المقولات العلمانية المتهافتة تحت مجهر نماذج من مفكرين مسلمين معاصرين من ذوي العلم والمعرفة والاختصاص

الحلقة الأولى : ( نموذج الدكتور عبد الوهاب المسيري )

من الأمثال العربية السائرة قولهم : " إن البغاث بأرضنا يستنر " ، والبغاث يلفظ بضم، وفتح، وكسر الباء ، وجمعه بغثان بكسر الباء ، وهو طائر ضعيف أغبر اللون بطيء الطيران . والاستنسار، هو التشبه بالنسرالطائر، الكاسر، اللاحم ،المعروف بكبر حجمه ، وبطول جناحين ، وبمنقاره المعقوف ، وبمخالبه الجارحة ، وهو إلى جانب ذلك شديد حدة البصر. وهذا المثل يضرب سخرية من العاجز الذي يستغل فراغ الساحة بغياب قادر محاولا محاكاته ادعاء .

 ولقد سيق هذا المثل في بداية هذا المقال من أجل الإشارة إلى بغثان العلمانية عندنا ، وقد اتنسروا، فأكثروا الضجيج الإعلامي في الآونة الأخيرة للإيهام بأنهم قد احتلوا ساحة زعموا أنها قد خلت من أهل الفكر، والعلم ،والمعرفة، والاختصاص، وتوزعوا بينهم مهام مهاجمة الهوية الإسلامية من عدة محاور ، فانصرف بعضهم إلى التشكيك في مرجعيات هذه الهوية ، وكان أقصى ما بلغه جهدهم في ذلك، أنهم أعادوا مقولات استشراقية متهافتة ، قد أكل عليها الدهر وشرب ، وكان نسور الفكر الإسلامي في القرن الماضي قد بزّوا البغاث الاستشراقي بالحجج الدامغة ، وكشفوا تحامله المكشوف على الإسلام من خلال التشكيك في السنة، تمهيدا للانفراد بالقرآن الكريم ، وتأويله وفق أهوائهم مع سبق إصرارهم على تعطيله، من أجل فسح المجال واسعا لعلمانيتهم على مستوى الممارسة ، وليهودية بعضهم، وصليبية البعض الآخر على مستوى القناعة ، والاستشراق المعادي للإسلام ملة واحد، كما أن الكفر ملة واحدة . وما قام به بعض البغثان عندنا اليوم، هو تلقف لمقولات الاستشراق الحاقد عن بعض المستلبين علمانيا والمأجورين، وهم من طلاب الشهرة لدى الغرب العلماني ، فأعادوا تسويقها بكثير من الغباء، كما كشف عن ذلك المفكر الدكتور إدريس الكنبوري في رده على صاحب النقول الاستشراقية ،والشيعية المسروقة التي سماها " البخاري نهاية أسطورة ". ولقد آز هذا البغاث المتطاول على العلم الشامخ الإمام البخاري رحمة الله عليه ، وعلى المحدثين، وعلى علماء الحديث بغثان اختلفت مشاربهم، ما بين مشتغل بالأعشاب الطبية ، وبين متعصب عرقي ومتهتك ... إلى غير ذلك ممن لا يميزون بين كوع وبوع في أمور الدين ، وهم أهل جهل مكعب به ، ومع ذلك قد أكثروا الطنين الاعلامي كما يفعل الذباب المتهافت على القذارة ، وكانت قذارتهم التي تهافتوا عليها محض هذر مما فضل عن قذارة الاستشراق الحاقد.

وقبل أن نخوض في موضوع عرض المقولات العلمانية المتهافتة على مجهر نماذج من مفكرين مسلمين معاصرين من ذوي العلم، والمعرفة ،والاختصاص ، لا بد من التذكير بالظرف الذي أنتج طنين الذباب العلماني عندنا ، وهو وضع ما بعد الإجهاز على ثورات الربيع العربي ، وهو إجهاز طبخته العلمانية الغربية الحاقدة ، وكلفت أذنابها المستأجرة بتنزيله ، والحكاية معروفة ، لا داعي للتفصيل فيها ، ونكتفي بذكر السبب الرئيس الذي أقلق الغرب العلماني، ألا وهو تشبث الأمة العربية بهويتها الإسلامية ، ورهانها على الإسلام من أجل الخلاص من وضع ما بعد النكبة ، والنكسات .

والنموذج الذي سنركز عليه في هذه الحلقة الأولى، هو المفكر المسلم ، وعالم الاجتماع المصري ، المرحوم عبد الوهاب المسيري المتوفى سنة 2008 ، تغمده الله بواسع رحمته ، وهو مفكر خبر الفكر الغربي العلماني عن قرب ، وعن دراية واطلاع ، وتخرج من الجامعات الغربية ، وسبر أغواره فلسفتها ، وهو صاحب موسوعة في غاية الأهمية عن اليهود واليهودية والصهيونية ، وصاحب مؤلفات أخرى ، و صاحب مقالات علمية وفكرية عديدة ، وله مساهمات كثيرة في مؤتمرات، ندوات، ولقاءات فكرية عالمية ، وهو عضو في العديد من مؤسسات الفكر العالمية، وهو مفكر لا يشق له غبار فيما يتعلق بخبرته بالعلمانية وبالحداثة الغربية وبنشأتها ، وبما بعدها .

