الثورة السورية وأخلاق القرن الـ21

تحفر الثورة السورية أسئلتها عميقا في الوعي العربي. تأتي من النواحي الأصعب وتحمل المسائل الأعقد، فتتحدى العقل والفكر بعدما اسقطت السياسة والممارسة اليومية والصور النمطية المسبقة الرد الغربي المتوقع على قصف النظام السوري لغوطتي دمشق، أو ما اصطلح في الأيام الماضية على تسميته بـ"الضربة"، يضع الثورة السورية في ضوء جديد وبداية مرحلة مبهمة تتشابك فيها المصالح الخارجية والحسابات الاقليمية والدولية. وهذا كله مما سبق أن شهده المواطن العربي في فلسطين ولبنان والعراق في العقود القليلة الماضية. استثنائية التدخل الغربي في سوريا اليوم تأتي من تصادم عدد كبير من المفاهيم التي أسس النظام السوري نفسه على استغلالها، وفي الوقت ذاته، تمثل اشكاليات جدية للثورة. واحدة من العلامات الفارقة للموقف من الثورة السورية، كانت وقوف اليسار الغربي والعربي، من نعوم تشومسكي مروراً بالحزبين الشيوعيين الفرنسي والإسباني وصولاً إلى الأحزاب العربية ضد الضربة الامريكية.·      وذهب تشومسكي في تصريح لصحيفة "هوفنغتون بوست" إلى اعتبار الضربة جريمة حرب المفارقة أن اليسار التقليدي التقى هنا مع اليمين المتطرف في الاعتراض على أي تحرك عسكري غربي ضد قوات بشار الأسد التنظيمات التروتسكية تميزت هنا أيضاً بمساندتها للثورة السورية المسلحة منددة بالنظام السوري وبكل القوى الأجنبية المتدخلة في الصراع، من "حزب الله" اللبناني إلى الولايات المتحدة وروسيا. مواقف اليسار الغربي والعربي (باستثناء التروتسكيين، ربما) تأتي كنتيجة طبيعية لأعوام طويلة من الأزمات المتنوعة والتشبث برؤية متقادمة إلى العالم بحيث يبدو أن الرأي السليم هو في معارضة أي خطوة تتخذها الولايات المتحدة. هذه السطحية في قراءة الواقع لا تتلاءم بحال مع التعقيد الشديد الذي تحمله الثورة السورية وأسئلتها، الأخلاقية في مقامنا هذا. واحد من المشكلات الاخلاقية هذه تتلخص في التباس تأييد الضربة الاميركية لدولة عربية مع الادراك المسبق ان أبرياء سيقتلون فيها وانها لن تؤدي إلى الاطاحة بالنظام الدموي في دمشق وانها ربما تفتح بابا لتداعيات شديدة الخطر في المنطقة عادة ما يستسهل السياسيون والكتاب اللجوء إلى اجابات تقتصر على اللونين الأبيض والأسود. فالضربة مرحب بها، من قبل أكثرية المعارضة السورية، لأنها ستؤدي إلى اضعاف نظام الأسد فيما يضعها مؤيدو النظام في سياق المؤامرة العالمية على محور المقاومة وضمن مخطط تفتيت المنطقة تمهيدا لتسليمها إلى الهيمنة الاسرائيلية الخيار الثالث الرافض للضربة والرافض في الوقت ذاته لبقاء حكم الأسد، يبدو أصحابه كمن يحاول الحفاظ على طهره الأخلاقي في عالم لا يعترف أصلا بالطهارة وبعد سفك كل هذه الدماء السورية، أصبح ادعاء التمسك بالاخلاق، بمعنى ادانة العنف من أنى جاء، يشير إلى نقص اخلاقي بدوره يذكّر هذا بما ذهب اليه ليون تروتسكي في كراسه (أخلاقنا وأخلاقهم) حيث اظهر تهافت المنطق الذي يساوي بين المتناقضات. بين الليبراليين والشيوعيين، من وجهة نظر الفاشيين. وبين الديموقراطيين والديكتاتوريين، من وجهة نظر الستالينيين. الخ. المشكلة ليست في وجود منزلقات اخلاقية في المقاربة "الثالثة". المشكلة هي ان الانحياز الاخلاقي يجد دائما ما يبرره، سواء بالمصالح او بالانتماءات المسبقة. عليه، تسقط الاخلاق في هوة النسبية وصحيح ان الاخلاق بصفتها نتيجة للتطور والممارسة الاجتماعيين، ليست منظومة من المعايير المطلقة، لكن التعامل النسبي معها يتطلب وضعها في سياق العالم المعاصر. والحديث عن المصالح الجيواستراتيجية التي تملي على الادارة الاميركية مهاجمة قوات الأسد، لا يصح أن يخفي الحقيقة الأكبر والقائلة إن قوات الأسد ارتكبت جريمة نكراء ذهب ضحيتها آلاف الأبرياء بين قتيل وجريح - وإن الدمار الذي سيصيب سوريا جراء الضربة يتحمل مسؤوليته النظام في الدرجة الأولى لرفضه أي تسوية سياسية مع المعارضة. ومرة ثانية، يتعين النظر إلى الدوافع التي حملت اليسار الغربي (والتي تختلف اختلافا شديداً في نهاية الحساب عن دوافع اليساريين العرب) على التضامن مع نظام بشار الأسد بذريعة منع تكرار مأساة العراق والغزو الأمريكي. فأخلاق القرن الحادي والعشرين القائمة على التعاون العالمي في مواجهة الندرة، ومشكلات البيئة والطاقة والفقر ودور المنظمات غير الحكومية في تسوية التناقضات الاجتماعية وتحبذ التسويات السياسية، تنظر إلى عالم مختلف تماماً عن العالم الذي ما زالت سوريا تعيش فيه. أي عالم الثورات والحروب الأهلية والأنظمة الاستبدادية ولئن كان بعض أسباب الثورة يرتبط بتغيرات عميقة في البنية الاجتماعية والاقتصادية في البلاد - وعدم قدرة (النظام السلالي) الذي أسسه حافظ الأسد على التعامل معها بغير العنف، فإن العالم الذي رفض مساعدة الشعب السوري على تحقيق طموحاته المشروعة، يبدي اليوم بامتناعه عن القيام بأي عمل، سواء إغاثي أو عسكري أو دبلوماسي، مزيداً من التجاهل لجرائم النظام بادعائه رفعة أخلاقية تؤدي فقط إلى استمرار المذبحة.

وسوم: العدد 878