فِي مَقَامِ الْحَنِينِ إِلَى الْأُصُولِ

عندما بلغت الخمسين منذ ثمانية أعوام إلا قليلا، احتفلت بنشر كتابي "خمسينات"، في أربعة فصول كفصول السنة، كل فصل منها خمسون فقرة، أول هذه الفصول الأربعة "شاكريات" الذي علَّقْتُ عليه قولي: "أما في هذا الفصل فقد حشدت خمسين ذكرى عن تلمذتي لمحمود محمد شاكر أستاذنا أستاذ الدنيا -رحمه الله، وطيب ثراه!- تسع سنواته الأخيرة، توالت علي فسبوكية في مقام الحنين إلى الأصول، مترتبة ومتفرقة؛ فعنونت كلا منها، ثم تركتها للترتيب الأَلْفَبِيِّ يوزع عليها أقدارها من التقدير"!

خمسون ذكرى، لما أردتُّ البحث عن آثار أستاذنا الباقية فينا إلى هذا اليوم (السبت 3/6/1445 [16/12/2023])، ثم إلى ما شاء الله- لم أجد أصدق منها وقد صدرت عفو الخاطر؛ فراجعتُها، وصنفتها، فتصنَّفَت على تسعة أصناف متدرجة بمقادير شاكرياتها، من تسع إلى ثلاث، أذكرها فيما يأتي، هي وعناوينَ ما فيها، ثم أمثلُ كلًّا منها بمثال واحد، ثم أعلّقُ عليها كلِّها تعليقا عاما:

الصنف

درجته من خمسين

شاكرياته

1

تَهْوِينٌ

9/50

اسْتِسْخَافٌ، اسْتِنْكَارٌ، اطِّلَاعٌ، افْتِتَانٌ، إِقْرَارٌ، تَحْقِيقٌ، تَسْوِيَةٌ، رِوَايَةٌ، عَجَبٌ

2

تَأْصِيلٌ

8/50

أَثَرٌ، أَصَالَةٌ، تَأْصِيلٌ، تَزَمُّتٌ، زَجْرٌ، عَلَاقَةٌ، كَمَدٌ، لُبْسٌ

3

تَوْجِيهٌ

7/50

إِحَاطَةٌ، أَوْهَامٌ، تَعْنِيفٌ، تَمْيِيزٌ، جَزَالَةٌ، جَهْلٌ، مَنْهَجٌ

4

عَادَةٌ

6/50

أَنَاقَةٌ، إِنْشَادٌ، انْقِطَاعٌ، تَأْدِيبٌ، عِنَايَةٌ، لِينٌ

5

حَظْوَةٌ

5/50

إِهْدَاءٌ، تَرْفِيهٌ، تَضْيِيفٌ، تَعْجِيبٌ، فَضْلٌ

6

سَمَاحَةٌ

5/50

تَكْرَارٌ، دَرْسٌ، زِحَامٌ سِجْنٌ، سَخَاءٌ

7

تَحْقِيقٌ

4/50

جَرْسٌ، دَأَبٌ، ضَبْطٌ، مَكْتَبَةٌ

8

صَدَاقَةٌ

3/50

ابْتِهَاجٌ، انْكِسَارٌ، مَخَاضٌ

9

ظَرْفٌ

3/50

دَعْوَةٌ، سَنَدٌ، عُزُوفٌ

1

تَهْوِينٌ

افْتِتَانٌ

 

 

لَقِيتُ عِنْدَهُ الدُّكْتُورْ عَبْدَ الله الطَّيِّبِ الْمَجْذُوبْ، وَافْتَتَنْتُ بِحَدِيثِهِ؛ فَلَمَّا ذَهَبَ قُلْتُ: أَيُّ فَنَّانٍ عَالِمٍ! فَقَالَ: بَلْ أَيُّ مُغَامِرٍ!

