في انتصار غزة في حربها الرابعة مع إسرائيل قدوة للعرب والمسلمين

تقاربت زمنيا الذكرى الرابعة والخمسون لهزيمة العرب النكراء في 5 يونيو 1967 مع انتصار غزة في حربها الرابعة مع إسرائيل . وراح كثيرون يوازنون بين الحربين ، وبديهي أن يكون الفرق بينهما كبيرا في كل شيء لصالح غزة التي مثلت العرب الشرفاء في هذه الحرب ، فشرفتهم وأعلت رؤوسهم ، وأغرت كثيرين ، وبينهم عسكريون شاركوا في حرب 1967 ، بالتساؤل عن مسوغات هول هزيمة العرب في تلك الحرب ، ومسوغات الإذلال الذي صبته عليهم إسرائيل  منذ ذلك الزمان . كيف انتصرت غزة على إسرائيل بعد 54 عاما من حرب 1967 كثر فيها مستوطنوها من مليونين ونصف إلى ستة ملايين أو يزيدون قليلا ،وتضاعفت فيها قوتها العسكرية والاقتصادية والصناعية أضعافا عديدة ، واعترفت بها أثناءها  سبع دول عربية ؟! وتتسع غرابة الموازنة حين نتذكر أن القوات الإسرائيلية احتلت قطاع غزة في 1967 دون أن تستخدم طائرة واحدة بينما استخدمت في أحد أيام  الحرب الأخيرة مائتي طائرة في هجوم واحد ، وأن إحدى وحداتها وصلت إلى مستشفى الشفاء الساعة العاشرة من يوم الاثنين ، أول أيام حرب 1967 ، ودخلت وحدة أخرى مدينة دير البلح الساعة الحادية عشرة . الفرق الكبير بين الحربين متعدد الأبعاد ، ومن هذه الأبعاد أن رجال المقاومة في غزة يوقنون أنهم يحاربون عدوا وجوديا سرق وطنهم باطلا واغتصابا ، وأنهم أول الملزمين بمقاتلة هذا العدو ، وأنه لا سياسة منافقة ولا مزايدة مغرضة في محاربة هذا العدو ، وأنه " ما حك جلدك مثل ظفرك ،فتولَ أنت جميع أمرك ! " ، وأنه مهما كان تأييد الآخرين لك صادقا جادا فلن يكونوا بدلاء منك . وهؤلاء الرجال ، وجلهم من الشباب ، خبروا العدو عن قرب ، وبعضهم  عمل في الداخل المحتل أو سجنته إسرائيل  سنوات ، ففهموا نوعية مستوطنيها ، مكونات الضعف ، ومكونات القوة . وهم ، رجال المقاومة ، قرآنيون ربانيون تربويا وأخلاقيا ، يؤمنون إيمانا كاملا بكل ما في القرآن العظيم من وعود ربانية محتومة التحقق بنصر المؤمنين من مثل : " وكان حقا علينا نصر المؤمنين ." ، و : " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم . " . ويؤمن هؤلاء الرجال أن من يُقتل ذوداا عن دينه وحقه شهيد ، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون . ولا تلقى بينهم من يدخن ، وبعضهم لا راتب له من انتمائه للمقاومة إن كان له مصدر دخل آخر .  وآمن هؤلاء الرجال بأن سوء الأحوال في غزة ، وحصارها 14 عاما ،وكثرة أعدائها إسرائيليين وعربا ؛ لا يجب أن تكون معوقا للإعداد العسكري للمواجهة التي لم تتوقف إسرائيل عن التهديد بها ، فصنعوا صواريخهم من أبسط المواد الحديدية ، ومنها مواسير انتزعت من مخلفات المستوطنات الإسرائيلية السابقة في غزة . وهربوا ما قدروا على تهريبه من الصواريخ والقذائف متغلبين على صرامة إحكام الحصار في الجانب المصري من الحدود . وأعدت المقاومة عناصر فنية ماهرة في الحرب السيبرانية لاختراق مؤسسات العدو العسكرية والأمنية والاستخبارية والاقتصادية والإعلامية ، بل ساهم شبان في هذه الحرب وفي الحروب الثلاث السابقة بصفتهم الفردية  المستقلة . وما سلف أنتج أداء قتاليا شجاعا ومنضبطا أدار حرب الأحد عشر يوما في ثبات وثقة وتحدٍ واستخفاف متزن بتهديد العدو بتصعيد عدوانه مثل الإلماح إلى الدخول البري الذي استهدف منه دفع رجال المقاومة إلى النزول إلى الأنفاق لقصف بعضها وقتلهم . وأدهش أبو عبيدة الصديق والعدو بما في بياناته المتابعة لتطورات الحرب من روح الإرادة ونارية التحدي ، وأين هذه الروح وهذه النارية في قوتهما من البكاء والعويل في إذاعات مصر وسوريا والأردن بعد أن بان انتصار إسرائيل الخاطف في حرب 1967 من أول  يوم ، ومسارعة الدول الثلاث إلى الموافقة المذعنة على قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار موافقة استسلام وانهزام . لانتصار غزة في حرب الأيام الأحد عشر مفاعيل كبرى ستتلاحق تباعا ، وشهدنا بعضها في إسرائيل في التشكيل الائتلافي الذي يعمل على إسقاط نتنياهو ، وفي التحذير الاستخباري من حرب أهلية إسرائيلية . ونشهد بين شرفاء العرب والمسلمين حماسة فياضة  في تأييد المقاومة الفلسطينية ، واندفاعا شعبيا لرفض التطبيع مع هذه الدولة المجرمة الفاسقة ، وسخرية مستخفة من الذين تحمسوا للتطبيع معها . ونشهد تعاطفا واسعا متنوعا مع الفلسطينيين في أوروبا وأميركا . في أميركا امتنعت بعض الموانىء عن تفريغ حمولات سفن إسرائيلية غضبا من إسرائيل وبغضا لها ، وهذا ليس بالقليل . فهل يقتدي العرب الشرفاء والمسلمون بغزة المنتصرة في محاربة إسرائيل ؟! الأنظمة الحالية لن تقتدي أبدا لانضفار مصيرها بمصير إسرائيل في حزمة واحدة ، ولكون الراعي لها ولإسرائيل واحدا هو أميركا والقوى الاستعمارية العتيقة مثل بريطانيا وفرنسا إلا أن مفاعيل انتصار غزة ستمضي في مجراها في خطين متوازيين . خط زلزلة الكيان الإسرائيلي زلزلة داخلية متتابعة ، وخط إشعار الشعوب العربية والإسلامية باستطاعتها أن تزيح عن ظهرها هذه الأنظمة التي تستصدر شرعيتها المغتصبة من قوى خارجية لخدمة أهداف ومصالح هذه القوى لا أهداف ومصالح هذه الشعوب . وستلوذ إسرائيل بهذه الأنظمة لصد مفاعيل انتصار غزة لما لهذه المفاعيل من خطر مصيري على الطرفين ، إسرائيل والأنظمة العربية ، ومهمة الشعوب العربية والإسلامية  أن تغلب اقتداءها بانتصار غزة على تحالف إسرائيل مع هذه الأنظمة .  

