كلمة الدكتور فرحات عن الدكتور محمد أديب صالح

بسم الله الرحمن الرحيم

استاذي الدكتور محمد أديب صالح

عرفته منذ كنت طالبا في معهد العلوم الشرعية الإسلامية للجمعية الغراء بدمشق، حيث كان مدرسا في المعهد، وفي ثانوية السعادة التابعة للجمعية في البناء المقابل للمعهد، وكان أستاذا متميزا عن بقية الشيوخ الذين عرفناهم في المعهد.

كان في ريعان الشباب، تظهر الفتوة والحيوية في حركته ونظراته، وكان خطيبا مفوها، ومحدثا بارعا، يأسر السامعين بفصاحته وبلاغته المتميزة، وبصوته العذب، ونبراته الخاصة التي لها وقع محبب على الأسماع.

وفي عام 1953 كنا في الصف الثالث متوسط، وكان مدرسنا للأدب العربي، وكان من المقرر في الكتاب- الشاعر مجنون ليلى- وكنا متحفزين ومتطلعين لحديث أستاذنا عن هذا الشاعر، وكيف سيتحدث أستاذ وشيخ عن مثل هذا الشاعر، وإذا به يبدأ حديثه كما يلي:

هذا شاعر اشتهر بالحب والعشق- عافانا الله من ذلك، ولا ابتلانا به- وفجأة يفتح الباب، ويدخل شيخ معمم هو: نواب صفوي-زعيم حركة فدائيان إسلام في إيران-وكان قادما من زيارة للقاهرة، حيث التقى بالطلبة الجامعيين في جامعة القاهرة، وتسببت زيارته بأحداث

ومظاهرات وقعت هناك، اعتقل على إثرها عدد من طلاب الحركة الإسلامية.

وتحدث إلينا بحماس غريب- وكأنه يرقص من شدة حماسته- فذكر له أحد الطلاب: أننا في عهد الشيشكلي، وأنه لا يسمح بمثل هذ النشاط الذي يدعو إليه، فقال: نقتله إن شاء الله.

وكنا حريصين على لقاء أستاذنا الشيخ أديب خارج المعهد، فحدد لنا موعدا أسبوعيا نلقاه به في منزله في حي الميدان، فكنت أنا وبعض الزملاء منهم الأخ عبد الله الطنطاوي نزوره في بيته، ونتلقى التوجيهات المفيدة.

وكان شيوخ المعهد لا يحبون للطلبة أي نشاط خارج المعهد، بحجة حرصهم على وحدة المشرب. وكانوا يصرحون بهذا علنا، ويحاسبون المخالفين عليه.

وقد رآنا أحد شيوخنا في الميدان-نائب مدير المعهد- أنا، والأخ عبد الله الطنطاوي- فأراد أن يعرف لماذا نحن هناك، فعقد لنا جلسة خاصة-شبه محاكمة- فقال لنا: لقد رأيتكم في الميدان ذلك اليوم. فماذا كنتم تصنعون؟

فقال الأخ عبد الله الطنطاوي: كنا في زيارة أستاذنا الشيخ أديب. فقال الشيخ:

وأنا أستاذكم فلماذا لم تزوروني؟ ثم قال:

ماذا تستفيدون من زيارة الشيخ أديب؟ الا تكفيكم علوم المعهد؟

قال الأخ عبد الله: نستفيد من أستاذنا الشيخ أديب التوجيه، ونستفيد من المعهد العلم.

فقال الشيخ: ما شاء الله. صاروا يفرقون بين العلم، والتوجيه.

ثم قال الشيخ: وماذا تتعلمون- عند الشيخ أديب- غير التوجيه؟

فقال الأخ عبد الله: الرسول-صلى الله عليه وسلم-يقول:

"استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان."

فقال الشيخ: لكن ليس على أستاذك تكتم يا عبد الله.

فقال الأخ عبد الله: لم يقل الرسول -صلى الله عليه وسلم: إلا على أساتذتكم.

