انتفاضة القامشلي 2004: كرامة الجوهر

لا تحضرني، كما هي الحال في كلّ عام، ذكرى الانتفاضة الشعبية العارمة التي انطلقت من مدينة القامشلي يوم 12 آذار (مارس) 2004، إلا وأستعيد معها بلدة عامودا، ذات الأغلبية السكانية الكردية؛ لاثنين من أسباب أخرى كثيرة: 1) أنها شهدت مأساة حريق صالة السينما أثناء عرض فيلم لتلامذة المدارس، خريف 1960، حيث قضى حرقاً 283 طفلاً لا تزيد أعمارهم عن 12 سنة؛ و2) أنها البلدة السورية الوحيدة التي انفردت بتحطيم تمثال حافظ الأسد مرّتين، ربيع 2004 بعد انتفاضة القامشلي، وخريف 2011 مع تصاعد الانتفاضة الشعبية السورية الشاملة وفي مناسبة اغتيال الناشط الكردي البارز مشعل التمو.

انتفاضة 2004 بدأت، كما هو معروف، على خلفية مشاحنات أعقبت مباراة في كرة القدم بين نادي «الجهاد» المحلي، ومعظم جمهوره من الأكراد المبتهجين لسقوط صدّام حسين، وفي النفوس مجزرة حلبجا وسواها؛ وجمهور نادٍ ضيف «الفتوة» القادم من مدينة دير الزور، حيث بعض الجمهور ساخط لسبب مضادّ جوهره التعاطف مع العراق أو مع صدّام حسين شخصياً لدى شريحة منهم. وكان يمكن للواقعة تلك أن تمرّ مثل سواها من مئات حوادث الشغب في ملاعب كرة القدم، لولا أنّ النظام سارع فوراً إلى استخدام الرصاص الحيّ، ولم يتردد في استيحاء مجزرة حماة 1982 لتلقين أكراد سوريا، وليس منطقة الجزيرة وحدها، درساً في الفاشية يمارسه الوريث من باب استئناف تراث أبيه: في القامشلي والحسكة وعامودا وديريك والدرباسية وعين العرب وعفرين، هذه المرّة.

كانت حقيقة انطلاق الانتفاضة من قلب وسط كردي غالباً، ومن مناطق ومحافظات الشمال الشرقي بادئ ذي بدء، لا تخفف من خشية النظام بقدر ما تضاعفها عملياً، وتجعل دقات جرس الإنذار أكثر دفعاً نحو العنف المفتوح واستئناف دروس مجزرة حماة الفاشية

الأرجح أنّ انتفاضة القامشلي قرعت جرس الإنذار الأبكر في عهد الوريث، وكانت الأخطر أيضاً لأنها ابتدأت من جمهور كردي كان النظام يتخوّف من إمكانية استثماره من جانب الاحتلال الأمريكي في العراق وتحويله إلى «حصان طروادة» إذا توجّب الضغط أكثر على نظام آل الأسد، واتخاذ إجراءات قصوى لوقف لعبة النظام في تمرير الجهاديين إلى الداخل العراقي عبر الحدود السورية. يومذاك كان نظام الأسد يقوم على «صقور» تتيح تلاقي أمثال ماهر الأسد وأمّه أنيسة مخلوف وخاله محمد مخلوف وصهره آصف شوكت، مع نماذج عبد الحليم خدام ومصطفى طلاس وغازي كنعان ومحمد ناصيف، لجهة تأثيم المواطنين الكرد والتوافق على إخضاعهم لشتى أشكال القهر والقمع والتضييق والتمييز.

أكثر من هذا، وقبلئذ في الواقع، كان الأسد الأب نفسه يبغض المحافظات الشرقية ويعتبرها معادية لنظامه وله شخصياً؛ وكان الدليل الأوضح على مشاعره هذه أنه، بعد أسابيع أعقبت انقلابه عام 1970، قام بسلسلة جولات استعراضية شملت جميع المحافظات السورية ما عدا دير الزور والحسكة والرقة. هذه كانت، في رأيه، إما متعاطفة تاريخياً مع العراق لأسباب اجتماعية وتاريخية وجغرافية ولسانية وثقافية (كما هي حال الرقة ودير الزور) أو متعاطفة مع كردستان العراق (على غرار غالبية الكرد في الحسكة).

وفي المقابل كانت حقيقة انطلاق الانتفاضة من قلب وسط كردي غالباً، ومن مناطق ومحافظات الشمال الشرقي بادئ ذي بدء، لا تخفف من خشية النظام بقدر ما تضاعفها عملياً، وتجعل دقات جرس الإنذار أكثر دفعاً نحو العنف المفتوح واستئناف دروس مجزرة حماة الفاشية. فهذه المناطق تعرضت على الدوام للإهمال والحرمان ومعاملة الدرجة الثالثة، رغم أنها «أهراء سوريا» على نحو أو آخر؛ وهي حاضنة ثروات البلاد ومواردها الأساسية: في النفط، وزراعة الحبوب، والأقطان، التي تعدّ محاصيل ستراتيجية؛ وفي الكهرباء وسدّ الفرات.

محطة أولى في تاريخ التمييز الرسمي الذي حاق بالمواطنين الأكراد في سوريا سجّلها إحصاء العام 1962، الذي أسفر عن تجريد نحو 200 ألف مواطن كردي من الجنسية، وتسجيلهم في القيود بصفة «أجنبي»؛ كما جرّد 80 ألفاً آخرين ولكن من دون تسجيلهم في القيود هذه المرّة، ممّا أستولد حالة القيد المدني العجيبة: «المكتوم». المحطة الثانية كانت «الدراسة» الشهيرة، العنصرية بكلّ معنى ومقياس، التي وضعها الملازم محمد طلب هلال ورفعها إلى قيادة حزب البعث، وشرح فيها طرائق «تذويب» الأكراد في «البوتقة» العربية. النتيجة الأولى كانت تعريب أسماء عشرات القرى والبلدات الكردية، وحظر تسجيل الولادات بأسماء كردية، ومنع الطباعة باللغة الكردية، وسوى ذلك من الإجراءات التمييزية الفاضحة. المحطة الثالثة كانت الأكثر فاشية، وجرت في مطلع السبعينيات حين فرضت السلطات إقامة «حزام عربي» بطول 375 كم وعمق يترواح بين 10 – 15 كلم، على امتداد الحدود السورية التركية؛ اقتضى ترحيل 120 ألف مواطن كردي من 332 قرية، وإحلال سكان «عرب» محلّهم بعد بناء قرى نموذجية لهم.

وإذْ أستعيد، اليوم، الذكرى الـ17 لانتفاضة القامشلي، أقرأ أنّ تظاهرات جابت شوارع المدينة، أو زارت مقابر الشهداء، أو أقامت فعاليات احتفائية شعبية مختلفة؛ فضلاً عن حدث خاصّ، لعله الأبرز في يقيني، تمثّل في إقامة مباراة كرة قدم «كرنفالية» جمعت بين فريق محلي وآخر من دير الزور، وذلك «للتأكيد على قيم العيش المشترك والأخوّة التي تجمع بين المكونات السورية، التي حاول النظام البعثي إثارة الفتنة بينها» كما قالت الجهة المنظمة للفعالية.

هنا الدرس، بالطبع، وهنا الكثير من جوهر الدلالة وكرامة الذكرى.

وسوم: العدد 920