2

تَأْصِيلٌ

عَلَاقَةٌ

 

 

عَجِبْنَا لِعَلَاقَةِ الشِّعْرِ بِغَيْرِهِ؛ فَأَثْبَتَهَا بَيْنَ كُلِّ مَا يَصْدُرُ عَنْ عَقْلِ الْإِنْسَانِ، قَالَ:

حَتَّى إِنَّهَا لَتَكُونُ بَيْنَ الشِّعْرِ وَاسْتِنْبَاطِ الْمَاءِ مِنْ بَاطِنِ الْأَرْضِ!

3

تَوْجِيهٌ

مَنْهَجٌ

 

 

لَمَّا وَجَدَ تَطَلُّعَنَا فِي الْمَاجِسْتِيرِ إِلَى الْمَسَائِلِ الْإِبْدَاعِيَّةِ قَالَ: لَيْسَ أَفْضَلَ فِي الْمَاجِسْتِيرِ مِنْ أَنْ تَخْتَصَّ بِتَحْقِيقِ أَحَدِ الْمَخْطُوطَاتِ فَيَطَّلِعَ الطَّالِبُ بِهِ عَلَى الْمَكْتَبَةِ الْعَرَبِيَّةِ كُلِّهَا، لِتَسْتَقِلَّ الدُّكْتُورَاةُ بِالْمَسَائِلِ الْإِبْدَاعِيَّةِ الَّتِي يَتَطَلَّعُ إِلَيْهَا.

4

عَادَةٌ

انْقِطَاعٌ

 

 

أَوْرَثَهُ طُولُ الِانْقِطَاعِ لِلْقِرَاءَةِ ارْتِيَاحًا إِلَى الصَّمْتِ -فَمَا أَكْثَرَ مَا اسْتَبَدَّ بِمَجْلِسِهِ بَعْضُ ضِيفَانِهِ- وَتَحَرُّجًا مِنَ النَّظَرِ؛ فَمَا أَكْثَرَ مَا الْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَصَرَفَ عَنِّي بَصَرَهُ، مِنْ بَعْدِ أَنْ كَانَ مُعَلَّقًا!

5

سَمَاحَةٌ

سَخَاءٌ

 

 

كَانَتْ مَائِدَتُهُ السَّخِيَّةُ الْحَفِيَّةُ مَلْمُومَةً عَلَى ضَخَامَتِهَا بِالْكُتُبِ، تَتَشَاجَرُ فِي عُيُونِ الضُّيُوفِ وَآنَافِهِمْ وَأَفْوَاهِهِمْ أَلْوَانُ الْأَطْعِمَةِ وَالْكُتُبِ وَرَوَائِحُهُمَا وَأَذْوَاقُهُمَا جَمِيعًا مَعًا، وَتَتَزَاحَمُ، وَتَتَكَامَلُ؛ فَلَوْلَا صَوْتُهُ يُنَبِّهُ عَلَى أَفْضَلِهَا مَا آبُوا مِنْ تِيهِهِمْ!

6

حَظْوَةٌ

تَرْفِيهٌ

 

 

اهْتَمَّ مَرَّةً لِاشْتِغَالِهِ بِالتَّرْحِيبِ بِحَمَدِ الْجَاسِرْ فِي مُؤْتَمَرِ الْمَجْمَعِ اللُّغَوِيِّ الْقَاهِرِيِّ، عَنِ السَّلَامِ عَلَى مُحَمَّدْ مُتَوَلِّي الشَّعْرَاوِيّْ، خَشْيَةَ أَنْ يَجِدَ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ؛ فَقَالَ الْبَسْيُونِيُّ كَالْمُرَفِّهِ عَنْهُ:

ذُكِرَ لِلشَّعْرَاوِيِّ أَنَّكَ تَسْتَمِعُ إِلَى خَوَاطِرِهِ؛ فَاسْتَعْظَمَهَا قَائِلًا: مَحْمُودْ مُحَمَّدْ شَاكِرْ يَسْتَمِعُ إِلَيَّ أَنَا!

