النَّصْبُ المُسْتَمِرُّ

د. أحمد إبراهيم مرعوه

رَغْمَ أَنَّ البَقَرَةَ الحَلُوبَ تُدِرُّ، ومَا زَالَ النَّصْبُ مُسْتَمِرًّا، وَالاحْتِيَالُ مُسْتَقِرًّا، تَجِدُ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْحَيَاةَ أَصْبَحَتْ حَيَاةً عَصْرِيَّةً، وَلَا يَنْقُصُ النَّاسَ فِيهَا أَيُّ شَيْءٍ، وَتَسِيرُ بِخُطَى جَمِيلَةٍ (وَمَاشْيَهْ.. وَعَالِ الْعَالِ) وَالنَّاسُ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَلْبَسُونَ وَلَا يَحْتَاجُ أَيُّ فَرْدٍ مِنْهُمْ لِأحَدٍ، وَفُلَانٌ بْن فُلَاَنٍ أُسْعَدُ حَظًّا، وَفُلَانَةُ الْفَقِيرَةُ أَصْبَحَتْ مَبْسُوطَةً وَأَحْسَنُ مِنْكَ حَالًا أَيُّهَا الْمُغْتَرِبُ فِي بِلَادِ اللهِ مِنْ أَجْلِ حَيَاةٍ كَرِيمَةٍ!

وَنَحْنُ لَا نَكْرَهُ السَّعَادَةَ لِأحَدٍ، وَلَكِنْ كَيْفَ تَكُونُ الْأُمُورُ هَكَذَا، وَكَيْفَ تَسِيرُ نَحْوَ الْأفْضَلِ وَبِدُونِ تَفْسِيرٍ، فَنَحْنُ والكُلُّ يَعْلَمُ أَنَّ مِصْرَ تَمُرُّ بِضَائِقَةٍ اقْتِصَادِيَّةٍ وَصِحِّيَّةٍ وَتَعْلِيمِيَّةٍ، وَفِي كُلِّ مَنَاحِي الْحَيَاةِ حَتَّى اضْطَرَّ الْكَثِيرُونَ مِنَ الشَّعْبِ لِلْهِجْرَةِ الْجَمَاعِيَّةِ إِلَى أُورُوبَّا، وَيَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْهِجْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَمُرُّ عَنْ طَرِيقِ الْمَنَافِذِ الطَّبِيعِيَّةِ، بَلْ كَانَتِ الَّتِي عَنْ طَرِيقِ النَّصْبِ الْجَمَاعِيِّ الَّذِي أَوْدَى بِغَرِقِ الْكَثِيرِينَ مِنَ الشَّعْبِ الْمِصْرِيِّ!

الْمُهِمَّ: جَلَسْنَا نَبْحَثُ عَنْ تَفْسِيرٍ لِلْكَثِيرِ مِنْ أُمُورِ الْحَيَاةِ فَرَأَيْنَا أَنَّ مُعْظَمَ الْأُمُورِ تَسِيرُ بِعَشْوَائِيَّةِ التَّغَيُّرِ فِي الْمَفَاهِيمِ، وَالَّتِي يَتِمُّ فِيهَا إِصْلَاحُ الشَّيْءِ عَلَى حِسَابِ الْآخَرِ، فَإِنْ رَأَيْتَ إِصْلَاحًا فِي جِهَةٍ مَا، تَعْلَمَ جَيِّدًا أَنَّ هُنَاكَ نَقْصًا فِي الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ لَهَا مِنَ الشَّاطِئِ الْغَرْبِيِّ، فَالتَّعْلِيمُ يُخْرِجُ مَنْ لَا عَمَلَ لَهُ ؛ وَفِي الْجَانِبِ الْآخَرِ البَطَالَةُ تَسْتَوْعِبُ، وَالنَّاسُ يَبِيعُونَ فِي الْأُصولِ لِيَأْكَلُوا الْفُولَ، وَتَشْتَرِي الثَّلَّاجَةَ الَّتِي تَحْتَفِظُ بِنِصْفِ الدَّجَاجَةِ الْمُتَبَقِّيَةِ، وَالْمُغْتَرِبُ الْبَائِسُ يَشْتَرِي بِكُلِّ مَا جَمَعَهُ طِيلَةَ عُمُرِهِ قَطْعَةَ أرْضٍ عَلَى أَمَلِ اللِّقَاءِ فِي بَيْعِهَا مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَمَا تَمَرُّ بِضْعُ سِنِينَ بِمِئَاتِ الْألُوفِ أَوِ الْمَلَاَيِينَ!

