بقدر ما ينزّل المرء بعض الناس غير منازلهم برفعهم فوق أقدارهم تكون خيبة أمله كبرى حين تسقط أقنعتهم

من المعلوم أن الثقافة السائدة في كل مجتمع هي التي تتحكم في إصدار الفرد أحكامه على من يخالطهم ويعاشرهم ، فهو يفعل ذلك اعتمادا على مظاهرهم الخارجية أولا ، و ثانيا على ما يتكوّن  لديه من معلومات  قبيلة عنهم دون مخالطتهم ومعاشرتهم  من قبيل مستوياتهم العلمية والثقافية ومكانتهم الاجتماعية ... إلى غير ذلك مما يدخل في تخيّل أو توهم ما قد تكون عليه منازلهم وأقدارهم.

وبمجرد الاحتكاك بهم عن قرب، تبدأ منازلهم وأقدارهم تتبيّن شيئا فشيئا عبر مؤشرات فيكون منها ما يصح و يثبت ، ومنها ما  لا يصح ويسقط  . ووضوح المنازل والأقدار بعد الاحتكاك بأصحابها يتم بطريقتين : إما بتأكد الصور التي تكونت عنها  ظاهريا وقبليا أو بنقضها ، وقد يحدث ذلك إما دفعة واحدة أو في فرصة واحدة وقد  يحدث بتدرج أو بعد حين.

وإذا ما سقطت الأقنعة عن منازل وأقدار البعض ،فظهرت حقيقتها في فرصة واحدة ودفعة واحدة تكون درجة خيبة الأمل فيهم عابرة وغير مؤثرة لأنه لا يعقبها  سوى ندم عابر  ، أما إذا اقتضى سقوطها فترة طويلة، فإن درجة خيبة الأمل تكون كبيرة ومؤلمة بسبب ما يعقبها من ندم شديد وحسرة طويلة الأمد .

ومع أن أوضح المسالك إلى تنزيل الناس منازلهم هو الاحتكاك المباشر بهم عن قرب ، فإن معظم الناس لا زلوا يسقطون في خطأ تنزيل  بعضهم البعض منازلهم باعتماد  المظاهر الخارجية أو باعتماد المعلومات القبلية التي تحتاج تدقيق وتح  وتبيّن .

وقياسا على ما نبه إليه الله عز وجل من ضرورة تبيّن الأنباء التي يكون وراء ترويجها فسوق في قوله عز من قائل : (( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين )) ،وجب  ضرورة التبيّن أيضا  عند تنزيل الناس منازلهم اعتمادا على  الظاهر ، وعلى معلومات قبلية يتم التعامل معها كحقائق أ ومسلمات تكون في غنى عن برهنة أو دليل ،ويكون في حقيقة الأمر وراءها فسوق أيضا يفضي إلى تنزيل  بعضهم فوق منازلهم المستحقة و ضعهم فوق أقدارهم الحقيقية بجهالة، فيترتب عن ذلك ندم أيضا .

فكم من شخص تجعل له ثقافة مجتمعه هالة الشخصية الكاريزمية في مجال من المجالات  يسلم بها الناس قطعا  ، ولا يخامرهم أدنى شك في صحتها حتى تحدث لهم المفاجأة الصادمة حين يحتكون به عن قرب ، ويخبرون حقيقته حق الخبرة ، فتنهار لديهم كاريزميته أو تذوب ذوبان الثلج ، ويعقب ذلك  عندهم ندم شديد على انخداعهم بكاريزمية زائفة .

وكم من شخص يصنف في خانة الأكياس العقلاء من ذوي العقول الراجحة والحكمة البالغة باعتماد الحكم عليه من خلال الظاهر أومن خلال المعلومات القبيلة غير الممحصة  ، فإذا ما حصل الاحتكاك به  عن قرب كشف قول أو فعل أو موقف صادر عنه  عما ينقض كياسته المتوهمة  ورجاحة عقله  الخادعة وحكمته الزائفة  ، فإذا هو واحد من عامة الناس إن لم يكن من سوقتهم ورعاعهم.

وكم من شخص يخدع ظاهره المغري باتخاذه خلا مقربا، وهو  في حقيقته عكس ما يبطن باطنه مما لا علم  لأحد به إلا الخالق  وحده سبحانه وتعالى ، فإذا وقع الاحتكاك به عن قرب تبخر الظاهر المغري ، وطفا الباطن المؤذي ، وحصل لمن راهن على خلته ندم شديد وحسرة ما بعدها حسرة .

وكم من شخص يخدعه الظاهر أيضا كما تخدعه المعلومات القبلية عن شريك أو شريكة العمر ، فيغامر بعمره ويخوض تجربة زواج فاشلة لا تتأكد إلا بعد  صرف شطر من العمر ثمين  ، فيورثه ذلك  ندما قاتلا وحسرة لا تشفى غلتها .

وكم من أشخاص خدعوا  بالله غيرهم  بإظهار حسن السمت ،وصدق الورع، وكمال الوقار، فانخدعوا لهم لحسن ظن ظنوه بهم ، وخاب ظنهم فيهم وقد اكتشفوا بعد الاحتكاك بهم  أنهم ثعالب أخفت أذنابها و لبست أصواف الحملان .

وما يزال المرء في هذه الحياة عرضة للانخداع ، وتنزيل الناس غير منازلهم ورفعهم فوق أقدارهم حتى يقيض له الله عز وجل من الأسباب من يوقظه من غفلة انخداعه ، ولا بد له من ثمن يدفعه، وهو عبارة عن ندم  وحسرة يخفان أو يشتدان حسب حجم الانخداع.

وسوم: العدد 919