هل أنت ظالم .. سؤال من قاع الأنا وترسباته!

من نعم الخالق على المخلوق أن جعل النسيان نعمة رغم أنَّه للعلم آفة، ووقائع الأيام عالقة بالفعل في ذهن الإنسان لكن النسيان بمثابة الغشاوة، مثلها مثل السحاب تحجب السماء وهي مرفوعة وتحجب الشمس وهي مشرقة، وحيث هي غشاوة يستحضر المرء من خلفها بعض الذكريات وينسى الكثير منها وما يغيِّبه عقله الباطني، وحيث يبقى العلم وينمو بالمذاكرة الدائمة، تغيب الذكريات مع مرور الأيام وكرور السنين، وحيث يعيش البعض الواقع، ويمارسه، يعيش الأكثر على ذكريات الماضي وينسى واقعه، فيحلم مع الحالمين حيث لا مكان للأحلام الوردية في عالم رمادي، عالم عنوانه: (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) سورة الإنشقاق: 6، عالم فيه العمل قطب رحى الحياة وإلا انغرس في وحلها ولا منجاة يومئذ من باترات الدهر وشفرات القهر. 

 

ومع القول بالنسيان الإيجابي الذي لولاه لرقص المرء على صفيح ساخن، فإن بعض الحوادث المؤلمة تبقى غائرة في تلافيف الذاكرة تقفز إلى الواجهة كلما حدث ما يشابهها، ولعلّ أشدها وقعاً على الإنسان حوادث الظلم إنْ سقط في دائرتها البريء الذي يعيش المظلومية ويكتوي بنارها، فتراه يستذكرها كل حين ولا يكاد ينساها، بل وقسم منهم يحدث بها نفسه لكيلا تنمحي عن ذاكرته مستقدماً كل أدوات الألم، وهذا الطيف من المظلومين يريد للحدث أن يبقى حيّا حتى لا يصاب بمثله، أو أنَّ الظلم السابق له ذيوله المتلاحقة مثل فقد عزيز قُتل ظلما أو الإصابة بعاهة مستديمة لظلم وقع، أو خسارة مادية نتيجة فعلٍ ظالمٍ، وما إلى ذلك. 

وما من إنسان على وجه البسيطة إلا ووقع عليه الظلم، بسيطاً كان أو عظيماً، ولما كان للظلم الحاصل طرفان، فلابد من وجود ظالم، وبالمقابل ما من إنسان على وجه الأرض إلا ومارس الظلم بسيطا كان أو كبيراً إلا من عصمه الله، فالظلم أمر واقع حتى إن كانت قرارة نفس الإنسان ترفضه، ولكن مصالح الحياة وتدافعها وتضاربها تميل بهذا الإنسان أو ذاك إلى ظلم الآخر إن لم يتحصن بدرع الإيمان والتقوى. 

وكل منّا أمام مغريات الحياة أو مصاعبها يقوى أو يضعف، فإن قوي بالسلب استملك واستأثر واعتدى على حريم الآخرين إلا من عُصم، وإن ضعف ولم يحرسه وازع من نفسه مال إلى التجاوز على حريم الآخرين فيظلم نفسه ومن رماهم بسهم الظلم. 

ولأنّ الظلم مرارة ما بعدها مرارة، فإنه عصي على النسيان، شاخص للعيان، باعث على الغثيان، يجيش في صدر المظلوم موجه ويكتم على صدر الظالم جرمه، فلا الأول ينسى ولا الثاني بمأمن من دعاء المظلوم، وكل في فلك يسبحون ومستقرهم إلى الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. 

وحيث أن الظلم مرتعه وخيم، وللوقوف على مساوئه وتداعياته والتخلص من ربقته، صدر حديثا للفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي كتيب "شريعة الظلم" في 47 صفحة صادر عن بيت العلم للنابهين في بيروت ضم 75 مسألة شرعية و34 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، وقد تصدّر الكتيب بمقدمة للناشر وأخرى للمعلَّق مع تمهيد للمصنِّف. 