والعلمانية أو الحداثة من منظور هذا المفكر الكبير، و بشكل موجز هو أن الغرب الكاثوليكي الذي عرف استبداد وطغيان الإكليروس والذي ترتب عنه النفور من الدين ، ظهرت فيه فكرة البخث عن بديل عنه أو بالأحرى البحث عن نقيض له هو اللادين، حيث صار الوجود عند أصحاب اللادين عبارة عن عالم طبيعة مادية ، الإنسان مؤله فيها ، ولا وجود في هذا العالم لما يسمى روح ، ولا إله له والحياة مادة ، والإنسان حر في التمتع المادي إلى حد الإسراف والتخمة .

ولقد حدد المسيري موقفه من هذا التوجه العلماني الغربي بعد طول تأمل فيه ، وبعد سبر أغواره، كما عبر عن ذلك في كثير من كتاباته ، ومحاضراته، والتي نذكر منها على سبيل المثال ما يلي :

قوله : " الله هو الركيزة الأساسية لكل شيء ، الركيزة الأساسية للتواصل بين الناس ، لضمان أن الحقيقة حقيقة ، فإن نسي الله، ركيزة الكون كلها تنتهي " .

وقوله : " بغياب الله يتحول العالم إلى مادة طبيعية صمّاء ، خاضعة لقوانين الحركة والضرورة التي يمكن حصرها ودراستها والتحكم فيها " .

وقوله : " قطاع اللذة يعد الإنسان بالفردوس الأرضي الذي سيريحه تماما من عبء التاريخ والالتزام الخلقي ، والإحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين " .

 وقوله : " النسبية الإسلامية، هي أن يؤمن الإنسان بأن هناك مطلقا واحدا هو كلام الله ، وما عداه، فاجتهادات إنسانية نسبية في علاقتها بالمطلق الذي يوجد خارجها "

وفي حديثه عن تجربته الفكرية يقول المسيري :

" إن الإيمان لم يولد داخلي إلا من خلال رحلة طويلة وعميقة ، إنه إيمان يستند إلى رحلة عقلية طويلة ، ولذا فإنه إيمان عقلي، لم تدخل فيه عناصر روحية ، فهو يستند إلى عجز المقولات المادية عن تفسير الإنسان ، وإلى ضرورة اللجوء إلى مقولات فلسفية أكثر تركيبية " .

ومن مقولاته أيضا :

" إن المطلوب هو حداثة جديدة، تتبنى العلم والتكنولوجيا ، ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط ، حداثة تحيي العقل ، ولا تميت القلب ، تنمي وجودنا المادي ، ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث " .

 وفي هذه المقولات ما يكفي للرد على تطرف العلمانية سواء في نسختها الأصله الغربية ، أو في نسختها العربية الشائهة المستوردة . فالوجود عند العلمانية ليس كما تزعم عبارة عن مادة ، والإنسان جزء منها بلا روح ، وبلا علة وجود ، وبلا مسبب لهذا الوجود . والعلمانية تستخف بفكرة الدين ، وبفكرة العالم الآخر الذي سيحل محل هذا العالم المادي ، وبفكرة البعث والنشور ، وبفكرة الحساب والجزاء ، وهي ترى من يؤمن بهذه الأفكار إنسانا يعيش خارج التاريخ ، وتعتبر من يعتنق قناعتها المادية إنسانا يعيش التاريخ أو داخله , وبتعطيل التصورالإسلامي للوجود ، تصير الحياة عند العلمانية مجرد استهلاك ، واستمتاع ماديين ، مع مارسة لا حدود لها للحريات على اختلاف أنواعها .

 والصراع الحالي بين التصورالإسلامي للوجود، والتصور العلماني عبارة عن صراع حضاري ، وثقافي . و المثير للانتباه في هذا الصراع أن العلمانية تخوضه بذهنية استئصالية تستهدف الخصم ، وهي تؤسس وجودها على حسابه أي بإقصائه النهائي من الوجود، لأن وجوده يعتبر تهديدا لوجودها ، وهي لا يؤمن بالتعايش مع الخصم ، وإن كانت تموه على ذلك بمقولات يكذبها الواقع المعيش، كما هو الحال بالنسبة لادعائها احترام المعتقد المخالف لمعتقدها ، وإلا كيف سنصدق أنها تؤمن بحرية التدين في نطاق نفوذها وسيادتها نظريا ، وهي في نفس الوقت تنقض ذلك عمليا ، وتكفي الإشارة إلى المجتمع الفرنسي على سبيل المثال لا الحصر الذي يضيق الخناق على الممارسة الفعلية للتدين الإسلامي من خلال منع المرأة المسلمة من لباس تدينها، سواء تعلق الأمربلباسها العادي أو بلباس استحمامها ، ومن خلال التضييق على نسك نحر الأضاحي ، ومن خلال التضييق على رفع الأذان للصلوات الخمس ... وهلم جرا . ولا تكتفي المجتمعات الغربية العلمانية بهذا المنع الجائر، بل تتعمد الاعتداء على مشاعر المسلمين بالنيل من رموز دينهم ، وعلى رأسها النبي الكريم عليه الصلاة والسلام من خلال رسم الصور الكاريكاتورية الساخرة منه ، ومن خلال إحراق نسخ من المصحف الشريف ، ومن خلال تدنيس مقدسات المسلمين ... إلى غير ذلك من المضايقات الصارخة.