فهذا نموذج لما كان من مواقف الشيوخ الحريصين على المشرب الواحد.

أما أستاذنا الشيخ أديب فلم يكن حريصا على وحدة المشرب، ومن ثم فقد جمع في دراسته بين الشريعة والحقوق، وحصل على الدكتوراه في الحقوق، من جامعة القاهرة عام 1961

ونحن دخلنا كلية الشريعة بجامعة دمشق عام 1956، وتخرجنا منها عام 1960، ولم يتح لنا أن ندرس على أستاذنا في كلية الشريعة، لأنه كان موفدا إلى القاهرة للحصول على درجة الدكتوراه. غير أننا كنا حريصين على لقائه في الإجازات التي كان يقضيها في دمشق. حيث كنا نرافقه في زيارة أستاذنا السباعي في منزله-رحمه الله- كما كنا نزوره في منزله في قطنا، مع الأخوين الكريمين الأستاذ عمر عبيد والأستاذ عدنان زرزور.

وبعد مجيء استاذنا من القاهرة، وحصوله على درجة الدكتوراه، عين أستاذا في كلية الشريعة، وكنا حريصين على لقائه كل ما سنحت الفرصة، وكثيرا ما كنا نرافقه إلى زيارة أستاذنا السباعي. وفي اليوم الذي توفي فيه أستاذنا السباعي كنا على موعد فيما بيننا- لزيارته-حيث كنا سننطلق من بيت أخينا الدكتور عدنان زرزور في الميدان، ففاجأنا الخبر المفجع بوفاته-رحمه الله رحمة واسعة-.

وبعد وفاة أستاذنا السباعي- مؤسس مجلة حضارة الإسلام، ورئيس تحريرها- رشح أستاذنا

الدكتور أديب ليكون رئيسا لتحرير المجلة، ورغب إليّ أن أكون معه مديرا للتحرير، وهكذا أتيح لي أن أكون معه في المجلة، حيث كنا نلتقي يوميا في غالب الأحيان. بل كنا نذهب معا إلى البيت، وينام عندنا أحيانا. واستمر ذلك ثلاث سنوات من سنة1964-1967

ولي مع أستاذنا الدكتور أديب ذكريات كثيرة في المجلة، وخارجها، وقد استفدت من صحبته كثيرا، وكانت المجلة ملتقى للكتاب والزائرين من أساتذة الجامعة، ومن القادمين إلى البلد من العلماء والمفكرين.    

وعلى الرغم من فارق السن بيني وبينه، وبين كونه أستاذا لي، وكوني تلميذا له، لم أكن أشعر بهذه الفروق بيننا. وذلك يدل على كرم خلقه، وحسن معشره. بل أحيانا يستشيرني في بعض الأمور الخاصة به. وكثيرا ما يطلب مني مشاركته في الامتحانات الشفهية، لطلبة كلية الشريعة، وتصحيح أوراق الامتحانات-بعد أخذ الموافقة على ذلك من الإدارة-.

ومن الطرائف التي أذكرها -أثناء الامتحانات الشفهية في كلية الشريعة-أنه دخل علينا طالب معمم، بجبته الواسعة، وزيه الخاص -وهو ابن لأحد العلماء-يقول لنا: سيدي الوالد، يقرئكم السلام، ليعرفنا أنه ابن ذلك العالم- لعل ذلك يفيده شيئا في مثل هذا الامتحان-.

فقال لي الدكتور أديب: أسأله أولا-وكان المقرر: تفسير آيا الأحكام- فقلت للطالب:

ما الحكمة في أن جريمة القتل: تثبت بشاهدين. وجريمة الزنا: لا بد فيها من أربعة شهود؟

فسكت الطالب، ولم يعرف الإجابة؟

فقال له الدكتور أديب: إذا كان السيد الوالد يسمح لك باعتلاء المنابر، فليس معنى ذلك أن تهمل العلم-وهذا كان إشعارا له- بأن كلامه عن سيده الوالد، لن يفيده في الامتحان.