                                        *** 

 الثلاثاء ، ثاني أيام الحرب ، كنت في سبيلي إلى صلاة العشاء ، وفجأة سمعت أصوات انطلاق صواريخ متتابعة في الجنوب من المكان الذي أسير فيه . كانت ثمانية تصعد مضيئة قاصدة الشمال ، فكبرت  وقد فاض في نفسي شعور نادر بالعزة والثقة غسل ما فيها من القلق والخوف من  الحرب على كل إنسان وكل شيء في غزة . ركضت إلى المسجد ، وناداني صوت من ورائي : " ارجع ! صلِ في البيت ! " .  السماء والأرض قذائق وانفجارات وهدير طائرات . إنها الحرب ، ونار الحرب لا تعصف سهلة . غزة الباسلة تقاتل . غزة التي لو كانت مدينة في وطن أمة أخرى لأغرقتها حبا وتمجيدا ، ولاقتدت بها مدائن الأمة الأخرى ، ولتسمت أماكن أخرى باسمها . إيران سارعت بتسمية صاروخ جديد ب " غزة " . تعجلنا الإقامة  ، ولم نقم التراويح . وتوالت أيام الحرب بما يسرويعز وبما يحزن ويفجع ، وفي ختامها غلب ما يسر ويعز  ما يحزن ويفجع . أرغمت غزة العدو على استجداء وقف الحرب ، فانتصرت ، وثأر اثنين العاشر من مايو 2021 الذي صنعته بدمائها وبسالتها ودأبها وجدية استعدادها للحرب من اثنين الخامس من يونيو  1967الذي صنعته ثلاث دول عربية ذهبت إلى الحرب أقل جدية ووعيا بخطورتها من ذهاب صبية حارة من الحارات إلى مباراة كرة قدم مع صبية حارة أخرى ، و ذهبت إليها إسرائيل ذهاب شعور بأنها حرب حياة أو موت .   

وسوم: العدد 932