والمشكل أن أذناب العلمانية عندنا، يخوضون الحرب العلمانية الغربية على الإسلام نيابة عنها من خلال استهداف مرجعياته بدعوى أنهم أهل علم ، ودراية بها ، وهم يستعملون نفس الأداة التي استعملتها العلمانية الموظفة لهم خلال صراعها مع سلطة الإكليروس .

والمتتبع لفكر الدكتور المسيري، يجد فيه تتبعه الدقيق لفريق فلاسفة التوجه المادي اللاديني خلال القرن الماضي ، وهو يربط بين وجهات نظرهم بخيط ناظم ، وهي وجهات مفضية إلى اختزال الوجود في مجرد مادة تتفاعل دون الإيمان بمسبب لها مفارق لها ، وخارج عنها ، و هو مفعّلها . وبتعطيل هذا المسبب ، تجعل هذه الفلسفة الإنسان هو المتصرف المادي في هذه المادة ، وهي تنكر أن يكون له كيان آخر مفارق لكيانه المادي .

 وأخيرا نقول: لو أن الذباب العلماني عندنا كان يقدرالعلم، والمعرفة ،والاختصاص ، ولا يتطاول عليها ، ولا يدعيها لنفسه لكفاه الدكتور المسيري مرجعا ينور حالك فكره ويحرك جموده ، و يمد قصور نظره ، و يوسع ضيق أفقه . ولقد أخبر فيما ألف عن رحلته العقلية الطويلة والشاقة التي انتهت به إلى الحقيقة التي لا زالت غائبة عن هذا الذباب العلماني الضائع ، والمتهافت على قذارة الفكر العلماني الذي صار مرفوضا عند العديد من رعايا المجتمعات العلمانية الغربية ، وهم ممن تحررت عقولهم من قيود المادة ، وتخلصت قلوبهم من أسر اللذة المادية ، ومن نهم الخسة البهيمية .

وإلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى مع نموذج آخر من نماذج المفكرين المسلمين المعاصرين من ذوي العلم، والمعرفة، والخبرة ،والاختصاص ، وقد خبروا عن دراية حقيقة العلمانية ، ومن عرف هؤلاء عن حسن اطلاع ، سيقتنع بأنه من إضاعة الوقت ، وهدره الالتفات إلى طنين الذباب العلماني المستأجر لدى العلمانية الغربية الحاقدة ، والتي فاحت رائحة كراهيتها المنتنة للإسلام ، وزادت عفنا عما كانت عليه من قبل .

الحلقة الثانية : ( نموذج الدكتور محمد عمارة )

لقد كان المسار الفكري للداعية والمفكر المصري الكبير الدكتور محمد عمارة الذي لقي ربه سنة 2020  رحمة الله عليه،  كمسار المرحوم عبد الوهاب المسيري ، وهو مسار يتميز بتحرر العقل المسلم  بعد مروره بشتى التجارب ، والمحطات الفكرية التي يكون فيها تحت تأثير تيارات فكرية وفلسفية مخالفة أو  معادية للدين عموما ، وللدين الإسلامي على وجه الخصوص ، وذلك بسبب ظروف معينة قد يمر بها صاحب هذا العقل  ، لكنه ينتهي به الأمر في نهاية المطاف إلى استعادة خطه الفكري الإسلامي ، ويكون قد أفاد من كل التجارب الفكرية التي مر بها ، وخبرها بشكل جيد ، وعرفها عن قرب ، الشيء الذي يكسبه القدرة على  مناظرة من يستهدفون الإسلام من علمانيين لا دينيين ، ومن غيرهم ممن لهم توجهات أخرى، تجمعهم مع العلمانيين في نهاية المطاف في خندق واحد يتميز أصحابه  بإضمار العداء لدين الله عز وجل أحيانا  عند البعض أو التمويه عليه ، وبإظهاره  في الغالب عند البعض الآخر .

وحياة المرجوم الدكتور عمارة، كانت حافلة بالنشاط  الدعوي والفكري ، وبالتأليف الكثير إلى جانب التحقيقات ، فضلا عن الكم الهائل من المقالات ، والمؤتمرات ، والمحاضرات ، والندوات ، والمناظرات خصوصا وأنه كان منخرطا في العديد من الهيئات والمجالس العلمية العليا  ، ومعاهد للبحث العلمي وعلى رأسها الأزهر.

