البرامكة

من هم البرامكة؟ وكيف وصلوا الى قمة ازدهارهم في عهد الرشيد؟ وكيف كانت نكبتهم؟

ينتسب البرامكة الى "برمك المجوسي"، وهو كاهن فارسي من مدينة "بلخ" وقد كان للبرامكة منزلة عالية واستحوذوا على كثير من المناصب في الدولة العباسية حيث تقلد "خالد بن برمك" أحد أحفاد البرامكة أمر ديوان الخراج والجند في عهد "أبو العباس السفاح" كما ولاه السفاح أمر وزارة التنفيذ بعد مقتل "أبي سلمة الخلال" واستمر خالد يتمتع بعطف السفاح وحبه له ولأولاده.

ومن الدليل على العظمة التي وصل اليها البرامكة:

ــ كثرة من توافد على قصورهم من الأكابر والأشراف وكانوا يسمون "سؤالاً" فاستقبح "خالد" هذه التسمية عليهم وفيهم الأشراف والأكابر فأطلق عليهم اسم "الزوار" كما توافد على قصره الشعراء.

ــ أكثر خالد من العطايا والمنح والهدايا لكل المحيطين به سواء من الشعراء أم من سائر الناس، وهذا يدل على مدى الجود والكرم التي امتاز بها خالد، ويذكر المؤرخون أنه لم يبلغ "خالد بن برمك" أحد من ولده في رجاحة عقله وقوة بأسه وجميع خلاله، وبعد وفاة السفاح أقر "أبو جعفر" "خالد بن برمك" على وزارته وأكرمه واستشاره في كثير من أموره ومن ذلك:

حينما كان يبني المنصور مدينة بغداد عظمت عليه النفقة فأشار عليه أحد وزرائه أن يهدم إيوان كسرى واستعمال أنقاضه، فاستشار المنصور "خالد بن برمك" فقال له خالد: يا أمير المؤمنين لا تفعل فإنه آية الاسلام فاذا رآه الناس علموا أن مثل هذا البناء لا يزيله الا أمر سماوي وهو مع ذلك مصلى علي بن أبي طالب عليه السلام- والمئونة في نقضه أكثر من نفعه، فقال له المنصور أبيت يا خالد الا ميلاً الى العجمية، ثم أمر المنصور بهدمه فهدمت منه ثلمة فبلغت النفقة عليها أكثر مما حصّل منها، فأمسك المنصور عن هدمه وقال: أيا خالد قد صرنا الى رأيك وتركنا هدم الإيوان قال: يا أمير المؤمنين أنا الآن أشير بهدمه لئلا يتحدث الناس أنك عجزت عن هدم ما بناه غيرك.

وفى نفس الوقت كان "خالد بن برمك" أحد أعوان الخليفة المنصور في حركة الاصلاح الإداري التي قام بها المنصور.

ــ مكانتهم في عهد هارون الرشيد:

أزهى فترة في تاريخ البرامكة كانت في عصر الخليفة "هارون الرشيد" فبعد أن تولى الرشيد الخلافة استوزر "يحيى بن خالد بن برمك" وكان يحيى نائبه وكاتبه ووزيره قبل أن يلي الرشيد الخلافة.

يحيى بن خالد البرمكي:

تولى "يحيي بن خالد البرمكي" تربية الرشيد كان أخاً بالرضاعة لابنيه "الفضل بن يحيى" و" جعفر بن يحيى" الذي حظي بمكانة خاصة عند الرشيد ويقال إنه كان الحاكم الفعلي لبعض أمور الدولة العباسية، بلغ من علو القدر ونفاذ الامر عند الرشيد مكانة انفرد بها ولم يشاركه فيها غيره.

