عمران خان: أيّ باكستان في مكاييل واشنطن؟

أمر طبيعي، في السياسة على وجه الخصوص، أن يكون ما هو وراء الأكمة أبعد في الدلالات والطبائع والآثار مما هو ظاهر متاح أمامها؛ والحال الراهنة لرئيس الوزراء الباكستاني السابق عمران خان ليست نموذجاً كلاسيكياً متكامل العناصر فحسب، بل ثمة في مداخلها ومخارجها ما يشكّل نمطاً أعلى معيارياً لاندماج المحلي بالعالمي ومناهج القوى العظمى الكونية خصوصاً. وكي لا يجهد المرء كثيراً قبل استخلاص تفسير مبدئي للصمت الطبق الذي خيّم على عواصم مثل واشنطن ولندن وباريس وبرلين، إزاء اعتقال خان، الثاني مؤخراً بعد الأوّل في أيار (مايو) الماضي؛ يسير أن تُجرى مقارنة بسيطة مع الثورات الكلامية التي عمّت هذه العواصم، وسواها أخرى عديدة، عند اعتقال المعارض الروسي ألكسي نافالني.

للمرء إياه أن يمنح فضيلة الشك لصالح القضاء، وليس بالضرورة تلك المحكمة التي قضت بسجن خان ثلاث سنوات بتهمة بيع هدايا تلقاها خلال فترة رئاسته للحكومة بين 2018 و2022، وفي ملفات تقارب 150 قضية؛ بل المحكمة العليا التي سوف تنظر في طعن خان ضدّ حكم محكمة أدنى. وللمرء، في الآن ذاته، أن يستذكر عجز القضاء الباكستاني (والبعض لا يستبعد أنساق تواطؤ مبعثها ضغوط الأجهزة الأمنية وكبار الجنرالات) عن البتّ في نحو 10 آلاف حالة اعتقال لأنصار خان وأعضاء «حركة إنصاف» تحديداً؛ مضافة إليها معطيات ملموسة ترجح أن يكون خان السياسي الأقلّ فساداً في تاريخ باكستان المعاصر. وهذا قوس لا يُفتح على سبيل تبييض صفحة الأخير، بقدر ما يعيد التشديد على إشكاليات شتى اكتنفت القضاء في بلد امتهن جنرالاته الانقلاب تلو الآخر، من دون أن يكفوا عن ولاءاتهم المتينة لقوى كبرى خارجية بصفة عامة، والبيت الأبيض عبر البنتاغون والمخابرات المركزية بصفة خاصة.

ثمة، في حياة خان كرئيس حكومة، واقعة ذات مغزى بالغ الخصوصية، مقترنة بخطبة غير مألوفة من مسؤول باكستاني، أُلقيت من منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، حول هوّة العدل والمساواة وحُسن تقاسم الثروات بين أثرياء العالم المصابين بالتخمة وفقرائه أسرى المجاعات. هنا فقرة، على سبيل تمثيل النبرة: «بسبب النهب الذي انخرط فيه العالم المتقدم عبر نُخَبه الحاكمة، تتزايد الهوّة بين البلدان الغنية والفقيرة بمعدلات تنذر بالأخطار. والمنتدى الأعلى الذي أطلقه الأمين العام، حول المحاسبة المالية والشفافية والنزاهة (FACTI) استخلص 7 تريليونات من الثروات المسروقة المخزنة في مواقع «الملاذ» المالية. هذه السرقة المنظمة والتحويلات غير الشرعية للثروات كانت لها عواقب عميقة على الأمم النامية. لقد أنضبت مواردها الشحيحة أصلاً، وضاعفت مستويات الفقر خاصة حين تمارس الأموال المبيّضة ضغطاً على العملات الوطنية وتفضي إلى تخفيض قيمها».

إلى هذا كان خان معارضاً، صريح الخطاب والسلوك معاً، للحملة الشهيرة المسماة «الحرب على الإرهاب» التي دشنتها الولايات المتحدة وانخرطت فيها الغالبية الساحقة من الديمقراطيات الغربية؛ بمعنى أنه رفض تطبيقاتها في أفغانستان والباكستان، وأدان مختلف العمليات العسكرية المقترنة بها من الاجتياح المباشر إلى القتل عبر الطائرات المسيّرة؛ وصمد في مواقفه المساندة للشعب الفلسطيني وقضاياه (رغم أنّ الضغوطات عليه لمحاباة دولة الاحتلال الإسرائيلي لم تأت من بعض جنرالات الجيش الباكستاني أو من واشطن وأصدقاء الكيان الصهيوني فقط، بل كذلك من دول خليجية وإسلامية هرولت إلى التطبيع)؛ وكان أوّل مسؤول باكستاني رفيع يطرح قضية كشمير على قاعدة منح الكشميريين حقّ تقرير المصير؛ كذلك نظر إلى علاقات بلده مع كلّ من إيران والصين من زاوية جوهرية مفادها أنّ الباكستان دولة آسيوية أوّلاً، وأنها استطراداً معنية بتوازن العلاقات الدولية على ركائز أخرى غير هيمنة القطب الواحد في السياسة والاجتماع والاقتصاد والتكنولوجيا.

