مظاهرة «الحريقة»: جلال ذاك الرزء

حين قال أحمد شوقي: «تكاد لروعة الأحداث فيها/ تُخال من الخرافة وهي صدقُ» كان قد بلغه طرف محدود النطاق من الأرزاء التي حاقت بدمشق جراء القصف الفرنسي البري والجوي لأحيائها التي استضافت رجال سلطان باشا الأطرش وحسن الخراط والبقية من أفراد الثورة السورية الكبرى. وكان «أخو حرب به صلف وحُمق» هو الجنرال الذي أشفق شوقي على فرنسا من أفعاله «إذا ما جاءه طلاب حقّ» مستدركاً مع ذلك أنّ «دم الثوار تعرفه فرنسا/ وتعلم أنه نور وحقّ».

الجزء من دمشق الواقع بجوار سوق الحميدية وسوق مدحت باشا، بين جادة الدرويشية وسوق الخياطين، كان يُعرف باسم محلة «سيدي عامود» ثمّ توجّب أن تتغير تسميته إلى «الحريقة» بعد أن أحرقته قذائف الانتداب الفرنسي يوم 18 تشرين الأوّل (أكتوبر) 1925. صحيفة «لومانيتيه» الناطقة باسم الحزب الشيوعي الفرنسي، تبنت الرواية السورية فتحدثت عن 1416 قتيلاً، بينهم 336 امرأة وطفلاً؛ وأمّا المصادر الرسمية الفرنسية فقد أحصت 150 «ضحية مدنية» فقط.

بعد 86 سنة، يوم 17 شباط (فبراير) 2011، سوف تنتفض «الحريقة» إياها مجدداً؛ ليس في وجه الانتداب الفرنسي هذه المرّة، بل ضدّ نظام الفساد والاستبداد الذي يحكم سوريا منذ انقلاب «الحركة التصحيحية» سنة 1970 وتولاه حافظ الأسد حتى وفاته سنة 2000 وتابعه وريثه ونجله بشار من بعده. ومع اقتراب الذكرى العاشرة لتلك التظاهرة الفريدة يعود إلى خاطر الكثير من السوريين تفصيلان حاسمان اكتنفا وقائع ذلك اليوم: العبارة الاستثنائية، الطافحة بالدلالات، التي رددتها حناجر العشرات: «الشعب السوري ما بينذلّ»؛ والعبارة، التي لا تقلّ استثناء ودلالة، التي أطلقها وزير داخلية النظام آنذاك، اللواء سعيد سمور، ساعة إطلالته من باب سيارته: «عيب يا شباب! هاي اسمها مظاهرة»!

تعبير سمور (الذي لن يطول به الزمان حتى يلتحق بأمثاله في سلّة مهملات التاريخ، على رفوف «الحركة التصحيحية» المخصصة لمتعفّني الصلاحيات المنتهية) كان مهذباً بعض الشيء، والحقّ يُقال؛ إذْ أنّ المظاهرة في عرف آل الأسد لم تكن مجرّد «عيب» بل كانت تتراوح في أيّ موقع بين الجريمة الكبرى والإثم الأقصى والعصيان الصريح والتمرّد الذي يستوجب ما هو أشدّ عاقبة من مجرّد التفريق أو الاقتياد إلى غياهب السجون. و»التكتيك» الذي اهتدى إليه الوزير الحائر في محاولة استيعاب هذا «العيب» وذاك كان خياراً سينال عليه توبيخاً لاذعاً من غالبية ضباط الأمن، الحمائم منهم أسوة بالصقور في الواقع، اقتصر على اصطحاب المواطن المعتدى عليه في سيارة الوزير المصفحة ذاتها، وإطلاق سراحه أمام المتظاهرين، والوعد بمعاقبة المعتدين عليه من عناصر الشرطة.

الأجهزة الأمنية الساخرة من اللواء سمور (ابن بلدة جبلة الهاوي، الذي لم يبلغ كعباً من آل أسد أو مخلوف أو دوبا أو خولي أو حيدر أو شوكت…) سارعت إلى تطبيق واحد من الحلول الكلاسيكة القياسية التي ابتدعتها «الحركة التصحيحية» في صناعة الغوغاء وتفعيل الدهماء. وهكذا، خلال دقائق معدودات، جرى تطويق مظاهرة «الحريقة» وسيارة الوزير، بعشرات من عناصر الأمن الذين سوف يحتكرون لاحقاَ لقب «الشبيحة» واشتعلت حناجرهم بالهتاف الأزلي الخالد: «بالروح! بالدم! نفديك يا بشار! وهنا أيضاً، لم تكن خيارات الاسد الابن قد بلغت سوية العنف المفتوح وارتكاب المجازر وجرائم الحرب، فلم تصدر الأوامر بتفريق متظاهري «الحريقة» عن طريق الرصاص الحي، وبدا أنّ حشرجة الهتاف التشبيحي كافية لتطويق الواقعة.

بيد أنّ تظاهرة «الحريقة» كانت لتوّها قد قرعت عند النظام جرس إنذار نوعي الرسائل، إذْ كيف حدث أنّ واقعة مثل هذه (يصنّفها النظام عادة في باب التفاهة، لأنها لم تتجاوز احتجاج المواطن عماد نسب على شرطي سير كان قد وصفه بـ»«لحمار» ويحدث كلّ يوم ما هو أفظع منها عشرات المرّات، بين أجهزة السلطة والمواطن)؛ حرّكت قرابة 1000 مواطن وأخرجتهم إلى الشارع في قلب العاصمة؟ ولسوف يتلقف ضباط الأمن الرسالة بالطبع، سريعاً هنا أيضاً، فلا يتردد العميد عاطف نجيب، ابن خالة الأسد، في تكسير أصابع تلاميذ درعا الذين خطوا على الجدران عبارة «إجاك الدور يا دكتور»؛ وسيخبر آباءهم أن ينسوا أولادهم هؤلاء، وأن يعودوا إلى نسائهم ليصنعوا غيرهم، وإلا فإنّ عناصره سوف ينوبون عنهم في الصناعة!

كذلك أدرك رعاة النظام، المخابرات الإيرانية والروسية على وجه الخصوص، أنّ المغزى يذهب أعمق وأبعد؛ إذْ أنّ 41 سنة من حكم الاستبداد والفساد والمزرعة العائلية والطائفية كفيلة بمنح ما شهدته شوارع تونس ومصر وليبيا واليمن سلسلة أبعاد مماثلة، بعضها أشدّ مضاضة وتحريضاً وباعثاً على الحراك، في الشارع الشعبي السوري. تلك، كرامة «الحريقة» وأطفال درعا وعقود القهر والقمع والطغيان، كانت أولى الشرارات التي أشعلت لهيب الانتفاضة السورية؛ وليس، البتة، شعائر أمثال زهران علوش وحسان عبود وحسن صوفان وأحمد الشيخ. وثمة جذوة منها، تفضي إلى الحرية والخبز بعد الكرامة، ليس مقدراً لها أن تخبو أياً كانت الرياح التي تهب لإطفائها، وأياً كانت هوية القوى الخارجية التي تعهدت أو تتعهد بإطلاق الأنواء لإخمادها.

و على نقيض ما يمكن أن توحي به المظاهر الراهنة، ليست «الحريقة» اليوم إلا استعادة لصورها في عهود مضت: غزاة وطغاة من كلّ حدب وصوب، مرّت صفحاتهم وانطوت، وبقي هذا الشعب «ما بينذلّ».

وسوم: العدد 916