ويمتاز أستاذنا الدكتور أديب بحدة الذكاء، وبعد النظر، والحلم والأناة، وروية التفكير، وهدوء الطبع، والبعد عن المسارعة في اتخاذ القرار، والحرص على الاستشارة، حتى لمن هم دونه.

وأول قرار اتخذناه في المجلة: أن يكون صدورها منتظما في غرة كل شهر قمري-لأنها لم تكن منتظمة الصدور- ولم يكن في المجلة موظفون، سوى مراسل يحمل المقالات إلى المطبعة، ثم يعود بها إلى المجلة.

ومثل هذا القرار كانت تكاليفه باهظة الثمن، لأن معظمه يقع على عاتق مدير التحرير، حيث يقرأ المقالات الواردة إلى المجلة، متبينا ما يصلح منها للنشر، وما لا يصلح. ثم يرسل الصالح منها إلى المطبعة، ثم يقوم بمراجعتها بعد الطباعة، لتصحيح الأخطاء المطبعية، كما يرسلها إلى الرقابة الحكومية، ويتابعها لأخذ الموافقة على نشرها. بالإضافة إلى الأعمال الإدارية الكثيرة من تتبع المراسلات البريدية، والردود عليها- فيما يتعلق بالمشتركين والتوزيع- إلى غير ذلك من الأعمال الكثيرة. ومثل هذا العمل-ولا شك - مرهق ومستغرق للوقت.

فإذا أضفنا إلى ذلك أن المطالب بهذه الأعمال- مدرس للتربية الإسلامية في ثانويات دمشق- لابد أن يكون على رأس عمله في الثامنة صباحا، وأن عليه متابعة طلبته في ما يكلفون به من وظائف وأعمال، وأنه بعد انتهاء دوامه المدرسي- الثاني عشرة ظهرا- عليه أن يكون على مكتبه في المجلة-في طابق تحت الأرض لا يرى الشمس، ولا تراه-وأن عليه أن يطلب طعام الغداء من المطعم عن طريق الهاتف، وان يستمر في عمله-دون استراحة، في مكتبه في المجلة- إلى الحادية عشرة ليلا، ليلحق بعد ذلك آخر باص- الحادية عشرة والنصف -باتجاه منزله في بلدة التل، ليصل إلى منزله الثاني عشرة ليلا، أمكننا أن نتصور مقدار العناء الذي يلحق من يقوم بمثل هذه الأعمال. ولا نستغرب بعد ذلك إذا وقف مرة أمام طلبته لا يستطيع الكلام-لعدة دقائق، وجلس على الكرسي-ليستأنف نشاطه بعد هذه الاستراحة السريعة.

مواقف مع الرقابة في وزارة الإعلام:

المجلات-عموما-تخضع لرقابة وزارة الإعلام مرتين: مرة بعد الطباعة مباشرة، ومرة في صورتها النهائية قبل التوزيع.

وكان الموظف الذي نراجعه الأستاذ أديب غنم-وسبق لي معرفته عند ما كان مديرا للمركز الثقافي في التل-وكان التعامل معه إلى حد ما معقولا، باستطاعة الإنسان أن يناقشه إذا اقتضى الأمر. وأذكر مرة أن صاحب مكتبة "دار الكتب العربية" رغب في إعادة طباعة كتاب:

"مباد ي ء الإسلام" للمودودي- الذي سبقت له طباعته- فلم توافق الرقابة على إعادة الطبع،

كما أنه اشتكى من عدم موافقة الرقابة على استيراد كتاب "في ظلال القرآن" من لبنان. وطلب إلي أن أتكلم مع الرقابة عن هذين الكتابين.