وما يعنينا من هذا المفكر والداعية المسلم، هو ما عنانا في الحلقة السابقة التي خصصت للدكتور المسيري ، وهو موقفه من العلمانية التي ألف في الرد عليها كتابا ، وتناولها بالحديث في العديد من محاضراته ، كما أنه ناظر بعض ممثليها في الوطن العربي عبر محطات فضائية ، نذكر منهم نوال السعداوي ، ونصر حامد أبو زيد ... وغيرهما  

وما ميّز فكره رحمة الله عليه  هو دفاعه المستميت عن وحدة الأمة الإسلامية ، ومواجهة كل من يحاول نفيها أو استئصالها  . وكان العلمانيون وهم يحاولون استعداء السلطة عليه، يتهمونه بأنه المنظر للحركة الإسلامية ، وقد رد عليهم بقوله : " ذلك شرف لا أدعيه ، وهم لا يقصدون منه المديح، وإنما استعداء السلطات ضدي "

ولقد كان واحدا من دعاة الوسطية والاعتدال ، يقارع الفكر بالفكر، وقد أتاه الله تعالى قوة الحجة والبيان  والبرهان ، وما ناظر أحدا إلا و غلبه بقوة البرهان . ولقد كان أدرى بمقولات الماركسيين اللادينيين  ،لأنه قضى زمنا من عمره ،وهو واحد منهم  إلى أن لطف الله تعالى  به،  ورده ردا جميلا إلى فطرته التي فطره عليها، لا تبديل لخلق  سبحانه وتعالى حتى لقيه وهو على ذلك .

وبدوره يرد على تهافت مقالات العلمانية ، وسنركز باختصار شديد على رده على مقولة خرافية لها حيث يزعم أصحابها أنها تضمن حرية الاعتقاد ، وأنها ليست ضد الدين عموما ، وليست ضد الإسلام خصوصا .

ويبدأ رد الدكتور عمارة على هذا الادعاء بتعريفه للعلمانية  ـ بفتح العين ، لا بكسرها  نسبة إلى العالم ، وليس للعلم كما يعتقد البعض ، ويرى أنه كان من المفروض أن تكون نسبتها للعالم هي ( العالمانية )، وفي هذا ما يدل على سيادة فكرة الهيمنة لدى هذا التوجه الفكري ، وهذا الانتساب يعني أنه لا وجود إلا لهذا العالم المادي ، وهو مكتف بذاته، و ليس بحاجة إلى شريعة السماء التي تنظم أحوال البشر فيه ، والإنسان فيه حر في تصرفاته وفي سلوكاته ، وهو مصدر التشريع ،باعتباره جزءأ ماديا  من هذا العالم المادي، دونما اعتبار لجانبه الروحي . ويقول الدكتور عمارة بأن العلمانية هي الدنيوية فقط أوهي الدهرية كمل يسميها القرآن الكريم  ، لأنها تفصل الدنيا عن الدين أو تقطع صلة الأرض بالسماء ، كما تقطع صلة الإنسان بخالقه ، وتنكر المآل الأخروي .

ويقسم الدكتورعمارة العلمانية إلى شاملة  متسلطة تقطع كليا مع الدين والتدين ، كما كان الحال في الدول الشيوعية ، وعلمانية جزئية  تدعي أنها محايدة إزاء الدين ، وهو مجرد ادعاء كاذب ، وهذا التقسيم اقتبسه من الدكتور المسيري رحمه الله كما صرح بذلك. ويكذب عمارة العلمانية الفرنسية ويصفها بالمتوحشة    

ويفضح الدكتور عمارة ادعاء العلمانية الغربية التي أبدلت الدين بالحداثة بأنها تضمن حرية الاعتقاد والتدين، وذلك  بالإحالة على الواقع المعيش ، ويمثل لذلك بالعلمانية التركية التي اقتبسها كمال أتاتورك من الغرب الذي قوض الخلافة الإسلامية في تركيا ، وتوزعت أقطاره  تركتها باحتلالها  واستغلالها ، وفرضت علمانيتها بالقوة  عليها، وأوكلت إلى أتاتورك تنزيلها في بلد مسلم، وقد اقتبس النموذج السويسري، فكان  منه  شر تضييق على ممارسة الشعب التركي تدينه حيث منعت المرأة التركية المسلمة من ارتداء لباسها الشرعي ، ومنع الأذان باللغة العربية ، ومنع تدريس الإسلام في المؤسسات والمعاهد والجامعات ، ونكل بالدعاة ،ومنهم الداعية الكبير بديع الزمان النورسي رحمه الله ، الذي أخرج جثمانه من قبره بعد وفاته  تنكيلا به  ... إلى غير ذلك من الممارسات العدائية ضد الإسلام وأهله . وهذا واقع شاهد على ادعاء العلمانية بأنها تسمح بحرية الاعتقاد ، وبحرية ممارسة التدين .

