نظام الحكم بين الدولة المدنية (دولة المواطنة) والدولة الإسلامية (دولة الخلافة)

 

إن المقصود بنظام الحكم هو مجموعة الأحكام والقواعد المنظمة لشؤون الحكم في الدولة. وقد بينا في مقال سابق[1]، بأن نظام الخلافة هو النموذج الشرعي لنظام الحكم في الإسلام. وهو نظام يجمع الأمة بمختلف قومياتها وأقطارها ضمن رئاسة خليفة واحد، تتم بيعته من قبل أهل الحل والعقد في الأمة على أساس الحكم بالإسلام. ويتوجب على الخليفة بالتالي رعاية مصالح الأمة وحمايتها بما يضمن وحدتها ونهضتها وسيادة أحكام الإسلام فيها، سواء في القضاء أو الاقتصاد أو التعليم أو الإعلام أو العقوبات أو السياسة الداخلية أو الخارجية للدولة.

إلا أن سقوط دولة الخلافة في آخر كيان سياسي مَثّلها – الدولة العثمانية – ترافق مع بروز نظام دولي جديد تستند فيه الدول إلى مفهوم الدولة القطرية أو الوطنية الحديثة، التي تجعل من "العقد الاجتماعي" الذي يتوافق عليه "المواطنون" بمعزل عن أية مرجعية أخرى مسبقة، العقد الوحيد الملزم لهم. فالدولة الوطنية هي دولة المواطنين أو دولة المواطنة، وهي الأساس في تحديد نظام الحكم في الدولة، وهي النظام الوحيد الذي يتجانس مع المنظومة الدولية الحاكمة في العالم، التي تفرض إطاراً محدداً للدولة حتى يتم قبولها فيما يسمى بالمجتمع الدولي والاعتراف بها كدولة ضمن منظمة الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية التابعة لها.

وتستند دولة المواطنة في واقع الحال إلى معايير الفكر الغربي للدولة، تلك التي تجعل المواطن وإرادته الحرة هي المقدس الأوحد، التي لا يصح أن تعلوها أية قيمة أخرى، فضلاً عن أن تتعارض معها أو تلغيها. فحرية الفرد في الفكر الغربي تتمثل باختياره الحر لما يمثل مصالحه ورغباته، فهذا وحده الذي يجسد إرادته كمواطن حر. ويعتبر التسليم بإرادة الفرد الحرة هو الأساس، وأي خرق لها يصنف انتهاكاً لـ "حقوق الإنسان". لهذا تكون دولة الشريعة وكل مرادفاتها كدولة الخلافة والدولة الإسلامية نقيضاً لدولة المواطنة، لأنها تفرض مسبقاً خضوع المواطنين لمرجعية أعلى من إرادتهم الحرة. وفيما يتم حسم أي خلاف في دولة المواطنة للقانون الذي تواضع عليه الناس فإن حسم أي خلاف في دولة الإسلام يكون بالرجوع للأحكام الشرعية المتعلقة بالخلاف. ولا يغير من واقع هذا التوصيف كون غالبية أفراد المجتمع هم من أتباع دين أو معتقد خاص أم لا. فدولة المواطنة ليست دولة دين الأغلبية، إنما هي دولة التوافق بين مختلف شرائح المجتمع الممثلين في الدولة، على اعتبارهم مواطنين. ومن المغالطة اعتبار أن الدولة المدنية – دولة المواطنة - يمكن أن تكون دولة أتباع دين بعينه ولو شكلوا الأكثرية العددية في المجتمع. لأن مفهوم دولة المواطنة يقتضي جعل إرادة الجماهير الحرة - غير المقيدة بمرجعيات مسبقة – والمرتبطة بإرادة المواطن هي الأساس، وإلا تحولت الدولة إلى كيان ديني أو أيديولوجي لا كيان مدني، حيث تخضع الدولة لسيادة الشعب على كل الصعد، التشريعية والتنفيذية والقضائية.

لهذا يتم النظر عند تشريع أي قانون أو تبني أي مشروع سياسي – في دولة المواطنة- إلى مصالح المواطنين، سواء من خلال استفتاءات عامة أو من خلال ممثليهم، من غير أي قيد مسبق يمكن أن يقمع أو يلغي تلك "الإرادة الحرة" المفترضة للأفراد أو لمجموعهم. فكلٌ يجادل ويدعو لما يتصوره أصلح انطلاقاً من مصالحه ورغباته بغض النظر عن الدين أو الأيديولوجيا. لذلك فإن منطلق الحديث عن منع الربا مثلاً - حتى عندما تكون الغالبية مسلمة في دولة المواطنة – يعتمد منطق كونه أنسب للوضع الاقتصادي الحالي للمواطنين، لا لكونه حراماً مطلقاً بنص قرآني، وإلا لما كان هناك داع للنقاش أصلاً. وقد يخلص النقاش في موضوع الربا إلى تقليله أو إلى مضاعفته إذا اقتضت الحاجة أو المصلحة الاقتصادية العامة للمواطنين. لنفس السبب تم إخضاع أحكام المواريث في تونس مثلاً إلى المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة على اعتبار أن كلاهما مواطن له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات وأن دولة المواطنة لا تفرق بين الذكر والأنثى. وعندما اعترض بعضهم بوجود نصوص شرعية تحرم ذلك، اعتبر الرئيس التونسي (باجي السبسي) أن إقحام النصوص القرآنية في النقاش الدائر هو خرق لمفهوم الدولة المدنية المعتمدة في نظام الحكم في تونس. بالتالي، يجب لفت النظر هنا إلى أنه حتى لو خلصت النقاشات إلى تبني رأي أو قانون يتوافق مع الشرع في أمر من الأمور، لا يقال عنه تحكيم للشرع، إنما هو تحكيم لما يتوافق عليه الناس، وهو توافق مؤقت عرضة للتغيير إذا اقتضت الإرادة الحرة لغالبية المواطنين أو من يمثلهم ذلك.

