إحياء سنن الإسلام وقواعده

سنن الإسلام وقواعده لا تنحصر في المسجد، ولا في أصناف العبادة من صلاة وصوم وحج، بل هي عامة شاملة لكل ما تعمه الحياة وتشمله الطمأنينة والسعادة، لأنها هي رسالة الإسلام الإنسانية ما بقيت الإنسانية.

وهي تبدأ من العقل البشري، لأنه المنظم لمدارك بني الإنسان، والمحرك لجوارحهم، والمتصرف – إيجاباً وسلباً - في عواطفهم وأهوائهم التي تنطوي عليها جوانحهم، فتحوطه بما يقيه الخطأ فيما يجب عليه من الحكم للحق على الباطل، والخطل فيما ينبغي له من إيثار الخير على الشر.

وتصحب هذه السنن والقواعد النفس الإنسانية - في جميع أدوار حياتها - فتملي عليها التصرف الحميد في كل ما يصدر عنها من قول وعمل في معترك الحياة، وفي مذاهب العيش، وفي تنظيم الحوائج والضرورات، وفي تعديل الميول والأهواء.

وهذه السنن والقواعد يقوم منها حارس أمين على المنزل والأسرة إذا اتخذت معياراً للأقدار، ومقياساً في الحسنات والأوزار، وإذا عنى الوالدان بأن يسيرا عليها في أخلاقهما وتصرفاتهما، ويكونا قدوة للبنين والبنات في معرفتها من طريق العادة والعمل، والتزامها في السر والعلن.

ومن هذه السنن والقواعد ما لو تعامل به الجار مع جيرانه، والتاجر مع عملائه، والأقارب مع أنسبائهم وأصهارهم، وصاحب العمل وعماله، والموظف مع أصحاب المصالح في مصلحته، ورئيس المصلحة مع موظفيه، لكنا جميعاً - بسبب العمل بهذه السنن والقواعد - أشبه بالأسرة الواحدة في المحبة والمودة، حتى لو كان عددنا في هذه المملكة عشرين مليوناً، بل كنا نكون – لو عمل جميع المسلمين بها - كالأسرة الواحدة في المحبة والمودة ولو كان عدد المسلمين خمسمائة مليون.

سعادة عظيمة هي في متناول أيدينا، ولكنا لا نعرفها، لأن الطريق الحقيقي والعملي لمعرفتها هو طريق التعامل بها، وما يؤسف له أن التعامل بها بطل من ألف سنة وأكثر، وكان معمولاً بها في البطون الثلاثة الأولى في الإسلام وهي زمن الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان، وهم الذين صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيهم: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» وكان قرنه خيراً من القرن الذي تلاه، وكان القرن الذي تلاه خيراً من الثالث، والقرون الثلاثة - بنص الخبر المحمدي الصحيح - هي خبر قرون الإسلام، لا لأنهم اكتسبوا ذلك من زمنهم، فالزمن في نفسه متشابه به قبل آدم وبعد آدم، وقبل محمد صلى الله عليه وسلم وبعده، وقبل القرون الثلاثة من أجيال الإسلام وبعدها. بل الخير الذي امتازت به الأجيال الثلاثة الأولى في الإسلام جاءهم من إتباع هذه السنن والقواعد وعملهم بها، وكان الموفق من الله من أبنائهم يتعلمها من الآباء بالقدوة والمشاهدة والعمل. وزمن الدولة الأموية الذي رسم أكثر الناس صورة له في أذهانهم كاذبة مشوهة. كان ثالث هذه الثلاثة، وحتى الذين كانت فيهم رجولة وشهامة وحزم وتربية من خلفاء صدر الدولة العباسية هم الذين تربوا في زمن دولة بني أمية. ثم أخذ الناس يتهاونون بهذه السنن والقواعد من طريق القدوة أيضاً ـ كما كانوا يعملون بها بالقدوة - حتى تناسوها وتناسوا أكثرها، والموجود منها الآن عند أصلح الناس يكاد يكون من أشكال هذه السنن والقواعد ومن مظاهرها، وقلما أبقى الناس على شيء من حقائقها. والذي ضاع بتاتاً ونسي بالمرة تسعمائة جزء من الألف، والذي بقيت مظاهره وأشكاله لا يبلغ مائة من الألف. وهو في نفسه من الشكليات التي لا أثر لها في النفس الإنسانية إلا من طريق العرض، أما جواهرها وحقيقتها التي تسمو بالنفس الإنسانية فهي التي أهملت ونسيت.

يقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي: «من أحيا سنة أميتت بعدي كان معي في الجنة».

وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أن شريعته وسنته ستحتاج إلى من يحييها ويقيمها في عصورنا، كما احتاجت إلى من يعين على تقريرها وتعميمها والدعوة إليها ابتداء في القرون الثلاثة الأولى، فبشر صلى الله عليه وسلم العاملين على إحياء سنن الإسلام وقواعده في عصورنا بأنهم كالغيث الذي يحيي الله به الأرض وأنهم يضارعون في الخير ذلك الغيث الأول الذي أحيا الله به الإسلام في القرون الثلاثة الأولى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي أيضاً: «إنما مثل أمتي كمثل الغيث لا يُدرَى أوله خير أم آخره». وإذا كان لإحياء سنن الإسلام وقواعده هذه المنزلة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا شك أن العاملين على إحيائها مثوبون على عملهم كثواب العبادة، بل إن هذا من نوع الجهاد، والجهاد أفضل العبادات، ويقول نبينا صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه: «أن العبادة وقت الهرج والفتن كهجرة إليّ».

هذه الملايين التي أسلمت في صدر الإسلام في مختلف الأقطار لم تسلم بالجدل والمناظرة، لأن الإسلام يكره الجدل ويكتفي من المناظرة بعرض الحق على فطرته ونقائه. ثم يرى الأغيار تطبيق ذلك في معاملة المسلمين الأولين وأخلاقهم، فلا يخامرهم شك في أن هذا هو دين الفطرة، وأنه الخير المحض المجرد الذي تعرفه الإنسانية وتنشد من ينهض به ويجعله دستوراً لأبنائها.  

والعمل بالخير المحض، وبالحق النقي، أمنية لجميع الأجيال، وكان العمل بهما محتاجاً إلى سنن وقواعد تبينهما تبييناً حازماً واضحاً مركزاً، وإلى أمة تجرب العمل بهما، فيتجلى أثر ذلك من الطمأنينة والسعادة في المجتمع، فتقبل الأمم عليه.

وكانت مهمة الإسلام ورسالته إعلان هذه السنن والقواعد وكان واجب المسلمين العمل بهما، والتخلق بأخلاقهما. وبهذا عم الإسلام أقطار الأرض المعروفة في زمن ظهوره. وكان الإسلام في زمن ظهوره غريباً، وبمعرفة سننه والعمل بها زالت غربته. وصح بعد ذلك ما أنبأ به نبينا صلى الله عليه وسلم من أن الإسلام يعود غريباً كما بدأ، معنى ذلك أن سننه وقواعده تعطل وتهمل، فيأتي على الإسلام زمان يحتاج فيه إلى من يزيل غربته بإحيائها، وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ورغب فيه بحديث الترمذي الذي أوردناه آنفاً وهو قوله صلوات الله عليه: "من أحيا سنة أميتت بعدي كان معي في الجنة".

وبعد فإن لإحياء سنن الإسلام ثلاث مراحل: الأولى الدعوة إلى ذلك بإخلاص وحسن نية وابتغاء وجه الله الكريم، وأرجو أن تكون هذه الكلمة من هذه المرحلة.

المرحلة الثانية تفرغ أهل العلم من الأزهريين والجامعيين لتتبع هذه القواعد واستقصائها، وتحرّي ما قاله سلف الأمة في أحكامها، وفهم ذلك وهضمه، والنظر إليه من ناحية ما نرجوه لمجتمعنا من السعادة بهذه السنن والقواعد، وما يترتب عليها من الطمأنينة والرضا العام الشامل.

