«أنذال التوراة» الأوروبيون

تأمّل يا رعاك الله، كما كان يردد محمد توفيق البجيرمي الإعلامي الفلسطيني/ السوري وأستاذ الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق، هذا الاكتشاف الإسرائيلي «الخارق» الذي يمزج البيولوجيا بالأركيولوجيا: الفلشتينيون، أو الفلستينيون لمَن يشاء، أو «أنذال التوراة» حسب التعبير الشائع لدى عدد غير قليل من الباحثين الغربيين في تاريخ فلسطين القديم؛ ليسوا من أبناء الشرق الأوسط، بل وفدوا من جنوب أوروبا إلى ساحل عسقلان قبل 3,000 سنة على الأقلّ، في القرن الـ12 قبل الميلاد، طبقاً لمعطيات عيّنات الـDNA التي جُمعت من 100 هيكل عظمي في مواقع مختلفة من فلسطين.

دانييل ماستر، رئيس «بعثة ليون ليفي إلى عسقلان»، يتفاخر بأنّ هذا الاكتشاف لا يزعم «الاستناد إلى مدونات تحملها رقيمات هنا أو هناك، ولا على أساليب مماثلة في صناعة الفخار والأواني، بل على الـDNA للشعوب ذاتها»؛ الأمر الذي أكده معهد ماكس بلانك الألماني المتخصص في التاريخ البشري الحيوي. صحيح أنّ تدقيق عيّنات عمرها 3,000 سنة أمر له حدوده، كما تقول ميشال فلدمان الباحثة في المعهد والمتخصصة في الأركيو – جينات، إلا أنّ «هذا المكوّن القديم مشتقّ من أوروبا، أو من جنوبها على وجه التحديد»، تتابع فلدمان.

للاكتشاف «الخارق» هذا ما له، وعليه ما عليه، إذا صحّ كلياً أو حتى جزئياً بالطبع؛ في ذاته أوّلاً، وضمن سياقات أخرى أكثر تعقيداً، وإشكالية، تخصّ علوم الآثار الإسرائيلية، أو الصهيونية بالأحرى. فليس تفصيلاً عابراً، في المساوئ أو المحاسن، أن يبرهن الـDNA على أنّ جوليات (العملاق أمام الفتى داود)، ولكن أيضاً دليلة (التي قصّت شعر شمشون الجبار)، وسواهما كثر من «أنذال التوراة» الذين أجهزوا على الملك شاول وأبنائه؛ يتحدرون من أصول أوروبية، وليست مشرقية شمالية. ولن تكون المعلومة خفيفة الوطأة على حكاية الأرض التي أقطعها الربّ للعبرانيين تحت اسم «أرض الميعاد»، لأنّ التاريخ هنا سوف يتباين حول أسبقية السكنى، وهوية الأقوام التي عبرت البحر الأبيض المتوسط مقابل تلك التي شقّ لها الربّ الدربَ عبر البحر الأحمر!

وذات يوم غير بعيد كان الحاخام إليتسور سيغيل قد دعا إلى تنفيذ عمليات انتحارية ضدّ الفلسطينيين، عملاً بمبدأ الشهادة الذي استنّه البطل اليهودي شمشون؛ وفي مقال بعنوان «التضحية بالنفس من أجل الربّ» كتب التالي: «الانتحار في زمن الحرب حلال إذا كان هدفه نصرة إسرائيل، والمتطوّع لأداء مثل هذه العمليات سوف يكون في عداد الأبطال والشهداء». يومها كان سيغيل يتولى الإشراف على الهداية الروحية في مستوطنة تابواه التي تحتلّ إحدى هضاب الضفة الغربية منذ عام 1967، وتقطنها أغلبية من غلاة اليهود المتدينين وأتباع الحاخام الأشهر مئير كاهانا، ممن يشكلون اليوم مجموعة «كاهان حيّ».

وكان طريفاً أن يقتبس سيغيل شخصية شمشون لحضّ اليهود على بذل دمائهم، ونيل شرف الشهادة دفاعاً عن دولة الاحتلال. صحيح أنّ لهذه الشخصية مآثرها الدموية الرهيبة ضدّ الفلشتينيين، أو الفلسطينيين لمَن يشاء هنا أيضاً، وأنه ذات مرّة «أمسك ثلاث مئة ابن آوى وأخذ مشاعل وجعل ذنباً إلى ذنب ووضع مشعلاً بين كل ذنبين في الوسط، ثم أضرم المشاعل ناراً وأطلقها بين زروع الفلسطينيين فأحرق الأكداس والزرع وكروم الزيتون»، حسب سفر القضاة. ولكنه في المقابل، بين جميع «القضاة»، كان الأكثر شهوانية وخضوعاً للملذات، والأضعف إيماناً بعهد الربّ كلما اتصل الأمر بشهوات الجسد!

ويروي العهد القديم أنّ بني إسرائيل «عادوا يعملون الشر في عينيّ الرب، فدفعهم الربّ ليد الفلسطينيين أربعين سنة»؛ ولهذا فإنّ امرأة منوح العاقر ولدت شمشون، الطفل الإعجازي الذي سيكون نذيراً للرب ويتولى تخليص الإسرائيليين من أيدي «أنذال التوراة» الفلسطينيين. فهل كان الحاخام سيغيل في موقع مَن يفترض وقوع دولة الاحتلال في الأسر الفلسطيني، مجدداً، على هذا النحو أو ذاك؟ أم كان يساجل، ضمناً، أنّ دولة الاحتلال الراهنة عادت إلى ارتكاب الشرّ القديم الذي يستوجب غضب الرب، وينذر استطراداً بمجيء شمشون – 2؟

ويبقى، يا رعاك الله مجدداً، أنّ الاكتشاف «الخارق» هذا يعود إلى صيف العام 2019، وأذاعت «بعثة ليون ليفي» أخباره يومها وتناقلته وسائل إعلام ومجلات علمية، إلا أنّ البعثة أبقت تفاصيله قيد الكتمان في انتظار أن يجزم المعهد الألماني حول عيّنات الـDNA، وهذا ما حدث مؤخراً. ما هو غير جديد البتة، ويعرفه أركيولوجيون كثر أيضاً ولكن يحدث أنهم غير منخرطين في مدرسة «أنذال التوراة»، أنّ السيراميك الذي يظهر في المدن الفلشتينية منذ القرن الـ12 قبل الميلاد يتشابه، على نحو مطابق أحياناً، مع نماذج الإمبراطورية الميسينية في اليونان. كذلك فإنّ الهيروغليفيات المصرية تصوّر معارك بحرية مع أقوام وفدت من الشمال، بينما يعتقد عدد من الأركيولوجيين أنّ صعود الفلشتينيين كان مآلاً منطقياً لأفول إمبراطوريات كبرى قديمة في تركيا وسوريا. وفي واحدة من قصائده السيرية الأبهى، يذكّرنا محمود درويش بأنه «ابن الساحل السوري/ أسكنه رحيلاً أو مقاما/ بين أهل البحر/ لكنّ السراب يشدّني شرقاً/ إلى البدو القدامى».

بالـDNA أو من دونه، سيّان لدى الفلسطيني، أغلب الظنّ!

وسوم: العدد 947