وفي هذا اختلاف واضح مع نظام الحكم في الإسلام، حيث نجد أن تحكيم الإسلام هو أمر واجب بمجرد توفر السلطة القادرة على تحقيق ذلك، بغض النظر عن كون غالبية الأفراد من المسلمين أم من غيرهم، راغبين به أو كارهين له. وقد أوجب الإسلام على الجميع الرجوع إلى حكم الشرع عند وجود نزاع أو خلاف بين الناس بغض النظر عن الأكثرية المؤيدة أو المعارضة. والنصوص في هذا المجال أكثر من أن تحصى في هذا المقال، كقوله تعالى (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)[2]، وقوله (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [3] ، وقوله (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [4].

على صعيدٍ آخر، فإن المدقق في واقع الدولة المدنية -دولة المواطنة- يجدها متناقضة مع نفسها، فهي تفرض "حيادية" الدولة وخضوعها حصراً للعقد الاجتماعي الذي يتم التوافق عليه بين مجموع الأفراد، والذي يمكن أن يتغير مع الزمن. ولا يصح – بحسب هذا المفهوم - فرض أي تصور مسبق على المجتمع. يقع التناقض هنا كون هذه الحيادية المفترضة هي حيادية غير حقيقية، حيث نجد الدولة المدنية –دولة المواطنة - منحازة ابتداء للتصور العلماني عن الدولة، الذي يعتبر أن افتراض وجود خالق للحياة يعني من يؤمن به وحده فقط، وهي علاقة روحية صرفة، شأنها فردي لا ينبغي تجاوزه إلى تنظيم شؤون الناس، لأن العلمانية تقوم على أساس فصل الدين عن الدولة. كما تصر العلمانية على تجاوز القيم المطلقة، ولا تحبذ النقاش فيها، لأن نهاية ذلك يعني محاولة الوصول إلى المطلق والتسليم به - في حال الاقتناع به- ما يقيد الإرادة الحرة المرتبطة بدينامية الحياة والمتكيفة مع الأشكال المختلفة دائمة التغير فيها. هكذا تصبح العلمانية حجر الزاوية في الدولة المدنية -دولة المواطنة.

المسألة الأخرى التي يجب التنبه إليها في هذا البحث هو مغالطة اعتبار قبول أية دولة في المجتمع الدولي رهن بتجانسها مع المنظومة الدولية القائمة. فالدول تنشأ استناداً إلى عوامل ذاتية متعلقة بقدرتها على الوقوف على قدميها وكفاية نفسها وحماية كيانها، بغض النظر عن كونها دولة دينية أو مدنية أو أيديولوجية. وقد رأينا كيف تعايش العالم مع الاتحاد السوفييتي رغم أنه كان دولة أيديولوجية تناكف المعسكر الغربي وتحاول التوسع والانتشار في العالم. بل إن العالم الغربي نفسه قد تعايش مع دولة الخلافة -الدولة العثمانية- ردحاً طويلاً من الزمن، رغم أنها كانت دولة أمة تجمع الترك والكرد والعرب وغيرهم ضمن رعاياها وتعتبر الإسلام المرجعية لها.

خلاصة القول

إن الحديث عن نظام الحكم بالإسلام يجب أن يستند للأحكام الشرعية التي تتعلق بتنظيم شؤون الحكم في دولة الخلافة، وعلى ما يمكن من إقامتها فعلاً على أرض الواقع كونها النموذج الشرعي لنظام الحكم في الإسلام، لا عن كونها تتناقض أو تتوافق مع النظم الأخرى التي يرضى عنها الغرب ويدعو لها. ويعتمد هذا النظام عقد البيعة -لا العقد الاجتماعي المتغير- الذي يتم إنجازه على أساس الحكم بكتاب الله وسنة رسوله. وأن الخليفة عندما يصبح حاكماً بإرادة الأمة فإنه يرعى شؤون الناس حسب الأحكام الشرعية، على اعتبارهم رعايا يخضعون لسلطة الخليفة (الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)[5]، وهو يقوم بدوره برعاية مصالحهم ويحكم بالعدل والإحسان فيما بينهم، ويتبنى من الإسلام كل ما يلزمه للقيام بمسؤولياته المرتبطة بصيانة الأمة وتنفيذ أحكام الشرع فيها، بناء على النصوص المتعلقة بالوقائع والمشكلات لا بناء على رغبة الأكثرية أو الأقلية من الناس.

[1]   مقال نظام الحكم في الإسلام – أدباء الشام (https://bit.ly/2YRgkH0)

[2] سورة الشورى – الآية ١٠

[3]  سورة يوسف – الآية ٤٠

[4]  سورة النساء الآية ٦٥

[5]  أخرجه البخاري ومسلم (متفق عليه)

وسوم: العدد 819