مابين حاجاتنا ورغباتنا

الحاجات الضرورية لبقاء الإنسان على قيد الحياة لابد منها ، وإلا اختل الظرف ( الوضع ) الذي يبقى في ظله الإنسان يعيش العيش الإنساني المقبول ، مدة عمره التي قدرها الله له منذ لحظة مولده . فلا بد للإنسان من الطعام والشراب ، ومن بقية الحاجات التي يُستَوجب وجودها في حياته ، رغم اختلاف أشكالها وألوانها وأنواعها ، وذلكم حسب البيئة التي يعيش فيها الإنسان . والحاجة الضرورية لايمكن للإنسان أن يستغني عنها ، كالطعام والشراب والدواء وغيرها من أمثالها ، وقد يستغني عن بعض الحاجات التي يمكن التغاضي عن تناولها ، مثل السكن الجيد وغيره مما في المعنى المقصود بالكفاية ، في أسلوب حياة يجعلنا دائما في أسفل هرم الحاجات الإنسانية ، وهذا مايتصوره بعض الناس وهـم يعيشون الحياة لأجل الحياة فقط ، دون الأخذ بالقيم الدينية القويمة التي أرشد الخالق إليها عباده وهم يعيشون على وجه الأرض . ففي الحديث الذي رواه البخاري عن سلمة بن عبيدالله بن محصن الخَطمي عن أبيه ، وكانت له صحبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) رواه البخاري

فحاجة الحياة الأساسية هي الأمن والطمأنينة للإنسان ، والعافية التي تكتنف جسد هذا الإنسان ، والطعام والشراب وفيهما بعض أسباب العافيةلهذا الإنسان . وتلكم الحاجات التي لابد من العيش في ظلالها . وفي هذه الظلال يشعر الإنسان بالعيش في سعادة . هذا إذا كان الإنسان ذا بصيرة و وعي ، ويعرف قيمة هذه الحياة الدنيا ، ولماذا خلقه الله على ظهر هذه الأرض .

وأما رغبات النفس الأخرى فإنها تتقاذفها شهوات النفس الأمارة بالسوء ، والميل الجامح إلى الملذات ، وإشباع الشهوت ، وهنا قد تتفلت النفس من مزايا القيم الأخلاقية ، فتستسيغ ماحرم الله ، يدفعها الطمع والحسد والحقد ، ويحملها البغي على أجنحة القوة الجامحة أيضا ، فربما قتل ليسرق المال ، وربما سلب عابر السبيل ليأخذ مالديه من مال أو متاع أو كليهما ... وهكذا تكون الرغبة التي لايقيدها خوف من العقاب ، ولا تردعها العاقبة الوخيمة في الدنيا وفي الآخرة . والإنسان لديه القدرة على فعل كل شيء ... أعني ما أحل الله أو حرَّم ، وأُومئُ هنا إلى مافي أسواق الحياة من أنواع المغريات التي ماعادت تُعد ولا تُحصَى ، ولا تندرج أبدا في قائمة الاحتياجات الضرورية للإنسان . والرغبة هنا وفي هذا السوق إن لـم تتقيد بالقيم الفاضلة ، فإنها تجعل من صاحبها وحشا في غابة ، ولا يخفى على أحد عمل الوحوش الضَّاريات . وهذا الإنسان ينظر إلى الموضوع من جانب واحد ، حيث يود أن يملك الدنيا بحذافيرها ، ومن المعلوم أن هذا الإنسان لم يفهم معنى الحاجة الملحة وحدودها ، ولا الرغبة التي لاحدود لها . فهذا يعيش في واد وحقيقة الحياة الدنيا التي جعلها الله للبشر في واد آخر .

وهذا من إكرام الله سبحانه وتعالى للإنسان ، الذي خُلِقَ ليعمر الأرض ويستعمرها : ( هُوَ أَنْشَأكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيْهَا ) 61/هــود . أي خلقكم منها وجعلكم عُمَّارَها مدة حياتكم الدنيوية .