وَالْفَلَّاحُ التَّارِكُ لِأرْضِهِ مُنْذُ سِنِينَ: ظَهَرَ فَجْأَةً لِيَبِيعَ قِطْعَةَ الْأرْضِ (الَّتِي كَانَتْ مَقْلَبًا لِلْقُمَامَةِ) وَالْكُلُّ يَقْتَرِبُ مِنْهُ لِيَشْتَرِي وَيَقْتَنِي، لَا لِيَبْنِي الْمَصَانِعَ لِأَنَّ (ظَاهِرَةَ التَّسْقِيعِ) أَصْبَحَتْ أحْلَى مِنَ الرَّبِيعِ، بَلْ أَصْبَحَتْ هِي الاقْتِصَادُ الرَّائِجُ بَعْدَمَا رَوَّجَ لَهَا السَّمَاسِرَةُ، وَاقْتَنَعَ الْكُلُّ بِأَنَّهَا أفْضَلُ وَسِيلَةٍ، وَأفْضَلُ مَنِ الْبُنُوكِ الَّتِي لَا تَبْنِي إِلَّا لِلْأَغْنِيَاءِ، وَفِي الْمُقَابِلِ لَا تُعْطِي سِوَى المَلَالِيمَ، عِلَاَوَةً عَلَى أَنَّ الْبُنُوكَ رِبًا، وَالسِّمْسَارُ خِلَاَفُ الرَّائِشِ الَّذِي يُرَابِي وَيَرْتَشِي، يَعْنِي حَاجَةٌ مُغْلَفَةٌ فِي ثَوْبٍ جَديدٍ ِ وَبَعِيدَةٌ عَنِ الشُّبُهَاتِ كَمَا يَظُنُّ بَائِعُ الْهَوَى!

وَنَسِيَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ أَصْبَحَ عَالَةً عَلَى الْمُغْتَرِبِ فِي إِمْدَادِهِ بِبَعْضِ الْمَالِ وَالْهَدَايَا، وَطُرُقِ النَّصْبِ وَالاحْتِيَالِ فِي بَيْعِ هَذَا وَذَاكَ، وَشُهُودِ الزُّورِ، وَتَزْوِيرِ الْأَوْرَاقِ، وَالْبَيْعِ لِأَكْثُرَ مَنْ وَاحِدٍ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، وَالشِّيكَاتِ بِدُونِ رَصيدٍ لِحِينِ إفْلَاَتِ مَعْدُومِ الضَّمِيرِ، وَالْمَحَاكِمُ يَطُولُ اِنْتِظَارُهَا، وَلَعِبُ الْقِمَارِ بِالْوَقْتِ لِحِينِ مَوْتِ الْمُغْتَصَبَةِ أَمْوَالُهُمْ بِسَبَبِ نَفَاذِ الصَّبْرِ الَّذِي يُرَبِّي النَّصَّابُ الْمُحْتَرِفُ عَلَى النَّصْبِ الْجَدِيدِ بِمُسَاعَدَةِ بَعْضِ مَعْدُومِي الضَّمِيرِ مِنَ الْمُحَامِينَ، وَبَعْضِ مَعْدُومِي الضَّمِيرِ مِنَ الْقُضَاةِ الْخَوَنَةِ وَأَصْحَابِ الْمَصَالِحِ، وَأَصْحَابِ (الشَّالِيهَاتِ وَالْفَنَادِقِ وَمَعَهَا الْبَنَادِقُ) وَأَصْحَابِ الْمَصَالِحِ الشَّخْصِيَّةِ الَّتِي لَا تَنْتَهِي، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ نَلْتَقِي!

وَالْأخْلَاقُ تَمُوتُ، والمُتَبَقِّي مِنْهَا يَوَدُّ أَنْ يَنْتَحِرَ هُنَاكَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ الَّذِي يَقْتَرِبُ مِنْ بَحْرِ كُلِّ غَرِيقٍ، وَالَّذِي يَجْرِفُ أَمَامَهُ الطَّرِيقَ خَوْفًا مِنْ مُغْتَصِبِي الشَّاطِئِ لِبِنَاءِ المَلَاهِي، وَبَعْضِ المَقَاهِي لِلسُّكْرِ وَالْعَرْبَدَةِ، وَأَفْلَاَمِ الْخَلَاَعَةِ، وَضَيَاعِ الشَّبَابِ الَّذِي يُفَرِّجُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا لَا يُرْضِي اللهَ، هُنَاكَ عِنْدَمَا يَرْتَكِبُ المَعَاصِي، وَيُزَجُّ بِسَبَبِهَا فِي السُّجُونِ لِتَبْدَأَ سِلْسلَةُ التَّسَوُّلِ مِنْ أَجْلِهِ مِنْ جَديدٍ، خِصِّيصًا لَوْ كَانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا، أَوْ غَرِيبًا مُبْهَمًا، أَوْ عَزِيزَ قَوْمٍ ذَلَّ، وَمَا مِنْ أحَدٍ لِأهْلِهِ دَلَّ!

وسوم: العدد 927