من الغوطة إلى السويداء: مصادفات سوريا وجدل التاريخ

ثمة مصادفات يصنعها البشر، من دون قصد أو تصميم، وتبدو بمثابة تكريس لدورات التاريخ ودروسه أو قوانين ارتباط الحاضر بالماضي واستشراف المستقبل؛ وثمة أخرى يبدو فيها التاريخ أقرب إلى معادل موضوعي، لا يقف في عمق الحوادث المتزامنة فحسب، بل يحيلها إلى سيرورة جدلية بصرف النظر عن تكاملها أو تنافرها.

فما الجامع، ضمن السياقات أعلاه، بين 1) قرار رئيس النظام السوري رفع الرواتب بنسبة 100%، مقترناً برفع الدعم عن الوقود والطاقة والغذاء، وانفجار الغلاء والتضخم وسعر صرف العملة الوطنية بمعدلات جنونية؛ و2) تصاعد موجات الاحتجاج والتظاهر والاعتصام في محافظتَي السويداء ودرعا، وبعض مناطق حلب وأرياف دير الزور والرقّة، وارتفاع نبرة الاحتجاج في قلب حواضن النظام ذاتها هنا وهناك؛ و3) الذكرى العاشرة لهجمة النظام الكيميائية ضدّ الغوطتين الشرقية والغربية، يوم 21 آب (أغسطس) 2013، حين خلّفت المجزرة 355 ضحية حسب منظمات حقوقية دولية، و1466 طبقاً لأوساط المعارضة؟

الجامع الأوّل هو النظام ذاته، لاعتبارات عديدة تُظهرها جرائم حرب ومجازر أخرى وانتهاكات وفظائع لا عدّ لها ولا حصر؛ بينها إمعان الأسد وأجهزته الأمنية وما تبقى من جيشه في ارتكاب المزيد، بمساندة مباشرة من دول تحتلّ سوريا مثل روسيا وإيران، وميليشيات مذهبية أو جيوش مرتزقة، وتواطؤ غير مباشر من احتلالات أخرى إسرائيلية وأمريكية وتركية، وصمت أو محاولات تأهيل من «مجتمع دولي» لا تغيب عنه ديمقراطيات غربية وأنظمة عربية. الحقيقة التالية، الرديفة، هي أنّ هذه الحال منحت وتواصل منح النظام درجات إفلات من العقاب قياسية؛ ليس في المحاكم والهيئات والمؤسسات التي تزعم تطبيق القانون الدولي (من مجلس الأمن الدولي إلى المحكمة الجنائية) فقط، بل كذلك في افتتاحيات صحف كبرى وتغطيات وسائل إعلام كونية.

أمّا الأبرز، الجدير بأن يكون الحقيقة الساطعة الأولى، فهو أنّ نظام آل الأسد لا يفرغ من حال تأزّم حتى يدخل في تنويع لها أشدّ استعصاء، فيستولد سواها أو يضخّم عواقبها؛ وتلك سيرورة بدأت مع انقلاب الأسد الأب خريف 1970، واتخذت سمات أكثر تشابكاً مع توريث الأسد الابن صيف 2000، وتعاظمت أكثر فأكثر مع انتفاضة ربيع 2011، وها أنها اليوم تستأنف مناخات الخروج الشعبي العلني ضدّ النظام فتُرفع مجدداً شعارات إسقاطه. وإذا كان سوق الحريقة الدمشقي والمسجد الأموي وحوران قد تصدرت مواقع الانتفاضة الأولى، فإنّ ساحات السويداء هي السباقة اليوم إلى ريادة ما قد يدشن الجولات الأبكر من الانتفاضة الثانية.

وحين تقاطرت أخبار مجازر الغوطة ومشاهدها الهولوكوستية فتصدّرت الصحف غرباً وشرقاً، اختفى عن الأنظار رجل كان معنياً مباشرة بالواقعة؛ لأنه كان رئيس القوّة الكونية العظمى الأولى أوّلاً، وكان ثانياً صاحب الوعد الشهير بأنّ استخدام أيّ سلاح كيميائي «خطّ أحمر» سوف يغيّر قواعد «اللعبة»، وبالتالي سوف يستدعي خطوات أخرى تصعيدية من جانب واشنطن، ضدّ النظام السوري. والحال أنّ أيّ خطّ بأيّ لون، لأيّ سلاح كيميائي أو جرثومي، لم يكن ذريعة باراك أوباما في التعجيل بتصفية أسامة بن لادن، أو في قيادة تحالف أطلسي ضدّ معمر القذافي؛ وفي كلّ حال فإنّ كلا المثالين لم يضيفا جديداً في تثبيت مصداقية أوباما، أو أيّ رئيس أمريكي قبله وبعده.

ولقد تزامنت السياقات الثلاثة، لرفع الدعم وتظاهرات الاحتجاج وذكرى المجزرة الكيميائية، مع حديث صحفي تقصد فيه الأسد السخرية من العربان الذين توهموا إمكانية ترويضه وغسل يديه من دماء السوريين، أو تخيلوا إمكانية أن يتخلى عن عشرات المليارات من موارد الكبتاغون مقابل مصافحة زعيم عربي هنا أو حضور قمّة هناك.

وفي ذلك الحوار كان الأسد ضاحكاً ومُضحكاً في آن، إذْ يحدث أن يكون شرّ البلية هو ذاك الذي… يُضحك!

وسوم: العدد 1047