مكانة الكلمة في الإسلام

د. أحمد محمد كنعان

إن الحمد لله الذي استهل رسالاته إلى الإنسان بتعليمه أسرار الكلام (وَعَلَّمَ آدَمَ الأسماءَ كُلَّها) وختمها بالدعوة إلى القراءة والكتابة والتعلم بالقلم (اقْرأ باسْمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسانَ  مِن عَلَقٍ * اقْرأ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الذي عَلَّمَ بالقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسانَ ما لَم يَعْلَم) سورة العلق 1 -  5 ، وأتبع ذلك بآياته المباركات التي تحضُّ على طلب العلم والتعلم وترفع مكانة العلم والعلماء : (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) سورة الزمر 9 .

والصلاة والسلام على النبيُّ الخاتم الذي جعل طلب العلم فريضة : (طَلَبُ العلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ)(1) ، ورغَّب بالأجر العظيم لطالب العلم : (مَنْ سَلَكَ طريقاً يلتمسُ فيه علماً سهَّل اللهُ له به طريقاً إلى الجنة ))(2) ورفع مرتبة العلم إلى مرتبة الجهاد في سبيل الله : (من خرجَ في طلبِ العلمِ كان في سبيلِ اللهِ حتى يَرْجِعَ)(4)

وقد فقه المسلمون الأوائل في عصرهم الزاهر هذه الدعوة من الكتاب والسنة لاكتساب العلم فانطلقوا في الأرض طالبين للعلم، باحثين عن مصادر المعرفة ، حتى تعلموا الكثير، وأنتجوا كنوزاً من العلم لا تقدر بثمن، فأفادوا واستفادوا ، ونفعوا البلاد والعباد، وتفوقوا على أمم الأرض في مختلف حقول العلم والمعرفة، مما دفع عجلة العلم مراحل واسعة إلى الأمام، وبهذا سبق المسلمون أوروبا بعدة قرون(5) .

وقد تحققت هذه النقلة المباركة بالأمة بفضل الله عزَّ وجلَّ الذي منَّ عليها بالإسلام، فبعد كانت قبل أمة أمية لا تعرف القراءة ولا الكتابة، ليس لها نصيب من العلم، جاء الإسلام فانتقل بها إلى آفاق الوحي الرحبة، وفتح بصائرها وعقولها بنور الكلمات الإلهية، وجعلها خلال برهة قصيرة من عمر الزمان في مقدمة الأمم، وأسلم لها قياد البشرية، فصارت منارة يستضيء به العالم كله لأكثر من عشرة قرون متتاليات .

وقد كان للكلمة أثر حاسم في تحقيق كل هذه الأمجاد للمسلمين، فلا غرابة أن تكون أول كلمات الوحي "اقرأ" وكانت معجزة الإسلام الخالدة كتاباً يتألف من مجموعة من الكلمات التي تحض على القراءة والكتابة والعلم والتعلم .

وقد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - أهمية الكلمة في حياة الأمة فكان شديد الحرص على تعليم أمته لتخليصها من الأمية، ومما فعله لأجل ذلك أنه عرض على الأسرى الذين أسرهم في معركة بدر فداء أنفسهم بأن يعلِّم كل منهم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة، فكان هؤلاء الصبيان أول نواة للعلم في حضارتنا الإسلامية .

ولا جدال بأن العلم يأتي في مقدمة الأسباب للتمكين في الأرض ، فإذا ما نظرنا اليوم حولنا فإننا نرى الأمم التي أحرزت سبقاً كبيراً في ميدان العلم والتعلم هي التي تتفوق في شتى المجالات العلمية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، وهي التي تقود العالم وتسيطر عليه وتوجهه كما تريد ، مع أن الله عزَّ وجلَّ قد كلف الأمة الإسلامية بهذه المهمة الجليلة لتقود العالم إلى طريق الرشاد ، كما قال تعالى : (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) سورة البقرة 143 .

إلا أن أمتنا الإسلامية عندما تخلت عن منهج الله، وضعف التزامها بهذا المنهج الرشيد، وتخلفت في ميادين العلم، أصابها الوهن والتخلف والجهل، وأمست نهباً لكل طامع، وليس لنا خروج من هذا المأزق إلا أن نعود إلى ديننا عودة صادقة، بالتزام تعاليمه الإلهية، وفي مقدمتها الاهتمام بالعلم والتعلم، لكي نستعيد دورنا الريادي في الشهادة على العالمين .

مولد الكلمة :

والحديث عن مكانة "الكلمة" في الإسلام؛ يطرح أمامنا عدداً من الأسئلة التي تبحث عن جواب، فمتى نطق الإنسان لأول مرة بلغة مفهومة؟ وكيف تعددت الألسنة وظهرت اللغات المختلفة في التاريخ البشري؟ وكيف تحولت اللغات المنطوقة إلى كتابة؟ وما هي علاقة اللغات والكتابة بالتعليم؟

يعتقد علماء اللغات أن البشر أصبحوا قبل مائتي ألف سنة من الآن قادرين على التواصل فيما بينهم من خلال التخاطب بلغة رمزية مجردة ، وربما بدأ ذلك في بلاد فارس التي كانت تعرف باسم بلاد ما وراء النهر.

