخلع عنه ثياب تاجر الاستيراد والتصدير الغني.. ويعود كوهين الجاسوس.. فبعد إغلاق الأبواب إغلاقاً مزدوجاً.. وإسدال الستائر.. يتناول جهاز الإرسال الصغير.. الذي خبأه في قدح نحاسي للزينة في داخل ثريا بلورية كبيرة.. ويمضي بذلك الجهاز إلى غرفة نومه.. حيث يكتب رسالته ويترجمها بالشيفرة.. ثم يبدأ نقرها بسرعة ودقة إلى تل أبيب.

وفي الأيام التي كان إيلي يلتقط فيها الصور.. كان حمام شقته يتحول إلى غرفة سوداء.. يجري فيها بعض العمليات على المسودات ويختزلها إلى أفلام مصغرة. وفي الغد كان إيلي يخبئها في القواعد المموهة أو السيقان المجوفة في هذه السلعة أو تلك من السلع المعدة للتصدير. وكانت تقارير إيلي وأفلامه المصغرة تشتمل دائماً على أمور تهم رؤساءه عن أوسع الناس نفوذاً في أوساط الحكومة والعسكريين السوريين.. ومن بين أصدقائه الكثر اللفتنانت (معز زهر الدين) ابن أخ رئيس الأركان (عبد الكريم زهر الدين) ومنهم (جورج سيف) المسؤول عن الإذاعة في وزارة الإعلام السورية.. والكولونيل (سليم حاطوم) قائد لواء المظلات.

استطاع كوهين بعد انقضاء شهرين على وجوده في دمشق أن يزود الموساد الإسرائيلي بمعلومات لا تقدر بثمن.. وكان في تفسيراته للتغييرات السياسية في دمشق من الدقة واستباق الحوادث الفعلية.. ما يجعل الموساد يقوم بإرسالها إلى رئيس الوزراء خلال ساعات قليلة من وصولها إليه.. وكثيراً ما اتخذ (بن غوريون) - رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك - قرارات مهمة في السياسة.. وهي قرارات قد تفصل بين الحرب والسلم بناءً على برقيات إيلي كوهين الموثوق بها.

وفي تموز 1962م، بعد مرور ستة أشهر من صول كوهين إلى دمشق.. استدعي للرجوع في إجازة إلى تل أبيب حيث أمضى بضعة أيام مع عائلته.

-المراجع-

1-ص(362-363/1) دندشلي-المصدر السابق.

وسوم: العدد 811