ـــ كان "ليحيى البرمكي" فضل كبير في تولية هارون الرشيد الخلافة، وذلك أنه في أحد الأيام استدعاه الخليفة الهادي واستشاره في خلع أخيه هارون من ولاية العهد وأن يعهد لابنه "جعفر" بها غير أن يحيى أقنع الهادي بضرورة العدول عن هذه الفكرة خشية قيام فتن وأن جعفر لايزال صبياً صغيراً وكان ما أراد يحيى وبعد أن تولى الرشيد حفظ ليحيى هذا الفعل وعهد اليه بأمر وزارته، فنهض يحيى بأعباء الدولة أتم نهوض، وحفظ ثغورها وتدارك الخلل بها، وجنى الأموال، وعمر الأطراف، وأظهر رونق الخلافة. وصفه المؤرخون بأنه كان سمح الأخلاق، طلق الوجه، جواداً، وكان أيضاً من ذوي الفصاحة والبلاغة، وكاتباً بليغاً أديباً سديداً صائب الآراء، ضابطاً لما تحت يديه قوياً على الأمور، حليماً عفيفاً وقوراً مهيباً. وكان ليحيى ولدان "الفضل" و"جعفر".

الفضل بن يحيى:

كان من كرام الدنيا وأجود أهل عصره. أرضعته أم هارون الرشيد. وعهد اليه الرشيد بأمر المشرق وكانت عاصمته خراسان.

جعفر بن يحيى:

كان فصيحاً لبيباً، ذكياً، كريماً، حليماً، وكان الرشيد يأنس به أكثر من أنسه بأخيه الفضل لسهولة أخلاق جعفر وشراسة أخلاق الفضل.

تولى جعفر أمر البريد ودور الضرب والطراز وديوان الخاتم، وأصبح حاكماً على المغرب عام (186هـ/802م).

 وصل جعفر الى مكانة كبيرة في دولة الرشيد لدرجة أن أوامره وأحكامه كانت سارية على الخلافة فيذكر أنه دخل عليه في أحد الأيام رجل من أقارب الخليفة ، وطلب منه ثلاثة مطالب، أولها أن الخليفة له عليه دين بألف ألف درهم ،وثانيهما أنه أراد الولاية لابنه، وثالثهما أردا أن يزوج ابنه من ابنة الخليفة هارون ،وقد اجاب جعفر الى هذه المطالب الثلاثة دون أن يأخذ رأي الخليفة وعلى هذا النحو وصل البرامكة الى أعلى درجات الحكم وجمعوا ثروات ضخمة ،وعاشوا عيشة أقرب إلى عيشة السلاطين منها الى عيشة الوزراء، وقد أنفق البرامكة ببذخ في حياتهم سواء على الشعراء أو العلماء.

واستمر حال البرامكة على هذا النحو حتى آخر ليلة من (شهر المحرم عام 187هـ/803م) حينما أرسل الخليفة " هارون الرشيد" خادمه مسرور ليضرب عنق "جعفر بن يحيى البرمكي"، كما أمر في نفس الليلة بإلقاء القبض على يحيى البرمكي وابنه الفضل وبقية أفراد أسرة البرامكة، وأمر بمصادرة أموالهم، وأرسل الى ولاة الأقاليم يأمرهم بالقبض على أنصار البرامكة ومواليهم وحذر الناس إيواء أحد منهم.

نكبـة البرامكـة:

تعد هذه الحادثة أحد أبرز الأحداث السياسية المؤثرة في حكم " هارون الرشيد" اذ أنها كانت حلقة وصل بين سلسلة نكبات طالت وزراء الدولة العباسية منذ أن قتل "أبو مسلم الخرساني" و"أبو سلمة الخلال" وقتل معظم المقربين من الخلفاء العباسيين لبنى سهل.

الأسباب والدوافع التي أدت الى انقلاب الرشيد على البرامكة:

1-السياسة العباسية في توزان القوى:

حرص العباسيين على ألا تفقد دولتهم عنصر التوازن بين مختلف العناصر فيستأثر عنصر دون آخر بالسلطان والنفوذ، وعلى هذا النحو خشي الرشيد من ازدياد نفوذ البرامكة، كما أنه شك في اخلاصهم له.

