من دفتر الذاكرة : قصتي بايجاز منذ عام ١٩٨٠وحتى اليوم

مجتزأة من مذكراتي (٢٥ محطة)  " محطات صغيرة في حياة  انسان عادي "

اعزائي القراء..

ابتعدت عن الوطن منذ اكثر من اربعين عاماً ليس من اجل العمل وهو حق مشروع لطالبه، بل  من اجل الهروب بنفسي وعائلتي من  ظلم لم يحاكيه اي ظلم في العالم  .

فهل نجاح المهندسين بصندوق انتخابي شريف في نقابتهم والتي هي ملكهم يقتضي ان يترك الشرفاء اعمالهم ووطنهم حتى لايلحق بهم افاعي وعقارب المجرم  ليكدسوهم مع مئات الالوف من المعتقلين الاخرين او يكون مصيرهم القتل والحرق ؟ هذا ما حصل ، اخونا المحامي هيثم المالح روى قصة نقابة المحامين.. والمهندس غسان نجار روى قصة نقابة المهندسين  وهناك الكثير من النقابيين التابعين للمعلمين والصيادلة والاطباء والمهندسين الزراعيين والصحفيين والادباء   كتبوا عن مآسيهم بسبب انتفاضة نقاباتهم  طلباً للحرية.

هربت بنفسي وكان معي اخي المهندس رضوان والذي عاقبوه بحمص حيث كان مدرساً في معهد البترول  بسبب القائه  درساً يشرح فيه حقيقة علمية عن  الفلزات ووجودوها نقية بالطبيعة بنسبة ٩٩،٩ فضحك الطلاب لانها نسبة انتخاب السيد الرئيس الوهمية، وذهب اخي بسببها الى المعتقل "... تصوروا ذلك .. " .  كثير منا غادر بلده بسبب الظلم الذي لا كوابح له . فتركت ٣ مشاريع ورائي وفيهم كل ما املك بعد ان هددوا الوالدة رحمها الله عندما زاروها فجرا ً بضرورة مغادرتنا والا فان والدتي مسؤولة عنا ان هدرت دماؤنا.

 وفعلاً نصب لنا كمين في سيارة اخي الدكتور حسان  قرب جامع عمر بن عبد العزيز اثناء توجهنا لبيت الوالدة بنسف السيارة بالا ار بي جي من وراء سور الحديقة واتهام الطليعة بقتلنا ، وتغيرت الخطة باخر لحظة ، حيث اتصل ضابط مخابرات جذوره من حلب ،  في الليلة التالية يخبر اخي  عن المخطط الاغتيال ، فكانت رحلة جماعية لخارج الوطن   .

عام كامل في استنبول في العهد  الانقلابي التركي كنعان ايفرين  ، تنقلنا خلالها من فندق الى فندق ، ثم دعانا احد الاصدقاء الى شقة جديدة لم يسكنها بعد في بناء في استنبول الاسيوية، اقمت فيها مع اخي لبضعة ايام فقط ،وفي اليوم  الاخير لنا هناك سمعنا ضجة في البناء ، نظرنا من الشرفة فاذا بسيارات الشرطة والاسعاف امام البناء .  ارتجفنا وقلنا هربنا من مجرم ليتلقفنا مجرم اخر هو  كنعان ايفرين ، صرنا نحسبها ، فهل لاحقنا كنعان بسبب انتهاء اقامتنا بتركيا؟  ، الا ان الموضوع كان اخطر من ذلك،  حيث وقعت جريمة قتل بالطابق الاول . قلنا : الله اكبر نهرب من مكان ليستقبلنا اخر ، فتركنا البيت مساءاً الى اي فندق صادفناه امامنا،  حتى قام عدد من اخوتنا الطلبة في جامعة استنبول  باستئجار بيت على طريق المطار باسمهم  وسكناه قرابة  عام كامل ، كنت خلالها اعيش  على مبيعات  القهوة التي تحضرها ام الاولاد معها  اثناء زيارتها لي فابيعها وكان يومها لها قيمة و اتعيش بثمنها . بينما الاموال مجمدة عند  مشاريع النظام. 