تجاوز الحد 

لا أحد يرضى بالظلم له أو عليه، لأن الظلم أمر قبيح تنفر منه النفس الرهيفة ويقابله العدل وهو أمر جميل تأنس إليه النفس الشفيفة، فالإنسان مفطور على حب الخير وبغض الشر، فالعدل من الخير والظلم من الشر، والظلم والعدل، والخير والشر، إنما هما أمران فطريان يقول بهما كل ذي روح عاقلة متعلما كان أو غير متعلم، وبتعبير الفقيه الغديري في تعليقه: "من موارد التقبيح عقلاً والتحريم شرعاً المعبَّر عنه بالظلم تارة والبغي بوجه وبالجَور بوجه آخر، وهو يقابل العدل والقسط"، ويضيف قائلا: "فالظلم قبيح ومذموم ومحكوم بكراهيته وقباحته في جميع صوره عند البشر كافة حتى عند مَن لا يخضع بدين ولا بقانون لأنه من القضايا التي قياساتها معها"، ولما كان ما حكم به العقل حكم به الشرع كما يقول الأصوليون: "فعلى هذا قبح الظلم تسمية عقلية فيحكم الشرع بحرمته بمكان الملازمة، فالتعابير العقلية تعادل بالمصطلحات الشرعية" كما يفيد الغديري. 

والظُلم كما في تعريفه كما يؤكد الفقيه الكرباسي: (إسم مصدر للجور وكل أمر حاد عن موضعه ليقع في غيره، ولا يختلف المعنى المصطلحي عن المعنى الفقهي إلاّ بقيد الشرعية)، فهو إذاً: (تجاوز عن الحد المشروع والعدول عن الحق)، ولأن حكم الشرع لاحق لحكم العقل، فإن الظلم يقع في دائرة العقليات كما يؤكد الفقيه الكرباسي ولذا فهو من المحرمات عقليا: (وجاء الشرع ليؤكد على ما ذهب إليه العقل، وبما إنَّ الإسلام أُسِّس على العدالة وتطبيقها وجاء لدحض الظلم والظالمين، فإن الآيات القرآنية في هذا الإتجاه كثيرة بلغت 292 مورداً موزعة بين الظلم والظالم والمظلوم بمختلف صيغها). 

والظلم حاله حال أي فعل له تبعاته على الذات وعلى الآخر، فظلم يرتفع بعودة الحق إلى نصابه وترسخ في قاع الذهن بعض ترسابته السلبية التي تتكفل عقارب الزمن بدفعها خلف حائط النسيان، وبعض يرتفع معها عين الظلم وتبقى آثارها السلبية النفسية، والبعض الآخر يبقى معها الظلم عينا ونفسيا، أو ماديا ومعنويا، من هنا كان وزر الظلم شنيعا إذا بقي بعينه وأثره، وإذا تحول إلى سنّة كان وزره على من سنَّه وعمل به ورضي به إلى يوم القيامة، وفقاً للحديث النبوي الشريف: (مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). 

ولعلّ أعظم ظلم وقع في التاريخ وقائمة تداعياته حتى يومنا هذا كما يؤكد المصنِّف: (هو الإنحراف عن الرسول محمد (ص) وآله المعصومين (ع) سواء في العقيدة أو الحكم لأنه أدى إلى انحرافات عظيمة) وهو جانب من الردة التي أخطرنا القرآن الكريم بها: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) سورة آل عمران: 144. 

ومن الظلم العام الذي يأخذ بتلابيب العباد وتخوم البلاد هو حكم الظالم بغض النظر إن كان يحكم بقوانين السماء أو دساتير الأرض، لأن الظلم في معياره واحد وهو تجاوز الحد والتعدي على الحقوق المحترمة، ومن آثار الظلم العام هو إنتشار الفساد الذي يصيب الجميع وبنسب، وبتعبير المصنِّف: (إن  الحاكم إذا صلح صلح العباد بشكل عام، وما الظلم الشائع في البلاد على العباد إلا لأنَّ الحكم وقع في غير موضعه وتولى الظالم الحكم فحكم بظلمه على العباد فانتشر بذلك الفساد الذي هو نتاج الظلم). 