2-دخل في نفس الرشيد أن يحيى البرمكي قد استبد بالخلافة حقيقة الأمر وما هو إلا خليفة اسماً:

تعاظم نفوذ البرامكة في عهد هارون الرشيد لدرجة جعلت بعض حاشية الخليفة تضمر لهم الشر، واحتدم الصراع بين البرامكة وخصومهم، وبدأت الأمور تتخذ منهجاً جديداً بعد أن نجحت الدسائس والوشايات في إيغار صدر الرشيد على البرامكة، وذلك بتصويره بمظهر العاجز أمام استبداد البرامكة بالأمر دونه، والمبالغة في ظهور ما بلغه هؤلاء من الجرأة على الخليفة، وتحكمهم في أمور الدولة، حتى قرر الرشيد التخلص من البرامكة ووضع حد لنفوذهم.

3-خشي الرشيد من حدوث تعاون بين البرامكة والعلويين:

شك الرشيد في اخلاص البرامكة له خاصة بعد أن أطلق "جعفر بن يحيى البرمكي ""يحيى بن عبد الله العلوي" الذي خرج على الرشيد ودعا الى نفسه بالخلافة، لذلك تخوف الرشيد من حدوث ميل بين البرامكة والعلويين وأخذ يتتبع باهتمام تحركاتهم بحذر شديد.

4-علاقة "العباسة" أخت الرشيد "بجعفر البرمكي":

وصل الى علم الرشيد أن هناك علاقة عاطفية بين أخته العباسة وجعفر البرمكي فغضب غضباً شديداً على جعفر والبرامكة وزاد من غضبه ما أثاره في نفسه بعض الحاقدين الناقمين على البرامكة من اذكاء روح الانتقام منهم.

5-دور زوجة الرشيد في نكبة البرامكة:

لعبت "زبيدة زوجة الرشيد وأم ولده الأمين" دوراً كبيراً في نكبة البرامكة، اذ كانت تعتقد أن "هارون الرشيد" إنما ولى عهده لابنه "المأمون" دون "الأمين" بتأثير من "جعفر البرمكي" وأبيه "يحيى" فلم يكن الأمين يبلغ الخامسة من عمره حتى اجتهدت أمه وأخواله في أن تؤول اليه ولاية العهد وتكون الخلافة له من بعد أبيه، ولعل رغبة آراء البيت العباسي واجتماعهم على تولية الأمين كانت وراء نزول الرشيد على رأيهم.

وكان يؤجج تلك الرغبة كرههم للبرامكة الذين استأثروا بالرشيد ونالوا لديه حظوة ومكانة كبيرة.

ويبدوا أن هارون الرشيد قد تهيأت نفسه للقضاء على البرامكة والحد من سطوة ونفوذ العنصر الفارسي وذلك اعادة لسياسة التوزان في الدولة العباسية بعد أن بدأت كفة الفرس ترجح على كفة العرب فأراد أن يقصي العنصر الفارسي عن النفوذ والسلطان وأن يعهد الى "الفضل بن الربيع" وهو يمثل العنصر العربي بتصريف أمور الدولة لكن أمه "الخيزران" وقفت ضد تنفيذه هذه الفكرة ورفضت أ يولى "الفضل بن الربيع" أمور الدولة وذلك لأنها فارسية. واستمر هذا الوضع حتى وفاة "الخيزران" فبدأ الرشيد في تنفيذ خطته في إقصاء العنصر الفارسي والعهد الى العنصر العربي بتصريف أمور الدولة.

ولم يكن القضاء على البرامكة بالأمر الهين، فقد تغلغل البرامكة في كل أمور الدولة وصار لهم كثير من الأنصار والأعوان فاتبع الرشيد سياسة الكتمان حتى يلحق بهم الضربة القاضية.

كما خرجت زبيدة زوجة الرشيد منتصرة هي الاخرى اذ فلحت في أن تجعل ولاية العهد لابنها "الأمين" دون "المأمون".

وسوم: العدد 815