 وخلال اقامتي كنت  اتصل ببعض الاصدقاء في السعودية لتأمين عمل  لي هناك ، فاستجاب الدكتور المهندس فوزي حمد رحمه الله وكان مسؤولاً فنيا على بناء مجمع جامعة الامام  محمد  بن سعود ، فحدث المسؤولين بشأني ، فارسلوا لي طلباً لسفارة السعودية بالقاهرة مراعاة لظروفي حيث عودتي لدمشق مستحيلة . و سافرت الى القاهرة واخذت التأشيرة واستلمت عملي  كمهندس ميكانيك مساعداً للدكتور فوزي حمد . وبالمناسبة فان دعمه لي لن  انساه ابداً ، ثم دعوت العائلة واقمنا في السعودية ٧ سنوات لم يكن فيها ازعاج اطلاقاً  . وبعد سبع سنوات حصلنا على الاقامة في الولايات المتحدة بطلب من عائلة زوجتي المقيمة في امريكا منذ اواخر ستينات القرن الماضي ، لنبدأ رحلة صعبة مع الاولاد . خبرتي الهندسية جيدة ، ولكن ان لم تدعمها بخبرة في امريكا فيصعب حصولك على عمل ، في هذه الفترة افتتحنا محلا  لبيع البسة اطفال في مكان مناسب في بروكلين - نيويورك تديره زوجتي بالكاد يغطي بعض مصاريفنا ، وانا توجهت الى جامعة البولي تكنيك للحصول على ماجستير في الهندسة الميكانيكية  بقرض بنكي وحصلت على درجة الماجستير في الانتقال الحراري في طبقات الجو العليا وسبب هذا الاختيار كانت رغبتي بالالتحاق  بهيئة الفضاء الامريكية  ناسا .

مرت الايام والشهور ومازالت حياتنا صعبة.. مراقبة اطفالنا- تامين  حاجاتنا - دراستي .. تامين دخل لنا...

تعرفت على مهندس امريكي باكستاني يدير شركة مقاولات بإسمه، عرضت عليه العمل عنده مجانا ، فقط لإضافة  فقرة في سيرتي الشخصية تنص على شغلي لعمل باختصاصي  في الولايات المتحدة واضافتها لخبراتي المتعددة ، طبعاً قبل الرجل ، انجزت له مشروعا ، وفي نفس الوقت قدمت على وظيفة في تصميم وادارة المشاريع الحكومية العائدة لمدينة  نيويورك ، واستطعت الحصول على عمل كمدير للمشاريع الخاصة ، ثابرت بجهد كبير في اظهار خبرتي الهندسية في التصميم والاشراف على مشروع مختبرات كشف الجريمة ومكافحة الارهاب والذي يعتبر ثاني اكبر مشروع  في العالم . فكان نقطة تحول في حياتي المهنية حيث انهيت الاشراف عليه بجدارة رغم وجود خمس شركات كبيرة للمقاولات  كل باختصاصها تعمل في المشروع  بنفس الوقت . وبعد انتهاء العمل وقص الشريط وفي احتفال رسمي سلمني محافظ نيويورك  شهادة تقدير امام المسؤولين في نيويورك  . 

ودمعت عيناي...

 وانا استعرض هذا التاريخ الطويل من الانتقال  من مكان الى اخر ومن دولة الى اخرى هرباً من  الظلم والقتل والتعذيب الى دولة  منحتني جائزة لم يمض علي وجودي فيها بضع سنوات فقط  . لقد كان امراً مؤلماً .. ومفرحاً بنفس الوقت.

 تم ترفيعي الى مدير المشاريع الهندسية لادارة الصحة في نيويورك ، قضيت فيها ٢٢ عاماً معززاً مكرماً بادارة مشاريع انسانية معظمها يتعلق بادارة  الصحة من مختبرات ومستشفيات ومستوصفات.

الابناء لؤي  وقصي وغيث غدوا  رجالا ً ولينا غدت سيدة افتخر بهم ، تزوجوا جميعاً ومنحوني رتبة جد عن جدارة  .  والاولاد احتفظوا بوطنيتهم واخلاصهم لوطنهم ولدينهم ولعروبتهم 

والامل  في اعادة الوطن لابنائه مازال موجودا لدي ... 

والانتصار من اجل اولادنا واحفادنا هو في مقدمة اهتماماتنا..

واعادة سوريا الحبيبة الى الطريق القويم هو غايتنا  ولن نحيد عن ذلك مهما كان الثمن  ، 

و لنا عودة معاً باذن الله للوطن  لاعادة بناء سوريا مجتمعاً واخلاقاً وعمراناً من جديد .

لنبقى يداً واحدة  مهما تعددت اسماء الاحزاب والهيئات والتجمعات ...

المهم الاخلاص للوطن والعمل من اجله حتى التحرير واعادة البناء 

تحياتي 

وسوم: العدد 935