ويقدِّر علماء اللغة واللسانيات أنَّ عدد اللغات الحيَّة المتداولة اليوم في مختلف أنحاء العالم يربو على ( 7000 لغة ) منها ( 845 لغة ) في الهند وحدها، أما اللغة التي يستعملها اليوم أكبر عدد من الناس فهي اللغة الصينية التي يتحدث بها أكثر من ( 100مليون شخص ) ثم اللغة الإنكليزية التي يتحدث بها ما يزيد عن ( 500 مليون شخص ) في أنحاء متفرقة من العالم، لاسيما في بريطانيا والولايات المتحدة وأستراليا

ويتنبأ علماء اللغات واللسانيات أن ما بين ( 50 ـ 90 % ) من اللغات الحية المستعملة اليوم في العالم سوف ينقرض قبل انصرام القرن القادم (الثاني والعشرين) لتحلَّ محلَّها اللغات الأخرى الأكثر حيوية، لاسيما منها اللغة الإنكليزية التي بدأت تنتشر انتشاراً واسعاً وسريعاً في العالم، وازداد الإقبال عليها كثيراً في السنوات الأخيرة بسبب اتساع نفوذ الدول الأنكلوسكسونية وسيطرتها على العالم، ولاسيما منها الولايات المتحدة ، وتسخير وسائل الإعلام المختلفة لنشر هذه اللغة، وبخاصة منها القنوات الفضائية، وشبكات "الإنترنت" !

ففي إحصائية صدرت عام 2001 عن اليونيسكو وجد أن ( 75 % ) من الإنتاج الثقافي في العالم يصدر باللغة الإنكليزية عن الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، و ( 25 % ) يصدر عن بقية دول العالم ببقية اللغات، وأن ( 88 % ) مما ينشر على مواقع شبكة الإنترنت العالمية ينشر باللغة الإنكليزية، و ( 9 % ) بالألمانية، و ( 2 % ) بالفرنسية، و ( 1 % ) لبقية اللغات[2] ، وقد بيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة قبل العلماء بأربعة عشر قرن من الزمان، فأشار إلى منطق الطير كما ورد على لسان نبي الله سليمان عليه السلام : (.. وقالَ يا أُّيها الناسُ عُلِّمْنا مَنْطقَ الطَّيْرِ وأُوتينا من كُلِّ شَيءٍ ، إنَّ هذا لهوَ الفَضْلُ المبينُ) سورة النمل 16 ، وكان سليمان عليه السلام قادراً على التخاطب مع الحيوان كما يتخاطب البشر فيما بينهم، ومن ذلك ما جرى بينه وبين الهدهد الذي تفقَّده فلم يجده بين الحيوانات التي حشرت أمامه ، فهدد بقتله إذا لم يأته بعذر يبرر غيابه ، وحين جاء الهدهد قدَّم حجته وردَّ على النبي قائلاً : (.. أَحَطْتُ بما لم تُحِطْ بهِ وَجِئْتُكَ من سَبَأ بنَبَأ يَقين) سورة النمل 22 ، وكذلك سمع سليمان حديث النملة لعشيرتها من النمل وهي تحذرهم من قدوم جحافل الجيش العرمرم (قالت نملة يا أيُّها النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنِكُم لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُليمانُ وَجنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً من قَوْلها ..) سورة النمل 18 ـ 19 ، فهذه الشواهد القرآنية تدل على أن للطيور وللنمل ولغيرها من مخلوقات الله لغتها الخاصة التي تتفاهم بواسطتها فيما بينها .

وقد تمكن بعض المتخصصين بتدريب الحيوانات أن يعلِّموا بعض الحيوانات لغة البشر حتى أصبح بعضها قادراً بالفعل على النطق كما ينطق البشر ، ففي منتصف شهر نيسان من عام 1996 عقد مؤتمر علمي كبير في مدينة تكسون ( Tucson ) بولاية أريزونا الأمريكية، جمع نخبة كبيرة من الأخصائيين في الفيزيولوجيا العصبية، وعلم النفس، والمختصين بآليات سلوك الحيوان، وقدمت فيه بحوث على درجة كبيرة من الأهمية حول تعليم الحيوانات لغة البشر، وعرض فيه ببغاء يدعى ( أليكس ) يستطيع العدَّ حتى الرقم ستة، ويستطيع التفريق بين الألوان المختلفة، كما عرض في المؤتمر شمبانزي على درجة كبيرة من الذكاء يمتلك قاموساً لغوياً مؤلفاً من ( 256 كلمة ) من كلمات البشر .