هل أنت ظالم؟ 

مثل هذا السؤال فيه مساحة كافية لأن يُعرض على الإنسان أو أن يعرضه الإنسان على الآخر، وليس في السؤال تجريح أو مسبّة، لإننا ندرك بحس الفطرة أنَّ السؤال أمر واقع، لكون الظلم بذاته هو أمر واقع يرتكبه الإنسان بحق الآخر أو يرتكبه الآخر بحقه، ولكن النسب تختلف كما تختلف النماذج والآثار، ولهذا فإن السؤال هو في محلِّه، ولكي نقف منه موقف الإنسان العادل الذي يكره الظلم، من المفيد معرفة علاماته، وهي ثلاث يحددها المأثور النبوي الشريف: (للظالم ثلاث علامات: يقهر مَن دونه بالغلبة، ومن فوقه بالمعصية، ويظاهر الظلمة). 

هذه العلامات فصلّ فيها الفقيه الكرباسي القول في التمهيد مسنداً إليها جملة من الآيات والأحاديث الشريفة التي هي بمقام الضوء الأحمر لكل صاحب مروءة يسعى إلى تفادي القفز على المحظورات، فمن العلامة الأولى قول الإمام علي (ع): (ظلم الضعيف أفحش الظلم) و(ظلم المستسلم أعظم الجرم)، ومن العلامة الثانية التجري على الله وتكذيب آياته: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ) سورة الزمر: 32، ومن العلامة الثالثة قوله الرسول الأعظم محمد (ص): (من أعان ظالماً على ظلمه جاء يوم القيامة وعلى جبهته مكتوب آيس من رحمة الله). 

ربما اعتبر الظلمة أن الظلم جزء من مقومات الشخصية في عالم تكالبت فيها المصالح وتقاطعت، ويسعى كل واحد للإستئثار بالقدر الممكن من حظوظ الحياة، ولكن الظلم من معيار الحق والباطل يظهر المكنون من نفس الإنسان وما يخفيه، فهو مظهر من مظاهر المرض النفسي وبتعبير الفقيه الكرباسي: (تكمن حقيقة الظلم في الواقع في مرض نفسي لدى الظالم، والغالب عليه يأتي من النقص في الشخصية، والشعور بالنقص هو الذي يدفعه إلى الإنتقام والبغي والتسلط على الآخر لإظهار قوته على الآخر أو التظاهر بالقوة والسطوة والجبروت). 

والظلم من مظاهر: (الحسد وهو الآخر لون من ألوان المرض النفسي الذي يبتلى به الإنسان الذي ضعف إيمانه حيث لا يريد للآخر الخير ولا يتمكن أن يرى الآخر منعماً سعيداً، ويريد أن يزيد بالظلم في قدرته وقوته وتعاليه على الآخر ليكون هو الأقوى والأقدر والأفضل)، كما يفيد المصنِّف. 

والظلم من مظاهر العقد النفسية المتولدة عن سوء التربية وسوء البيئة، فينمو المرء وتنمو معه عقده فيخفي ضعفه وضعته ونقصه بظلم الآخر، ولكن الظلم نفسه يكشفه ويعريه، وإلى هذا يفيدنا المصنِّف بالقول: (وقد يكون الظلم عن عقدة نفسية وردة فعل من التعامل الذي عومل به في الصغر واستحقر فيما مضى من عمره). 

والظلم من مظاهر: (مرض عضوي ليعد حالة من حالات الجنون سواء كان من جنون العظمة أو من جنون الخبال الذي يتعرض إليه الإنسان فلا يجد أمامه إلا البطش بالآخر)، كما يؤكد المصنِّف. 