وسرد بعد ذلك واقعا آخر في فرنسا  ذات العلمانية المتوحشة ، وهي بلد أصله مسيحي  كاثوليكي ، تحول إلى بلد علماني  على إثر الخلاف بين الإكليوس وبين من كانوا يسمون أنفسهم بالتنويريين أو الحداثيين ،  فانحصر فيه التدين بشكل غير معهود أو مسبوق . ويذكر الدكتور عمارة أن فرنسا تضيق الخناق كأشد ما يكون التضييق على حرية المسلمين في ممارسة تدينهم ، ويذكر هنا أيضا منعها لباس المرأة المسلمة في المؤسسات التعليمية ، وفي الوظائف ، إلى جانب  منع رفع الأذان للصلوات ، والتشدد  في السماح للأنشطة الدينية والدعوية ... إلى غير ذلك من الممارسات التي تكذب ادعاء هذه العلمانية التي يصدق عليها وصف المتوحشة  بأن من يوجد فوق ترابها من المسلمين ، يحظى بكامل حريته في ممارسة تدينه .

ويشير الدكتورعمارة إلى أن العلمانية الغربية، قد دمرت منظومة القيم والأخلاق في   المجتمعات من خلال تدمير نواتها الصلبة التي هي الأسرة ، وذلك باستهداف محورها الأساسي  الذي هو المرأة وقد استبيحت، وشيّئت تحت شعار صيانة حرياتها وعلى رأسها حرية الجسد ، وحرية التصرف فيه ، وحرية ممارسة الجنس خارج إطار رباط الزوج ، وهو ما مهد الطريق لكل أنواع الشذوذ الجنسي مما بات يسمى رضائية  ومثلية ، إلى جانب شيوع ما يسمى بالبدوفيليا  التي هي مصدر خطورة على الطفولة البريئة تستغلها جنسيا . ومع وجود هذه الممارسات الشاذة التي تنظّر لها العلمانية الغربية ، وباقي العلمانيات الدائرة في فلكها ، فقد انتهى دور الأسرة في صيانة المجتمع حيث أعرض أغلب الناس في البلاد العلمانية عن الارتباط بعلاقة الزواج مع وجود البدائل الشاذة التي توفرها لهم بل تفرضها عليهم فرضا من خلال سن قوانين داعمة لها ، ومجرمة لمن يرفضها أو يعاديها أو ينتقدها.

ولقد لاحظ الدكتور عمارة أن هذه الممارسات العلمانية، قد ترتب عنها انخفاض معدلات الولادة بشكل مقلق ، وانخفاض التدين المسيحي حيث صارت نسب من يرتادون الكنائس في فرنسا ، وباقي دول أوروبا  من أجل حضور القداس نسبة ضئيلة بسبب شيوع  فكرة سيادة الحداثة التي تقطع صلة الأرض بالسماء، وقد باتت هي المهيمنة، والمتحكمة في أغلب عقول الغربيين .

ويقول الدكتورعمارة بأنه مقابل انحسار التدين في البلاد العلمانية ، يتزايد فيها إقبال العديد من الغربيين على الدخول في الإسلام خصوصا في  فرنسا، وهي التي تتزعم التيار العلماني في أوروبا ، وفي العالم ، الشيء الذي جعلها تزيد من التشديد على كل ما له صلة بالإسلام ، وترى فيه تهديدا لعلمانيتها ، وعلمانية غيرها من بلاد العالم  .

ويرى الدكتور عمارة قصور العلمانية التي هي إفراز الفلسفات الغربية الوضعية يتمثل في اعتماد العقل وحده دون اعتماد الشرع ، مع التأكيد على أنه لا تناقض بين العقل والشرع بل بهما معا تكتمل نظرة الإنسان الصائبة لحقيقته الوجودية . ويستشهد بنظرة الفيلسوف المسلم أبي حامد الغزالي الذي يرى أن الشرع بمثابة النور للعقل ، ذلك أن هذا الأخير لا يمكن أن يبصر دون نور . ومن قصور العلمانية  أيضا عنده أنها لا تعير أهمية للمباديء الأخلاقية  في حرصها على  تحقيق المصالح .

ويقدم الدكتور عمارة البديل الإسلامي الذي فيه توافق بين العقل والشرع ،حيث يستعين الفرد المسلم في تحقيق مصالحه على الضوابط الشرعية، التي تعلي من قيمة العقل ، ومن استعماله لتحقيق المصالح الشرعية المعتبرة ، وليس تحقيق مصالح لا اعتبار لها بسبب تعطيلها الشرع ، وبسبب غياب كل وازع أخلاقي ، وهو ما ينتفي معه العدل ، والمساواة ، والأمن ، والسلم ، وكفى بالواقع المعيش اليوم دليلا على إفلاس منظومة الأخلاق بسبب التهور العلماني ، وهو دليل على إفلاس العلمانية بسبب الوضع الأمني العالمي الحالي ، ومختلف مشاكله التي لا حصر لها ، وبمستقبله الغامض والمنذر بعواقب الأمور ما لم يتدارك الله عز وجل البشرية بلطفه ، والله لطيف بالعباد.   

وأخير نشير إلى أن رد الدكتور عمارة على العلمانية الغربية، فيه ما يغني عن الانشغال بالرد على العلمانيين العرب يخوضون حربا ضد الإسلام  بالواكلة عن العلمانية الغربية ونيابة عنها ، وقد كثر ضجيجهم الإعلامي مؤخرا بسبب ظرف يراد من ورائه ما يراد من تآمر على الأمة المسلمة مما لم يعد خافيا ، وتدل عليه والشعارات المرفوعة بكل وضوح.    