وذكر أحد الباحثين في المؤتمر أن الفيلة تمتلك لغة للتخاطب بالموجات تحت الصوتية بحيث لا يسمعها البشر، وهي تمكن الفيلة من التخاطب عن بعد، ولو كان بعضها يبعد عن بعض 16 كلم !

وهذا ما يؤكد أن اللغة ظاهرة عامة ليس في عالم البشر وحدهم، بل أيضاً في عالم الحيوان، ومن يدري فقد نكتشف في يوم من الأيام أن للنباتات أيضاً لغات تتخاطب وتتواصل فيما بينها !؟

مراكز الكلام في الدماغ :

يعتمد نطق الإنسان على مراكز عصبية عليا في الدماغ؛ إلى جانب جهاز التصويت الذي تعد (الحنجرة) أهم جزء فيه، مع مجرى التنفس والفم واللسان والشفتين.

أما المراكز الدماغية المسؤولة عن الكلام فأهمها "منطقة بروكا" التي اكتشفها الجراح بول بروكا (1824 - 1880) وأثبت أن هذه المنطقة هي المسؤولة عن قواعد اللغة، ثم المنطقة العصبية التي اكتشفها الطبيب الألماني كارل فرنيكيه، وسميت باسمه "منطقة فرنيكيه" وهي المسؤولة عن تفسير معاني الكلمات .

وهاتان المنطقتان تقعان في الفص الجداري من قشرة المخ الأيسر، أي المنطقة الحركية الحسية، وعندما تصاب هذه المناطق العصبية بالعطب بسبب المرض أو الرض أو النزيف أو الأورام يفقد المريض قدرته على النطق، فتراه يهمُّ بالكلام وتحضره الكلمة ومعناها، لكن لسانه يخونه فلا يستطيع النطق بها ، أو أنه يسمع الكلمات، لكن تمر بسمعه دون أي يدرك معناها !

ويعد الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي استطاع بما وهبه الله عزَّ وجلَّ من قدرات عقلية فذة أن يطور اللغة، ويحولها إلى إشارات مكتوبة يمكن التواصل من خلالها مع بني جنسه، فبعد أن تعلم الإنسان تسمية الأشياء والنطق بأسمائها، اهتدى إلى التعبير عنها بإشارات أو رسوم بدأ يرسمها على جدران الكهوف أو على الأرض أو على الأشجار، وقد كانت هذه نقلة نوعية كبيرة في تاريخ البشرية لأنها مكنت الإنسان لأول مرة في حياته من نقل تجاربه إلى الأجيال التالية عبر الكتابة، ومع تراكم التراث المكتوب حفظت المعلومات، وصارت مصدراً مهماً من مصادر المعرفة

واليوم نشهد نقلة جديدة في تاريخ الكلمة بمولد ( الكلمة الكترونية ) التي أصبحت تسافر على موجات الأثير من أقصى الأرض إلى أقصاها بسرعة البرق، وهي بلا شك نقلة هائلة جعلت العلم ينمو بسرعة البرق، وجعلتنا نعيش تباشير تلك المعجزة التي أجراها الله بين يدي نبيه سليمان عليه السلام الذي طلب إحضار عرش الملكة بلقيس من أقصى الأرض، فقال له الذي عنده علم من الكتاب : (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) سورة النمل 40 ، وهكذا كان .

واليوم أصبحنا بتوفيق الله تعالى قادرين على تحقيق شيء من هذا القبيل، بتسخير بعض السنن الإلهية التي تمكنا بها من نقل الكلمات والرسائل والبحوث والدراسات بالصوت والصورة بسرعة البرق !

فالحمد لله على نعمة ( كلمة ) التي جعلها وعاء للعلم ، والحمد لله على أن جعل الكلمة معجزته الأخيرة إلى أهل الأرض، وجعل الكلمة على ضعفها قادرة على الارتقاء بالإنسان إلى أعلى العليين، أو الهبوط به إلى أسفل السافلين كما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال : (وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ على وُجُوهِهِمْ ـ أو على مَنَاخِرِهِمْ ـ إلا حَصَائِدُ ألسِنَتِهِمْ ؟!) فالكلمة مسؤولة .. ومسؤولية .

(1) أخرجه ابن ماجة 220 من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه .

(2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب باب العلم قبل القول والعمل ، ومسلم 4867 ، والترمذي 2570 ، وأبو داود 3157، وابن ماجة 219 ، وأحمد في مسنده 7118 ، والدارمي 346 .

(4) أخرجه الترمذي 2571 .

(5) جورج سارتون : مقدمة تاريخ العلوم ، ص 17 ترجمة جميل حداد وزملاؤه ، دار المعارف بالقاهرة 1969 .

[2] - انظر مجموعة المقالات التي نشرت في مجلة ( الثقافة العالمية ) العدد 116 ، يناير / فبراير 2003 ، ص 7 ـ 33 ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت ، وهي مترجمة عن مجلة (  La Recherche, No 341 , April 2001 )

وسوم: العدد 815