في بهجة الإنابة

تعيش مجتمعاتنا حالة التخبط والضياع ، تكتنفها الكآبة ، وتغشاها المرارة والسبب غير بعيد عن مداركنا وقدراتنا وواقع تاريخنا وإمكانيات إرث أمتنا العظيم الخالد ، وما لدى أبناء مجتمعنا من  قدرات وإمكانيات . ولطالما يتذمّر الجميع من سوء أوضاع المعيشة، و شُحِّ معطيات الحياة،  تُعتصر أفئدتنا حين نشاهد الفساد من حولنا ونقف عاجزين عن تغيير واقعنا الأليم ، فنعدو نوثِّق الأحداث والقصص المرعبة والمشاهد التي تتفطر لرؤيتها المهج  ، ثم نحفظها بذاكرتنا التي أُثقلت بما لاطاقة لها به . يتمنى بعضنا أن تتاح له الفرصة ليكون فاعلا فيُمنح صلاحية تُخوّله  ليبني هنا أو ليؤسس هناك ، وليعيد وجه الأمة مشرقا كما كان في سالف العصور . فيحارب الفساد ويُوقف توغّله الذي يُعيق بناء المجتمع بشكل سويٍ صحيح ، ويحارب مواطن الضياع والفساد ، لكنه يستسلم كغيره بعد أن وجد  نفسه غارقا أيضا في شهوات الحياة ومغرياتها، يُخرس ضميره ويعصب عينيه عن رؤية الفساد ليحقق مبتغاه بعد أن أعمى زخرف الدنيا بصيرته . ولا أعمم ماغلبني وجعي على أمتي ، ففي المجتمع خيرٌ من معاني خيرية وارفة الظلال منحها الله لهذه الأمة التي تكفل لها سبحانه وتعالى أن يعيد لها مجدها وسؤددها رغم كل العقبات والأضغان التي تحملها الأمم الأخرى على أمتنا .

 في بهجة الإنابة ، وصحوة الضمير ، أقصد الفطرة السليمة ، والخروج من بيئة الضياع ، والاستمتاع بزخرف الحياة التي ما أبقت غنيا إلا ورحلت به إلى عالم ثان ، ولا جبَّارا إلا ورمته في ذلك العالم الثاني نفسه ، ولا مترفا إلا وجرته إلى نفس ذاك العالم . عالم فيه من الحق والخلود والبهجة الحقيقية مالم يكن في حياتنا الآن ، بل لاوجه للمقارنة بين هاتين الحياتين .

وحين انطفأ مصباح الضمير ، وأعني الفطرة التي سلمت من أدران الإسفاف في الفكر والسلوك والأهواء ، وأصبح ابن آدم بلا نور  ، بلا هداية ، بلا وعي يترجم له أسرار الخَلق وسبب وجوده على هذه الأرض ، وشعر بحرية مزيفة بل هي قيد مؤلم على إنسانيته ، تخطَّى وجعَه بما لديه من متعة جارفة تنسيه الآلام  . هاهو يأكل ويشرب حلال الوجبات وحرامها ، وهاهو يعيش  متفلتا من كل شعور  بالإثم الذي يرتكبه في الليل والنهار . وهاهو يباهي بأنواع ملذاته وسهراته ، وعنفوانه على أهل البصيرة الذين طالما نصحوه ، بل وأنَّبوه على فعل ما سيندم عليه ذات يوم لابد منه مهما طال الأمد . كان يتعالى على النصيحة ، ويفر من مواطن تضارب الأفكار حين يجد نفسه مفلسا أمام حقائق الحياة . ولطالما سخر من هيئة شاب سما بروحه ، وترفعت نفسُه عن وسخ الحياة المتماهي مع الأذى للنفس وللمجتمع ، كان سموُّه بحياته عنوان الوعي الذي علم من خلاله قيمة الحياة الدنيا ، ومقدار مكانتها بالنسبة لحياة الآخرة ، يوم تبعثر القبور ، ويخرج الأموات من الأجداث أحياء يواجهون المصير المحتوم إما إلى بهجة في نعيم الخلود ، أو إلى شقاء أبدي في عذاب الجحيم .

    فأصحاب بهجة النعيم الأبدي ترفعوا عن الرغبات الخسيسة ، وعن الأهواء التي أذاقت حلاوة اللذة للحظات وحسب ، ولكن رياحها العاتيات ساقته إلى النفق المظلم ، وشعر بعظم الخسارة ، ولكن هيهات  فقد فات الأوان ، وجفت الأقلام وطويت الصحف ، ونادى المنادي : ( اخسؤوا فيها ولا تكلمون ) . فيحاول أن يفهم أكثر ، فلعل ... وعسى ... ولكن يأتيه الجواب كالصاعقة إذا ما سألوا الخروج من النار ، والرجعة إلى هذه الدار التي نحن فيها الآن ، فيُقال لهم : اخسؤوا فيها ، خالدين صاغرين مهانين ولا تكلمون ، اخسؤوا فيها فلا جدوى من إعادة سؤالكم هذا ، فإنه لاجواب لكم أبدا . ألا فليتذكر الغافل ، وليقف مع ضميره الحي ولو للحظات قليلات ، ليعلم أن ماسيكون هو حقيقة واقعة لاريب فيها ، وليسأل نفسه الآن أين لذائذ الليالي ؟ وأين مشاوير الغيِّ في الصباح والمساء ؟ أين زخـم السهرات الماجنات ؟ وأين الطيش الذي يعمي إلا من رؤية المحرمات ومعاقرتها ؟ ويصم  إلا من أصوات المنكرات ، وآلات الشيطان ؟ فأين الطعم  الذي كان يجده في غمرات اللذائذ ؟  إنه هباء ... سراب ... بل هو حلم جميل وسرعان ماطواه طلوع النهار . إنها الرفاهية المزعومة ، التي أخذت بألباب الرجال والنساء ، وجرفت الكثير من الشباب أبناء اليوم وقادة المستقبل الذي ترجـوه الأمةُ الموجوعة أن يكون بلسما لجراحاتها ، ونهارا مشرقا بالسعادة بعد هذا الليل الحالك بالنوازل والملمات . وهكذا انهارت الأجيال أجيال أمتنا التي كانت خير أمة أخرجت للعالمين ، انهارت في زمن السفاهة والفاسدين ، وركضت تلهث خلف معتقدات الضالين والبطالين والمفلسين من أبسط قيم الحياة الطاهرة .

وسوم: العدد 932