الحلقة الثالثة : ( نموذج الدكتور محمد المختار الشنقيطي )

لا تختلف  المسيرة  الفكرية  للباحث الأكاديمي الموريتاني الدكتور محمد المختارالشنقيطي عن مسيرة الدكتورين المصريين عبد الوهاب المسيري ومحمد عمارة رحمة الله عليهما ، ذلك لأنه تلقى تكوينه الأكاديمي في الجامعات الأمريكية ، وهو متخصص في تاريخ الأديان ، و في فلسفة السياسة ، وله  عدة مؤلفات ،والكثير من المحاضرات ، ومشاركات في مؤتمرات، وندوات ندوات ، وله تعليقات سياسية تستضيفه إليها قناة الجزيرة القطرية ، وهو أستاذ محاضر في جامعات قطرية.

 والشنقيطي  مفكر مسلم لا يؤمن بفكرة فصل الدين عن السياسة ، وهو موقف له ما يبرره بحكم خبرته واختصاصه في فلسفة السياسة ، وخبرته بالدساتير الغربية والعربية والعالمية أيضا ، وبما تتضمنه نصوصها ، الشيء الذي  يدعم وجهة نظره  علميا وأكاديميا . وكان من أنصار ثورات الربيع العربي، التي كان يراها نتيجة حتمية للواقع السياسي العربي .

والدكتور الشنقيطي، كثيرا ما يتحدث عن الديمقراطية وعلاقتها بالعلمانية ، وهو ينفي نفيا قاطعا أن تكون الديمقراطية  نتيجة للعلمانية كما يظن الكثيرون ، وهو يصدر في وجهة نظره هذه عن خبرة واطلاع بحكم تخصصه ، خلافا لمن يعتقدون عكس ذلك دون أن يكون لديهم ما يبررون به وجهة نظرهم .

وفي لقاء له مسجل بتاريخ 01/05/2021، أذيع عبر وسائل التواصل الاجتماعي ،فصّل القول في موضوع علاقة الديمقراطية بالعلمانية ، وهو يرى بداية أنه لا يمكن الجزم لا بوجود ترابط بينهما ، ولا بوجود تناقض بينهما . ومن هذه المقدمة انطلق للبرهنة على صحتها من خلال الواقع المعيش عالميا وغربيا وعربيا  ، واعتمادا على بحوثه ودراساته ، وبحوث ودراسات غيره من أهل الخبرة والاختصاص، الذين منهم أجانب أمريكان وإنجليز ، فضلا عن باحثين عرب ومسلمين .

ولقد مهّد الشنقيطي لهذا الموضوع بالانطلاق من فكرة نفي أن تصنف الأديان تصنيفا واحدا . وقبل ذلك حاول التعريف بثالوث تلتقي عنده كل الأديان لتتمايز بعد ذلك عن بعضها البعض  ، وهذا الثالوث لا بد منه كي يسمى الدين دينا وهو : وجود عقيدة ، ووجود عبادة ، ووجود قصة كونية ، وهو يعني بالقصة الكونية تصور معين للوجود وللحياة . ويقسم بعد ذلك الأديان إلى ثلاثة مستويات : أديان في حد أدنى ، وهي المكتفية بالثالوث ، ويمثل لها ببعض الأديان الوثنية  في القارة الإفريقية ، وأديان في حد أوسط ، وهي تزيد عن الثالوث بوجود منظومة أخلاقية ، ويمثل لها بالمسيحية وبالبوذية ، وأديان بحد أعلى ، وهي التي تتجاوز الثالوث بوجود منظومة أخلاقية ، ومنظومة تشريعية ، وقيم سياسية واقتصادية واجتماعية ، ويعتبر الإسلام هو الدين المتوفرة  بامتياز على معايير الحد الأعلى.

ومن أجل توضيح قضية عداء العلمانية للدين التي نشأت في الدول الغربية الكاثوليكية تحديدا ومنها فرنسا ، أجرى الشنقيطي  مقارنة بين المسيحية التي هي دين بحد أوسط أي بعقيدة ، وعبادة ، وقصة كونية ، ومنظومة أخلاقية ، وبين الإسلام الذي هو دين بحد أعلى . والذي حمله على هذه المقارنة، هو محاولة العلمانيين في البلاد العربية والإسلامية  نقل التجربة العلمانية الغربية حرفيا  أو استنساخا دون تمييز بين اختلاف المسيحية عن الإسلام  من حيث نموذجهما التأسيسي ، وهم يريدون إسقاط ما نشأ بسبب  الديانة المسيحيةة الكاثوليكية من علمانية حرفيا على الإسلام مع وجود الفارق بين الدينين .

ووقف الشنقيطي  وقفة كي يبين أن الإسلام باعتباره الرسالة الخاتمة ، هو دين بالحد الأعلى ، وأنه يعتبر الديانات السماوية السابقة غير ذات  صبغة عالمية،  بل هي خاصة بأقوام معلومين، بينما الإسلام هو دين العالمين ، وهو مكتمل العناصر التي تجعله كذلك .

