مفهوم الجريمة والعقوبة، بين الإسلام والمجتمع الأوروبي

[ باختصار وتصرّف من كتاب نظرية العدل، لجمال البنا ]

3 من 4

فهم الإسلام للجريمة والعقوبة:

تختلف نظرة الإسلام إلى الجريمة والعقوبة عن النظرة الأوروبية التي عرضناها في الحلقة السابقة اختلافاً تاماً. فالإسلام يقوم على الإيمان بالله تعالى، فهو الرب الرحمن الرحيم السلام الرقيب الحق... وكل أحكامه منزّهة عن النقص والظلم.

ومن منطلق العدل يتعامل الإسلام مع الجريمة والعقوبة، فهو يدقق في وسائل إثبات الجريمة حتى لا تنتهك حرمة بغير حق، فقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه".

فلا يقام حدٌّ إلا بانتفاء الشبهة، وعامة الفقهاء يأخذون بحديث عبد الله بن مسعود قال: "ادرؤوا الحدود بالشبهات". قال الحافظ: إسناده صحيح.

وما ثبت من جريمة تستحق الحد ووصلت إلى القضاء فلا شفاعة. روى أبو داود والنسائي، وحسّنه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعافَوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حدّ فقد وجب".

وإذا ثبتت الجريمة ووجب الحد فلا يجوز التوسّط من أجل الإعفاء من إقامة الحد، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضادّ الله في أمره".

وقبل مرحلة إثبات الجريمة على مرتكبها، بل قبل وقوع الجريمة، يهيّئ الإسلام الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تسدّ منافذ الجريمة، مثل التكافل الاجتماعي والاقتصادي، والمساواة في الفرص والحقوق والواجبات، والشورى في السياسة، والتشجيع على الزواج ومنع أسباب الفتنة والسقوط...

وبقدر ما تتوافر هذه الظروف يمكن تطبيق الآليات الإسلامية في العقوبة، فمن غير المنطقي أن تطبق عقوبات وُضعت لمجتمع ذي مواصفات خاصة، إذا لم يوجد ذلك المجتمع. وقد يمكن في هذه الحالة الأخيرة أن تكون العقوبات سلاحاً في يد الطغاة وأداة ضد الضعفاء والمحرومين، أي أداة لتعميق الظلم وليس لتطبيق العدل. وليست هذه افتراضات نفترضها من تلقاء أنفسنا، إنها "سوابق" عملية ثابتة في التاريخ الإسلامي عندما أوقف عمر حد السرقة عام المجاعة، وعندما كاد أن يبطش برجل عندما طلب إقامة الحد على غلمانه للسرقة فقد اتضح له أن يُجيعهم.

وعندما يوجد المجتمع طبقاً لما قرره الإسلام، وبعد أن تتخذ كل الضمانات التي أشرنا إليها لإثبات ارتكاب الجريمة، فإن العدالة الإسلامية توجب إيقاع العقوبة دون تهاون، ولا يكون هناك محل لأي شفاعة بعد أن قال الرسول صلى الله عليه وسلم قولته التاريخية المشهورة: " لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها". والحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

ذلك أن توقيع العقوبة بعد استكمال موجباتها، هو الوجه الآخر لإعفاء المتهم حين لا تثبت الجريمة، وكلاهما وجه لإقامة الحق والعدل ونفي الظلم.

وسوم: العدد 881