تظل عيداً ديمقراطياً .. مهما كانت سيئات الانتخابات الأميركية

لم يتابع الشعب الأميركي والعالم حدثا منذ الحرب العالمية الثانية مثلما تابعا الانتخابات الأميركية الحالية لانتخاب الرئيس السادس والأربعين . إنها مثلما وصفت " انتخابات كوكب الأرض " . ونقدر أنها ما كانت لتنال هذه المتابعة التي تتنوع فيها المشاعر والتمنيات تنوع المتابعين لولا شخصية ترامب الإشكالية الغريبة الصفات التي لم تتردد في الخروج على الأعراف والتقاليد السائدة في الانتخابات الأميركية منذ 250 عاما . وأقوى مظاهر خروج ترامب إصراره العنيد على أن يكون الفائز بها بأي وسيلة ولو غير مشروعة ، وتسرعه في اللجوء إلى المحاكم ، وإلحاحه لوقف فرز الأصوات المـتأخرة التي جاءت بالبريد ، وتحذيره لبايدن من المبادرة إلى إعلان فوزه بالانتخابات حتى ضاق به صدرا بعض الجمهوريين . ومنها أيضا الإلماح إلى احتمال ألا يغادر البيت الأبيض إذا فاز بايدن . كل هذه التصرفات هبطت بأميركا هبوطا غائرا إلى درك دولة من العالم الثالث حيث لا قيمة لنتيجة الانتخابات ، ويسهل رفضها والانقلاب عليها مثلما حدث في الانتخابات الفلسطينية التشريعية الفلسطينية في 2006 ، والانتخابات المصرية الرئاسية في 2012 . تصرفات ترامب وعباراته في تغريداته جعلت أميركا مسخرة العالم ومفجرة نكاته  إلا أن النظام الأميركي الانتخابي ما زال صامدا قبل إعلان الفائز ،وسيصمد حتى إعلانه وبعد إعلانه ، وستختفي كل شذوذيات ترامب وغرائبياته اختفاء زوبعة في فنجان . ومن مظاهر صمود هذا النظام حتى اللحظة : 

أولا : فرز الأصوات مازال متواصلا دون أي تأثر بصراخ ترامب وتهديداته . 

ثانيا : وقوف كبريات وسائل الإعلام الأميركي في خندق الدفاع عن النظام  . كتبت "فورين أفيرز"  : " لغة الكراهية عند ترامب لها جذور عميقة في التعصب الديني الأميركي " ، ولعلها تلمح إلى كاثوليكية بايدن التي لا ترضي ترامب البروتستانتي . وما كتبته أيضا صدى لقول بايدن إن منافسيه خصوم لا أعداء . 

ثالثا : جمهوريون بارزون لم ينتخبوا  ترامب  ، وهو ما يعكس اطمئنانهم إلى أنهم في بلد تحكمه قوانين ديمقراطية لا يستطيع فيه صاحب أعلى منصب ، رئيس الدولة ، أن يؤذي مخالفيه أصغر إيذاء . فالجمهوري فيل سكوت حاكم ولاية فيرمونت صوت لبايدن . 

رابعا : الاحترام الذي ساد لحرية الولايات في الإعلان عن نتائج الانتخابات في الوقت الذي يلائمها .  

خامسا : الإصرار العام على أن التصويت الانتخابي حق دستوري لأي مواطن ، ومن ثم  يجب انتظار معرفة اختيار صوته .  

وكل تلك المظاهر الإيجابية لمناصرة الديمقراطية والنظام الانتخابي الذي تتبعه لا تحدث في أي دولة مثلما حدثت في أميركا . وأدت شخصية بايدن الرصينة المتأنية المناقضة كليا لشخصية ترامب الانفعالية المتهورة إلى تعزيز تلك المظاهر . وهو فوق رزانته وتأنيه ذو خبرة في السياسة  عمرها خمسون عاما ، وأهمها نيابته لأوباما . ما من نظام بشري مثالي مائة بالمائة ، وكل ما هو بشري تظهر قيمته بالقياس إلى سواه من أفعال البشر وأحوالهم ونظمهم . وهذه حال النظام الانتخابي الأميركي رغم كثرة تعقيداته الإجرائية وطولها ، وما تكلفه من أموال كثيرة ، وما تسببه من حرق لأعصاب المتنافسين وأنصارهم . ومع قسوة هذه التعقيدات وأهوالها فإنها مدرسة كبرى في التربية لتحمل مشقة النجاح ، وقدوة لكل المواطنين في أن من أراد العسل يجب أن يهيء نفسه للسع النحل . ولا وجود لهذه المدرسة في عالمنا العربي حيث الحكم وراثة أو بانقلاب . ولا غرابة في أن يقول عضو شيوخ أميركي إن النظام الديمقراطي الأميركي ،  الذي يجسده في بعض وحوهه نظام الانتخابات ،   أعظم إنجاز لأميركا حتى من الوصول إلى القمر . وقوله منطقي صحيح ، فهذا النظام هو الذي صنع الإنسان الطامح إلى الوصول إلى القمر ، والصانع لآلية هذا الوصول .  

واستنتاجا : تظل الانتخابات الأميركية  عيدا ديمقراطيا للأميركيين أن يفخروا به باستثناء  ترامب  وزمرته وأنصاره . 

وسوم: العدد 902