ويرى الدكتور الشنقيطي أنه يوجد فرق بين بعثة المسيح عليه السلام ، وبين بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،ذلك أن الأول بعث مبشرا وواعظا ، ولم يبعث مشرعا ،لأنه وجد في بيئة كانت فيها دولة بقوانين، وهي الدولة الرومانية ، بينما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيئة لا وجود فيها لدولة ، ولا لقوانين بل كان المجتمع العربي الجاهلي متمردا ورافضا لكل سلطة ولقوانينها ، لهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون مربيا ، و قائدا ومشرعا ، وليؤسس دولة لها شريعة  . وبهذا ميز الشنقيطي بين نموذج الدين المسيحي ، وبين نموذج الدين الإسلامي ، وهو يرى أن العلمانية في المسيحية سُنّة ، لكنها في الإسلام بدعة ،على اعتبار أن الكنيسة ما خاضت غمار التنافس السياسي إلا بعد مرور قرون على بعثة المسيح عليه السلام ، وكانت قبل ذلك عبارة عن دين منفصل عن الدولة . ولما تنافس الإكليروس الكاثوليك مع غيرهم من أجل السيطرة على زمام الحكم، ظهرت فكرة مطالبة خصومهم وهم من العلمانيين  بفصل الدين عن الدولة. . والعلمانيون العرب، وغير العرب من المحسوبين على الإسلام، يريدون تطبيق فصل الدين الإسلامي عن الدولة، على غرار ما حدث في الدول المسيحية الكاثوليكية تحديدا ، لأن غير الكاثوليكية، كبريطانيا والولايات المتحدة، لا تفصل الدين عن الدولة،  بشهادة دساتيرها سواء دساتير الولايات الأمريكية الخمسين التي تنص على الدين المعتمد فيها ، مع استثناء الدستور الفيدرالي الذي لا ينص على ذلك ، وبشهادة الدستور البريطاني أيضا ، والدكتور الشنقيطي، صاحب خبرة بالدساتير العالمية ، وهو ينطلق من خبرة بها ، وينطق عن خبرة .

وينتقل المفكر الخبير بفلسفة الأديان ، وفلسفة السياسة إلى تصحيح مغالطة، لا زال العلمانيون العرب يجادلون فيها جدلا تجريديا، ويتعلق الأمر بعلاقة الديمقراطية بالعلمانية ، وهو ينفي هذه العلاقة كما سبقت الإشارة إلى ذلك في بداية هذا المقال، أي لا وجود لترابط بينهما ، ولا لتناقض بينهما ، وبيان ذلك عنده كالآتي :

بالاعتماد على أهم مؤشر دولي يصنف ترتيبيا  الدول ديمقراطيا ، فقد صنفت دول شمال أوروبا، وهي : النورويج، وفنلندا ، والسويد ، والدنمارك الأولى ترتيبا في الممارسة الديمقراطية ، وهي دول علمانية، لكن  في المقابل دساتيرها، لا تخلو من فقرات الإشارة إلى دينها الرسمي  كما يعبر عن ذلك وجدان شعوبها، وبناء على هذا، لا يمكن القول بأن علمانيتها هي  سبب ديمقراطيتها . وفي المقابل، تصنف دول إفريقية وأسيوية في آخر سلم الترتيب الديمقراطي، مع أن دساتيرها تنص على علمانيتها ، وذكر منها تشاد، والكونغو، وكوريا الشمالية، وهذا دليل آخر على عدم صحة ربط الديمقراطية بالعلمانية  حتما وضرورة .

ويخلص الدكتور الشنقيطي إلى أنه يستحيل أن تتخلص دول العالم من تحيزها للدين، ولو كانت تصرح بعلمانيتها ، ويضرب مثلا على ذلك  بالصين العلمانية التي تتحيز للبوذيةعلى حساب الأقليات المسلمة . ويفسر الشنقيطي هذا التحيز بأنه مجاراة الأنظمة  مضطرة  لوجدان شعوبها الديني . وهذا ما جعله يميز بين الأغلبية السياسية ، والأغلبية الثقافية للبلدان، واللتين لا يجب الخلط بينهما ، ذلك أن الدساتير تتحكم فيها الأغلبية الثقافية التي تمثلها الشعوب ، والدولة عبارة عن حصاد يتدافع فيه المجتمع . والدساتيرعند الشنقيطي، فيها جانب كثيف يتعلق بالهوية والقيم ، وجانب خفيف يتعلق بما هو إجرائي من قبيل صلاحيات الرؤساء ، وباقي صلاحيات مؤسسات الدولة .

والمعهود في الدساتير بالنسبة للشنقيطي، أنها تنص على كل ما يخشى عليه من التهديد ، ويضرب على ذلك مثال بين عدم تنصيص الدستور البريطاني والأميركي على أن اللغة الرسمية عندهما وهي الإنجليزية، لأنها غير مهددة فيهما ،بل هي المهددة لغيرها ، بينما دساتير الدول العربية تنص على أن اللغة العربية، هي اللغة الرسمية، لأنها مهددة بلغات محتل الأمس .