          وَلْنبتعدْ عن مضامين الفلسفات المادية الضَّالة المضلة ، ليس في هذا الجانب وإنما في جوانب عديدة في هذا الباب العريض . ولنا أن نميز وجه الحقيقة في مضامين ما أوردوا في كتبهم من آراء . فمنها ما ينسجم مع قيمنا ومعتقدنا ، ومنها غير ذلك ، وبينهما شبهات يحذر منها مَن تبيَّنوا وجه الحقيقة في دينهم الحنيف . ( إن الإنسان يشترك مع باقي الحيوانات في الاعتماد على إشباع الحاجات الأساسية (البيولوجية أساسا) لضمان البقاء،  وإن كان يمتاز عنها بتعقد وتعدد حاجاته ما بين اجتماعية و"نفسية" وبيولوجية،  فإن هذا الامتياز هو امتياز نوع،  فكثير من الكائنات تميل إلى التجمع في شكل قطعان،  ويحمي بعضها بعضا ويعتمد بعضها على بعض،  بل إن منها من تملك تقسيما للعمل ( النحل،  النمل) وهي في هذا تشترك مع الإنسان في نوع حاجاته لكن درجة تعقد الحاجات الإنسانية أكبر بكثير. إذا سلمنا بأن الفروق بين الحاجات الإنسانية والحاجات الحيوانية هي فروق درجة لا فروق نوع،  فإنه لا يمكننا التسليم بهذا فيما يخص الرغبات،  فالرغبة هي خاصية إنسانية محضة.

الرغبة لا تحمل صفة الضرورة الحيوية،  ولا يعتمد بقاء الإنسان على إشباعها بل إن إشباع بعضها قد يهدد هذا البقاء نفسه،  لكن الإنسان يسعى جاهدا من أجل إشباعها،  وهنا يكمن تميز الرغبة الإنسانية عن الحاجة الحيوانية،  فالإنسان يرغب في أكثر مما يحتاج،  وحياته هي مغامرة كبرى لتخطي سياج الضروريات فقط (عيش الكفاف) إلى فضاء الرغبات (عيش الكماليات)،  فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان! إن الحاجة هي ضرورة بقاء،  أما الرغبة –مهما كان حكمنا عليها- فهي ضرورة تميز،  وكلاهما ضروري لبقاء الإنسان المبدع.اشتراك الحاجة والرغبة في صفة الضرورة لا يعني تطابقهما،  فالرغبة تختلف في كثير من الصفات والخصائص عن الحاجة ) .

          أجل ... يمكن للإنسان أن يستغني عن جميع الرغبات التي لاتؤثر على أمنه وعافيته وحياته ، فحاجات الإنسان معلومة وكأنها مقيدة في دفتره الحياتي اليومي ، وهي ثابتة لابد منها . وأما الرغبات فليس لها قيمة في استمرار حياة الإنسان ، فالإنسان يستغني عن سيارة خاصة له ـ وعن نزهة جميلة ، وعن ثوب جديد . ولكن لايستغني عن رغيف الخبز عندما يجوع ، ولا عن شربة ماء عند العطش . ولا عن الدواء الذي وصفه الطبيب ــ لحالة مرضية خاصة . وفي خضم هذه الآراء كتب موقع مركز المعارف للتألف والتحقيق الالتفاتة التالية : ( يجدر بنـا أن نتعرّف على القيم الإسلامية بوصفهاا دليلًا في السفر كالبوصلة، ومرساة ثابتة تعصمنا من الغرق خلال المدّ والجزر. ونتعرف كذلك على الظروف الخاصّة لكلّ عصر بوصفها منازل على الطريق ينبغي الوصول إليها أو المرور عليها تباعًا حتّى نستطيع  أن نصل إلى غايتنا المنشودة في محيط الحياة المتلاطم ) .

          والحياة أن المنهج الذي أكرم الله به الإنسان هـو المخرج إذا تلاطمت أمواج الملل والنحل والآراء والفلسفات التي تهافت مافيها من زيف وتدليس حول موضوع حاجاتنا ورغباتنا الذي نحن بصدده . لنجد في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية البيان القويم والنهج السليم لنظرة الإنسان على كل مايطرأ عل حياته من تقلبات ، وما يثور فيها من تيارات . والله الموفق ، والهادي إلى سواء السبيل .

وسوم: العدد 1043