عجز القضاء الباكستاني (والبعض لا يستبعد أنساق تواطؤ مبعثها ضغوط الأجهزة الأمنية وكبار الجنرالات) عن البتّ في نحو 10 آلاف حالة اعتقال لأنصار خان وأعضاء «حركة إنصاف» تحديداً؛ مضافة إليها معطيات ملموسة ترجح أن يكون خان السياسي الأقلّ فساداً

هذه «آثام» عظمى، لعلها ترقى إلى «الكبائر» في ناظر النُخب التي أشار إليها خان، الحاكمة في الولايات المتحدة وأوروبا؛ وأمر طبيعي، بالتالي، ألا تنظر إلى توقيفه وسجنه من أية زاوية حقوقية أو قانونية تتطلب الموازنة مع أمثال نافالني؛ بل قد يجوز الافتراض بأنها سعيدة، على نحو أو آخر، بأنه سوف يُغيّب عن ساحة الانتخابات المقبلة في الباكستان، وعن الساحات الإقليمية والدولية أيضاً. وأية حصيلة لتاريخ العلاقات الأمريكية ــ الباكستانية سوف تسجّل أنّ انفتاح الإدارات الأمريكية المختلفة على ضباط الأمن في الباكستان اقترن على الدوام بإهمال ضبّاط الجيش النظامي؛ وأسفر، بالتالي، عن تغريب قيادة الجيش، ودفعها أكثر فأكثر إلى الحاضنات الأخرى المؤهلة لاستيعاب هواجس العسكر: الحاضنة القومية (حيث ملفات كثيرة تخصّ النزاع مع الهند حول كشمير)؛ والحاضنة الإسلامية (تحت تأثير الثقافة التقليدية غير العلمانية لمؤسسات الجيش، على نحو خاصّ)؛ والحاضنة السياسية والحزبية، التي كانت تجد مرجعية دائمة في وضعية انعدام الاستقرار ولعبة الكراسي الموسيقية بين «حزب الشعب» و«حزب الرابطة الإسلامية».

وفي أواخر التسعينيات، حين اندلعت أزمة التجارب النووية بين الهند والباكستان، كان رئيس الوزراء الباكستاني يومذاك، نواز شريف، قد رضخ لطلب الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، فصرف النظر عن معاملة الهند بالمثل، وأوقف تنفيذ تجارب نووية باكستانية. لكنّ الجنرال جهانجير كرامات، قائد الجيش الباكستاني في حينه، أبلغ شريف امتعاض الجنرالات من هذا القرار وإلحاح الجيش على تنفيذ تجارب نووية؛ بل وأطلق تصريحات ضدّ مؤسسة رئاسة الوزراء اعتبرها شريف كافية لإقالته واستبداله بجنرال «طيّب» و«منضبط» و«غير مسيّس» هو… برويز مشرّف! ولقد استغلّ الأخير الفوضى السياسية، وضيق الشارع من الفساد، وأزمة التجارب النووية مع الهند، كي يستكمل انقلابه العسكري وينقضّ على الدستور.

كذلك يسجّل التاريخ ذاته، المعاصر منه خصوصاً، أنّ إدارات أمريكية سابقة، جورج بوش الابن وباراك أوباما، لم تكن سعيدة بخيارات باكستان في عدم الضرب بقوّة كافية ضدّ جيوب الطالبان، وحلفائهم، داخل الأراضي الباكستانية؛ ولا بصعود حزب «حركة إنصاف» على حساب الحزبَين التقليديين وتصاعد شعبية/ شعبوية خان، نجم لعبة الكريكت الدولي الأسبق. إلا أنّ أياً منهما لم يقطع الشعرة الحاسمة مع إسلام آباد، خاصة تلك التي تربط جنرالات الأمن الباكستاني بجنرالات البنتاغون والمخابرات المركزية حيث الذكريات عطرة طافحة بالتعاون المثمر ضدّ السوفييت في أفغانستان؛ لكنّ دونالد ترامب شذّ عن القاعدة، وغرّد هكذا: «بحماقة قدّمت الولايات المتحدة إلى الباكستان 33 مليار دولار من المساعدات طيلة 15 سنة، ولكنهم لم يعطونا أي شيء سوى الأكاذيب والخداع، ظانين أنّ قادتنا حمقى. إنهم يوفرون الملجأ الآمن للإرهابيين الذين نطاردهم في أفغانستان، مع قليل من العون. كفى!».

وتلك الـ»كفى» تبدو اليوم سياسة رسمية للبيت الأبيض، خالية من التغريدات ولكنّ وضوحها بليغ تماماً من خلال صمت الإدارة الراهن تجاه الباكستان: ليس في ما يخصّ عدم وضع خان على قدم المساواة مع نافالني، ولكن أيضاً إزاء عبث رئيس الوزراء الحالي شهباز شريف بالاستحقاقات الدستورية، وحثّ رئيس الباكستان على حلّ مجلس النوّاب، واستكمال إحصاء إشكالي للسكان قد يؤثر في خرائط الانتخابات التشريعية المقبلة، وصولاً إلى دفع إجراء الانتخابات أبعد من موعدها المقرر الخريف المقبل…

كل هذا لا يجعل من خان ضحية أمريكية/ غربية، بالطبع؛ ولكن لا ينفي عنه صبغة ساسة من أمثال ابن بلده ذو الفقار علي بوتو، أو ابن جيرانه الإيراني محمد مصدق، لجهة كيل واشنطن بمكاييل شتى متضاربة متناقضة.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

وسوم: العدد 1045