منهج الحسن ومنهج الحسين

واجه الحسنان رضي الله عنهما وضعا سياسيا مشابها، أبو عبد الله مع يزيد، وأبو محمد – قبل ذلك- مع معاوية، لكن كل واحد منهما عالجه بطريقة مختلفة، انحراف عن الخلافة الراشدة، سياسات بعيدة عن صفاء الإسلام ومقاصده، دعوات دنيوية تستصحب الجور... عاش السبطان في خضم تلك الأجواء، بويع الحسن بالخلافة بعد وفاة والده، وكانت بيعة شرعية لا تشوبها شائبة ، ومن مثل الحسن لتلك المرحلة العصيبة وهو الحكيم الحليم الذي تربى في حجر النبوة وبيت الحكمة والشجاعة والخصال الكريمة؟ ارتضته الأمة والتفّت حوله خاصة في العاصمتيْن الدينيتيْن مكة والمدينة ، لكن الساحة ما زالت آنذاك تجترّ ذيول الفتنة الكبرى، وكان زعيم المعارضة السياسية – معاوية بن أبي سفيان – مصرّا على مطالبه، وكوّن حزبا في الشام لم يكن فيه من الصحابة إلا قلة قليلة، بل ربما غلبت عليه الدهماء ومن كانوا حديثي عهد بالإسلام، ولاحت في الأفق نذر الحرب الأهلية، فكان الحسن أمام اختبار مصيري عسير... بعد ذلك بسنوات وجد الحسين نفسه أمام موقف أشد حرجا، فالخليفة هو يزيد بن معاوية، لا تتوفر فيه صفات الحاكم المناسب لفترة يتوافر فيها الصحابة بكثرة، وتميّز برقة الدين وظلم الناس، فأثار ذلك السبط الثاني ورفض السكوت والرضوخ.

هكذا كان الحسنان أمام تحديات كبرى وجب  أن يتخذا منهما موقفا،  أما الحسين فرأى أنها قضية حق وباطل وانتهى الأمر، فقام لنصرة الحق من غير تحليل عميق للوضع القائم أو دراسة للتوازنات السياسية ونتائجها، بل نهاه عن الخروج لمواجهة يزيد أصحابُ العقول الراجحة والتجربة الطويلة من محبيه وأفراد أسرته أمثال ابن عباس رضي الله عنهما، لكنه أصر على نمط واضح: حق يقابله باطل، ومعادلة ليس فيها تفاصيل، خرج بجيشه القليل فكان ما كان، مات شهيدا رضي الله عنه وبقي الباطل على حاله.

 أما الحسن فأخذ بالتروي واستشار ونظر في الأمر من كل الجوانب وانتهى إلى أن من الحكمة تحاشي الصدام بعد الأزمة الدامية العصيبة التي مرت بها الأمة ومات فيها أفذاذ من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم على رأسهم الخليفة الرابع، فتنازل الحسن عن الكرسي ونتج عن ذلك الاستقرار السياسي واجتماع كلمة المسلمين وعودة الفتوح بقوة، وقد صدق فيه قول جده صلى الله عليه وسلم: "إن ابني هذا سيد وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ"(رواه البخاري)، وقد استشهد الحسن ذاته بهذا الحديث عندما عرض عليه معاوية رضي الله عنه الصلح، و سمى المسلمون تلك السنة التي اجتمعت فيها كلمتهم بعد فترة من التمزق والنزاع "عامَ الجماعة"، نعم أخذت السياسة منعرجا آخر، ولم تعد الأمة على منهج الخلافة الراشدة لكن الذي تنازل له الحسن صحابي...ولا ننسى أن هارون عليه السلام سكت عن الشرك حفاظا على وحدة الأمة وأقره موسى عليه السلام على ذلك، كان سكوت هارون ظرفيا وليس مبدئيا لأن السامري أحدث فتنة كبرى في صفوف بني اسرائيل فخشي النبي الكريم أن يؤدي تدخله إلى التنازع الداخلي والاقتتال فاختار المحافظة على الوحدة ريثما يرجع قائدهم الأكبر ليعالج الأمر بحزم لا تنتج عنه فتنة، وهو ما حدث بالفعل لأن لموسى عند قومه مكانة تمكّنه من اتخاذ القرارات المناسبة دون خوف من فتنة محتملة.

ولعلّ هذا يشبه نظرة نوح عليه السلام وابنه لنفس الظاهرة – الطوفان –، هما نظرتان مختلفتان نتج عنهما تصرف معين، فأما الابن فحكم بالنظرة السطحية أن الطوفان ظاهرة طبيعية يواجهها بطريقة معروفة:"سآوي إلى جبل يعصمني من الماء" – فلم يعصمه، أما والده فنظر نظرة إيمانية عميقة:"لا عاصم اليوم من أمر الله"، أي الأمر أكبر من مجرد ظاهرة طبيعية ويحتاج إلى أدوات تحليل عميقة غير تلك لمعتادة عند عامة الناس.

إن السياسة فنّ رفيع فيه صلابة ومرونة وحكمة ونظر ثاقب وعمل بالمقاصد ونظر في المآلات وشجاعة ودهاء، فيه الثبات لكن لا مكان فيه للجمود...فهل نتعلم من التاريخ؟ لو تعلما منه لجنّبنا ذلك كثيرا من الهزات ولخرجنا من دائرة الصراع لنتبوأ مكانة الرقي والازدهار والتمكين في الأرض، لكن كثيرا من المسلمين لديهم ولع بتكرار أخطاء الماضي بسبب سوء قراءة التاريخ وعدم الاتعاظ بالتجارب الداخلية والخارجية.

وسوم: العدد 910