وحينما تكلمت مع الأستاذ أديب عن سبب عدم الموافقة على إعادة طبع كتاب "مباديء الإسلام" للمودودي، اعتذر بأن في الكتاب كلاما عن اليهود والنصارى، وأن هذا يمكن أن يشكل مشكلة طائفية. فقلت له: الكتاب سبقت طباعته، ولم يشكل مشكلة طائفية. ثم قلت له: إن القرآن الكريم فيه حديث عن اليهود والنصارى. فهل بإمكانكم أن لا توافقوا على طباعته؟

قال: القرآن لا نستطيع أن نمنع طباعته. أما غيره فيمكن.

ولما سألته عن كتاب" في ظلال القرآن" قال: الكتاب موجود في المكتبات، وليس ممنوعا.

قلت: ولكنكم لم توافقوا على استيراده. قال: نعم لأننا نراعي التوازن الفكري في البلد، فحينما يكون هناك تركيز على كتاب معين، أو مؤلف معين، فإن من حقنا أن نحد من ذلك.

ثم جاء موظف خلفا للأستاذ أديب-من محافظة السويداء- وسبق لي أن عرفت أخباره

حينما كنت مدرسا هناك. وقد ذهبت إليه مرة-بعد إرسال مواد العدد-ففوجئت بعدم الموافقة على مقال بعنوان" الفكر الإسلامي المعاصر" لغازي التوبة، ولما سألته عن السبب قال: هذا المقال فيه نقد لمحمد عبده. والمفروض أن مجلتكم تدافع عن أمثال هؤلاء العلماء.

قلت له: إذا كان عندك رأي مخالف لما ذهب إليه الكاتب، فاكتب ردا عليه، ونحن ننشره لك في المجلة. قال: أمثال هؤلاء العلماء: لا يمكن أن يوجه إليهم نقد.

وجاء الأستاذ غازي التوبة- يستفسر عن عدم نشر مقاله-فأخبرته بعدم موافقة الرقابة على ذلك، وقلت له: هذا الموضوع يمكن أن توسعه وتجعله كتابا. وهكذا كان. وقد صدر الكتاب بهذا العنوان " الفكر الإسلامي المعاصر-دراسة وتقويم-".

وحينما أعدم المفكر الإسلامي الكبير "سيد قطب" كان لابد لنا من عمل شيء، فقررنا أن يكون للمجلة عدد خاص بهذه المناسبة، وبدأنا بجمع المادة المناسبة، فأخذنا سورة البروج من كتاب سيد قطب "في ظلال القرآن"، وأخذنا مقالا منا سبا من كتاب" قبسات من الرسول" لمحمد قطب، ومقالات أخر لبعض الكتاب. وهكذا استطعنا تكوين عدد خاص بالمناسبة، وبقيت

مشكلة موافقة الرقابة على العدد، فأرسلنا مواد العدد إلى الرقابة- دون ذكر أسماء الكتّاب-

فجاءت مع الموافقة. ولما أضفنا إلى المقالات أسماء كتّابها- وأرسلنا العدد بصورته النهائية، قبل التوزيع-لم يوافق عليه، فذهبت إلى الرقابة وسألتهم عن سبب عدم موافقتهم، فقالوا لماذا

لم ترفقوا المقالات بأسماء كتابها أولا؟ قلت حتى تكون أحكامكم موضوعية، لا تتأثر بالأسماء.

والحمد لله لقد كانت أحكامكم موضوعية. فقال الموظف: أنا لا أستطيع أن أتحمل مسؤولية الموافقة. اذهب إلى الأمين العام الأستاذ صابر فلحوط-والأستاذ صابر يعرفني وأعرفه من الجامعة حيث كنا نلتقي في اتحاد الطلبة ممثلين لكلياتنا- فد خلت عليه، وسألني عن المشكلة؟ فأخبرته

فقال: أنا ضد إعدام سيد قطب، إنه أحسن من يتكلم في الإسلاميات. ونحن سبق لنا أن درسنا كتابه" التصوير الفني في القرآن"-في كلية الآداب- فاذهب ووزع العدد ولا ضير.

وهكذا أمكن توزيع العدد بعد موافقة أمين عام وزارة الإعلام.

وسوم: العدد 936