والمرحلة الثالثة العمل بذلك وتربية المسلم نفسه على العمل بسنن الإسلام في عقله ونفسه وبيته وأسرته وبيئته ومحيطه وكل ما يتصل به.

بهذا نكون مسلمين، وبهذا يكون البعث الإسلامي، وهذا هو الوجه المشرق الجميل للإسلام، ويستحيل على غير المسلمين أن يروه وأن لا يحبوه، فكيف بالمسلمين من خاصة وعامة وتابعين ومتبوعين.

إن المسلمين بانسلاخهم الآن عن سنن الإسلام التي فيها سر جماله قد أصبحوا حجاباً بين الإسلام ومعرفة الأمم به، فهي لا ترى من الإسلام إلا ما عليه المسلمون. والذي عليه المسلمون اليوم غير الذي كان عليه المسلمون الأولون عندما عرفوا الإسلام من الرسول الذي جاءهم به، وعندما عرفه الذين جاءوا بعدهم من السيرة التي كان عليها تلاميذ الداعي الأول صلى الله عليه وسلم والذين بقوا منا على عهد الوفاء للإسلام اكتفوا منه بنظام عبادته، وانجرفوا مع تيار المجتمع في نظام المجتمع من جهة التعامل والتطبع والتخلق بما يسمو بالنفس إلى المثل العليا، أو ينحط بها إلى المنافع الوقتية الزائلة، فصرنا جميعاً ممن يؤثرون العاجلة وإن كانت تافهة، على الآجلة وإن كانت أجل وأبقى وأرضى لله عز وجل.

كان الإسلام دين الإنسانية والسنن والقواعد التي جاء بها هي سنن الإنسانية العليا والمدنية الفاضلة. وقد استجابت لها الأمم يوم كانت لا تزال كما هي وبقدر ما هي، وكان من نتائج ذلك وثمراته ما نقرأه في التاريخ عن سيادة أسلافنا وسعادتهم وازدهار العمران والعدالة والطمأنينة بهم. ثم أخذ الإهمال والتهاون والتناسي ينقص هذه السنن والقواعد فتذبل خضرة أغصانها، إلى أن تحولت بقاياها القليلة من أغصان زمردية يانعة الفاكهة والزهر، إلى حطب اقتنع من يراه بأنه لا يصلح إلا للوقود. وما على الإسلام ذنب في شيء من هذا التحول، ولكن الذنب فيه على المسلمين، ولا أحصره بمسلمي جيلنا، بل هو يعم كل من ساهم في هذا الإهمال من مسلمي الأجيال بعد البطون الثلاثة الأولى.

وأعود فأذكر صالحي المسلمين من أزهريين وجامعيين وسائر المثقفين بقول نبي الإنسانية ورسولها الأعظم صلى الله عليه سلم: «من أحيا سنة أميتت بعدي كان معي في الجنة». وقد يظن من يأنس في نفسه الميل إلى المساهمة في هذا الخير أن إحياء سنن الإسلام وقواعده عمل علمي يتم بالبحث عنها في كتب الحديث المحمدي والشريعة الإسلامية وسيرة السلف وتدوين ذلك ونشره في مقالات ورسائل وكتب. ولا أنكر أن هذا من خير ما يعمله أهل العلم والشباب الإسلامي المثقف غير أن طريقة السلف في هذه الناحية هي أنهم كلما عرفوا شيئاً من ذلك عملوا به في أنفسهم، وأرشدوا إليه إخوانهم وأحبابهم وذويهم، فإذا انتقلوا إلى غيره من طريق العلم انتقلوا إليه وهم عاملون بما عرفوه من قبل. وقد حدثت قراء الفتح فيما مضى بما رواه حماد بن زيد وغيره عن عطاء بن السائب أن أبا عبد الرحمن السلمي قال: أخذت القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الآخر حتى يعملوا ما فيهن. فكنا نتعلم القرآن والعمل به. وأنه سيرث القرآن بعدنا قوم لا يجاوز تراقيهم، بل لا يجاوز هاهنا (ووضع يده على حلقومه).

وسوم: العدد 859