والظلم من مظاهر الغرور والإعتداد بالنفس حد الإنتقاص من الآخر، فمنهم من يغتر بماله ومنهم من يغتر بحسبه ونسبه، ومنهم من يغتر بجماله، وبشكل عام يحول النعمة إلى نقمة بالغرور والإستعلاء، وهو الآخر يرى فيه الشيخ الكرباسي أنه: (مرض نفسي يعاني منه المغتر وهو لا يعلم). 

ظلوما جهولا 

من الظلم الشديد نسبة الظلم إلى الرحمن الرحيم الذي دعانا في حديث قدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا)، ومن الظلم الكبير الشرك بالله الذي لا إله إلا هو العلي العظيم: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) سورة لقمان: 13، من هنا يرى الفقيه الكرباسي أن: (من نسب الظلم إلى الله سبحانه وتعالى فقد خرج من الملَّة)، نعم: "إذا كان من الجهل والقصور فيجب إرشاده وهدايته وتعليمه بأصول الدين ومعالمه قبل الحُكم بالخروج" كما يفيد الفقيه الغديري في تعليقه على المسألة. 

وللظلم في الحياة اليومية أوجه كثيرة، نرى تمثلاتها كما أفادنا المصنِّف في: (الإستطالة على الناس ظلم محرّم)، و(عدم التزام الزوج بالقسمة بين زوجاته بالشكل العادل الذي حدده الشرع من دون رضاهن ظلم محرَّم)، و(الغيبة والتهمة كلاهما من الظلم بالآخر وهما محرَّمتان شرعاً)، و(تكريم الظالم والإحتفاء به أو الثناء عليه نظماً ونثراً محرَّم)، و(بناء بيت الظالم وقصوره ودوائره وأي عمل من هذا النوع كخياطة ملابسه وأي شيء يتعلق به وبالمتعاونين معه محرّم أيضا)، و(من استولى على حكم دون شرعية له فهو ظالم)، و(الغاصب للمتاع والعقار والحكم والحقوق ظالم ولا يجوز التعاون معه)، و(الظلم قد يتحقق بالقول وذلك إذا صرف الحق عن موضعه بالكذب والدجل والتهمة ومن ذلك ما يقوم به بعض الإعلاميين وبعض الخطباء والكتاب الذين يحيدون عن الحق وهم عارفون بذلك)، وبالعكس من ذلك: (العمل الإعلامي والتظاهرات السلمية ضد النظام الظالم جائز وبالأخص إذا قاد العلماء الربانيون ذلك وأجازوه). 

وحيث يتحقق العدل مع غير المسلم فإنه: (إذا كانت هناك محاكم إسلامية وأخرى غير إسلامية فإن كانت الإسلامية غير عادلة وغير الإسلامية عادلة قدمت العادلة على غير العادلة)، من هنا: (يجوز مخالفة الحكم غير العادل الصادر عن المحكمة إذا لم يؤد إلى الفوضى والإنفلات). 

وكما للظلم أسبابه وعلاماته ومظاهره، بوصفه مرضي نفسي متنوع الشُّعب، فإن دواءه والتخلص منه كما يضيف الفقيه الكرباسي: (يكمن فقط بالإيمان بالله والإعتراف بقدرة الله وكبريائه وجبروته وسلطانه)، ومقتضى الإيمان الإستغفار من كل ذنب، وفيما يتعلق بـ: (ظلم النفس يمكن التخلص منه بالتوبة النصوحة)، أما: (ظلم الآخر فلا يمكن الخلاص من تبعاته إلا إذا سدَّد حق الآخر أو غفر الآخر) مع التوبة أيضا وبخاصة التوبة في مقام الشرك. 

وإذا كان الظلم أحد تمظهرات المرض النفسي، فإن التوبة والعودة إلى الفطرة أول مرتبة في سلّم العلاج الذاتي الذي فيه سعادة الدارين. 

الرأي الآخر للدراسات- لندن 

وسوم: العدد 912