ويذهب الحديث بالشنقيطي إلى طرح إشكالية العلاقة بين الأقلية والأكثرية في المجتمعات العربية ، وهو يصف الأقليات بالمدللة ، والأكثرية بالمغفلة ، لأن الأكثرية قد تقع تحت ظلم الأقلية المدعومة دوليا ، كما هو الحال بالنسبة للأقلية المسيحية في الوطن العربي، التي لا يجرؤ أحد على الاعتداء عليها، كما يعتدى على الأغلبية المسلمة ، ويمثل لذلك بإحراق السيسي لمسجد من المساجد، لكنه لا يجرؤ على إحراق كنيسة  نظرا لحمايتها الدولية .

وحل هذا الإشكال بالنسبة للشنقيطي، يكمن في توفير توازن بين الأكثرية والأقليات ،لأن الاخلال بهذا التوازن يعتبر فشلا ، علما بأن الأقليات والأكثرية في الوطن العربي أمر نسبي ، فقد تكون الأقليات عرقية، لكنها تلتقي مع الأكثرية في الدين، كما هو الشأن بالنسبة للأمازيغ والأكراد على سبيل المثال .

ويخلص الشنقيطي إلى أن العالم العربي والإسلامي، لا يمكن أن يسير على خطى الحداثة والعلمانية ، مع وجود رغبة كبير لدى رعاياه في الديمقراطية، لكنهم يريدونها إسلامية لا علمانية  . ويرى أن العلمانية إنما هي مفروضة على هذا العالم قهرا لا إرادة، لأن وجدان شعوبها إسلامي حتى مع إعلان أنظمتها الاستجابة لإملاء العلمانية  الغربية . والأنظمة العربية مضطرة إلى أخذ هذا الوجدان بالاعتبار في صياغة دساتيرها . ويذكر الشنقيطي أن حافظ الأسد وضع دستور 1970 أو 1971 دون ذكر دين الدولة ، فوجد معارضة شديدة  ،اصطر معاه إلى إضافة قفرة تنصّ على أن الإسلام هو دين الدولة . وذكر أيضا أن السيسي لم يجد بدا من تضمين دستوره  فقرة تشير إلى الدين الرسمي لمصر لأنه مضطر  ذلك لأنه  للخضوع لوجدان الشعب الديني ، ولا يمكنه معاكسته .

وخلص الشنقيطي إلى أن تطبيق الديمقراطية في البلاد الإسلامية والعربية، يؤدي حتما إلى سيادة الإسلام ، واضمحلال العلمانية . ويستدل على ذلك بما حدث في العراق حين كلف أحد الأمريكيين بصياغة دستور له بعد غزوه ، وبعد دراسة معمقة انتهي إلى أن تطبيق الديمقراطية  الحقة، وليست الصورية في العراق يؤدي إلى نتيجتين حتميتين  هما : إما عودة الإسلام ، أو العداء لأمريكا وللغرب ، لهذا نصح الأمريكيين بالتخلي عن  التفكير في تحويل العراق إلى بلد  ديمقراطي ، وهو صاحب مقولة : " مزيد من الديمقراطية يعني مزيد من الإسلام " . وهذا ما كشفته التجارب الديمقراطية في بعض بلدان الربيع العربي ، وهي تجارب أجهضت فيما بعد، لأنها جعلت الوجدان الديني لدى شعوبها يطفو على السطح، وهو ما أقلق الدول الغربية .

وأشار الشنقيطي إلى أن العلمانيين العرب ليقينهم الراسخ  بعودة الإسلام إذا ما سادت الديمقراطية الحقة  في البلاد العربية، فإنهم يعادونها ، وذلك من أجل  قطع الطريق على سيادة الإسلام .

وآخر ما ختم به الشنقيطي مداخلته، هو وصف الدساتير العربية بأنها شكلية أو حبر على ورق ، وأنها مجرد مجاملة للشعوب ، وهي في واد ، والواقع في واد آخر، وهي  في حكم الحق الذي يراد به باطل ، مع قوله بأن الحق يبقى حقا حتى وإن أريد به باطل . ومقابل الطابع الشكلي للدساتير العربية ، وهي دساتير مع وقف التنفيد ، يذكر الشنقيطي  دولا ديمقراطية غربية، تطبق أكثر مما هو منصوص عليه في دساتيرها .

ويبقى لنا القول أن خبرة هذا الباحث الأكاديمي قد كشفت تهافت مقولة العلمانيين العرب ، كما  كشفت خلل قياسهم واقع البلاد العربية على واقع بلاد الغرب ، وأن رهانهم على العلمانية والحداثة رهان خاسر ، وأن جدلهم قد أصبح متجاوزا ، وأن الشهود على ذلك من بلاد العلمانية الغربية التي بهللون لها ، ويسبحون بحمدها ،كما بيّن ذلك الدكتور الشنقيطي الذي لا يمكن إلا الإشادة بوزنه العلمي والأكاديمي الذي لا يجحده إلا جاحد أو معاند .  

وسوم: العدد 1044