أجهزة الاستخبارات والمعلومة الموؤدة .. عند قوم لا يعلمون

تشكل أجهزة الاستخبارات ركنا ركينا في بناء الدولة الحديثة . وهي تتحمل مسئولية نبيلة في الدفاع عن أمن الدولة بأقانيمها الأربعة : الأرض والشعب والنظام العام والحكومة . هي في الحقيقة قرون الاستشعار ، أو العين المبصرة والأذن اللاقطة لكل ما يلحق ضررا عاما بالبناء العام .

السمعة السيئة التي اكتسبتها أجهزة الاستخبارات في عوالمنا لا تلغي دور هذه الأجهزة النبيل . وانحراف بعض هذه الأجهزة عن مهمتها كما نشاهده لا يسمح لأي حكم وطني رشيد أن يفكر ببناء دولة من غير بناء مثل هذه الأجهزة على أساس قويم .

في الحديث الشريف يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم " ولا تجسسوا ولا تحسسوا " وقال شراح الحديث : التجسس أن يطلب الإنسان الخبر لغيره ، والتحسس أن يطلبه لنفسه . على سبيل الفضول : يريد أن يعلم : ماذا تعشى جاره بالأمس . وتذهب نفسها لهفة لتعلم : هل أصبحت جارتها وشعرها رطب هذا الصباح ؟!

ولفظة الجاسوس سيئة الدلالة في اللغة العربية . وليس صحيحا ما ذكره الراغب الأصفهاني في أحد السياقات أن دلالة الكلمة الإيجابية أو السلبية تتحدد بمقصد المتلبس بها . نقول جاسوس العدو . ونقول " عيننا " هكذا لقبه العرب والمسلمون، عيننا على الدولة الفلانية ، أو عيننا عند بني فلان .

هذه المهمة الصعبة والنبيلة معا أصبحت مع تقدم العصر وشدة حاجة الدولة إليها علما. علم أكاديمي تشتبك فيه كثير من العلوم . ويشترط للمتلبس بهذا العلم الكثير من الصفات النفسية والعقلية وأهمها النبل والمروءة والذكاء والنجابة وبعد النظر واتساع الأفق . ولن أحاول ولا أريد أن نزج أنفسنا في متاهة المقارنة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون ..

في بعض المعلومات الصحفية المتسربة حول العالم أن كثيرا من زعماء وقادة العالم ما زالوا يعتمدون ، بشكل ما ، على بعض ذوي خصوصيتهم من المنجمين والعرافين.

لعلكم تذكرون قول أبي تمام في الرد على المنجمين الذين كانوا حول المعتصم فأفادوه وهو مقبل على شتاء أن عمورية لن تفتح إلا حين نضج التين والعنب ..

والعلم في شبه الأرماح لامعة .. بين الخميسين لا في السبعة الشهب

يرد في ذلك قول المنجمين ، فيقررأن العلم فيما ينطق الرمح لا ما ينطق النجم ، ويزيد فيقول عن جيش العدو الذي نضج قبل نضج التين والعنب :

ستون ألفا كآساد الشرى نضجت .. جلودهم قبل نضج التين والعنب

كل ما سبق كان مقدمة لا بد منها لتقرير أهمية أجهزة الاستخبارات ، وشرف مهمتها الأصلية ، وحاجة الدول إليها ، ومشروعية الكلف الباهظة ، والتضحيات الكبيرة ؛ وكل ذلك فقط لأمرين اثنين : السبق إلى المعلومة . ثم توظيفها في استشراف أفق القرار الصائب الرشيد فيما يجب .

والذي أريد أن أؤكده هنا أن المعلومة مهما صغرت في وقتها هي مادة أولية لصنع القرار الرشيد صغر أو كبر . وأن كل قرار لا يتخذ بناء على قاعدة معلومات تنير جوانبه إنما هو " خبط عشواء " يعني تحرك ناقة أصابها العشا فهي لا تكاد تستبين لنفسها طريقا .

وأن المعلومة السياسية الاستخبارية بأبعادها ليست مادة ثقافية كبعض الأقوال الخالدة لأبي تمام والمتنبي وابن المقفع أو لشكسبير أو لكافكا أو لدستويفسكي أو لمكسيم غوركي . والمعلومة الاستخبارية ليست مادة للتباهي أو للسبق الصحفي . وهي في أغلب الأحيان ليست مادة جماهيرية أو للكسب الجماهيري .

قيمة المعلومة السياسية في وقتها وفيما يستفاد منها . أو يبنى عليها من موقف أو قرار وما عدا ذلك فهي الجميلة الموؤودة التي سيسأل الله عنها وائدها...!!

وها هنا سيحط بنا رحله الجمال ليسأل :

كل المعلومات الاستراتيجية المهمة التي توفرت لقيادات المعارضة السورية الرشيدة ، أما كان فيها ما يقتضي إعادة نظر في موقف ؟! أو السبق في اتخاذ قرار . بما في ذلك دخول الدولة الروسية على خط الثورة، واحتلالها سورية ، والعبث بمقدراتها . هل كانت الدعوة إلى التحول من معركة التحرر إلى معركة التحرير ، مجرد شعار لغوي جميل . نحن قوم تفتننا الصياغات اللغوية ؟!

تسع سنوات خبرنا فيها " البير وغطاه " وعرفنا فيها عامرا وغامرا ومازنا وسلولا وحاشدا وبكيلا ..

ثم ما زالوا يضربون نفس اللحن على نفس الوتر ..

كما يفعل بشار الأسد حذو القذة بالقذة ؟!

أليس هذا كثيرا على العقل يا عقلاء السوريين ..؟!

ثم هل ما سنجنيه من وراء فرق المنصات يستأهل أن نقدم من أجله مع كل صباح المزيد من القرابين دماء وأشلاء ومعذبين ؟! ..

جد مثلي لا يشتري دستور المنصات ، وكل ما سينبني عليه من معادلة المجاهيل السبعة ، بقلامة ظفر طفل سوري واحد ، وكنت سأقول بقلفة حمامة طفل واحد ثم استحييت .

لعلكم تستحيون ..

أي تستبقون ففي بقية الله خير .

كلام له خبيء لا أقدر عليه ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 860