7

تَحْقِيقٌ

جَرْسٌ

 

 

عَجِبْنَا أَنْ يُؤَثِّرَ جَرْسُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي جَرْسِ شِعْرِ الْأَعْشَى الْكَبِيرِ، حَتَّى يَتَسَمَّى بِهِ صَنَّاجَةَ الْعَرَبِ؛ فَاسْتَحْضَرَ كِتَابًا قَدِيمًا أُنْسِيتُهُ، ثُمَّ أَقْرَأَنَا مِنْهُ النَّصَّ عَلَى ذَلِكَ.

8

صَدَاقَةٌ

مَخَاضٌ

 

 

حُدِّثْنَا أَنَّهُ قَالَ مَرَّةً لِمَحْمُودْ حَسَنْ إِسْمَاعِيلْ: أَكَتَبْتَ قَصِيدَةَ الذِّكْرَى السَّنَوِيَّةِ الْمَطْلُوبَةَ؟

قَالَ: لَا. قَالَ: فَقُمْ؛ فَاكْتُبْهَا! قَالَ: كَيْفَ، أَلَا تَعْرِفُ! قَالَ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ؛ فَادْخُلْ الْغُرْفَةَ، وَلَنْ يُزْعِجَكَ أَحَدٌ، غَيْرَ الْبَسْيُونِيِّ يُوَالِيكَ بِقَهْوَتِكَ! قَالَ الْبَسْيُونِيُّ: كُنْتُ إِذَا دَخَلْتُ لَمْ يَنْتَبِهْ، وَوَجَدْتُهُ يَتَصَبَّبُ عَرَقًا!

9

ظَرْفٌ

دَعْوَةٌ

 

 

رَغِبَتْ إِلَيْهِ -أم فهر وكانت عندئذ خطيبته!- أَنْ يَكُونَ الدُّكْتُورْ عَبْدِ الْحلِيمْ مَحْمُودِ الْإِمَامُ الْأَكْبَرُ شَيْخُ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ، هُوَ الَّذِي يَعْقِدُ قِرَانَهُمَا وَكَانَتْ تُجِلُّهُ؛ قَالَ مُتَبَسِّمًا:

فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ، وَقُلْتُ لَهُ هَلَّا أَسْلَمْتَ سَاعَةً وَاحِدَةً تَعْقِدُ فِيهَا قِرَانَنَا!

لقد غلبت على آثار أستاذنا الباقية فينا، شاكرياتُ التهوينِ (دواءِ المبالغة) -وهي بمنزلة التخلية- فشاكرياتُ التأصيلِ (دواءِ الاستخفاف) -وهي بمنزلة التحلية- ولا ريب في أننا نستحضر بهما ما يمكِّننا من البناء على أساس متين. ثم تلتهما شاكرياتُ التوجيهِ (دواءِ الغفلة)، فشاكرياتُ العادة (دواءِ الهيبة)؛ ولا ريب في أننا نستحضر بهما ما ننتصر به للحياة الطبيعية. ثم تلتهما في منزلة واحدة شاكرياتُ الحظوةِ (دواءِ الخمول)، وشاكرياتُ السماحةِ (دواءِ الضجر) -وهما صنفان متكاملان- ولا ريب في أننا نستحضر بهما ما نؤنب به أنفسنا على تقصيرها! ثم تفردت بنفسها شاكرياتُ التحقيقِ (دواءِ الاكتفاء)، مثل تفرد أستاذنا بمنهجه في الطلب؛ ولا ريب في أننا نستحضر بها ما نكفكف به رضانا عن أنفسنا! لتأتي أخيرا في منزلة واحدة شاكرياتُ الصداقةِ (دواءِ الوحشة) وشاكرياتُ الظرفِ (دواءِ العي) -وهما صنفان متكاملان كذلك- ولا ريب في أننا نستحضر بهما ما نحمل به أنفسنا على مُخالطة الناس ومُوادّتهم ومُراحمتهم!

خمسون ذكرى كان أستاذنا فيها هو الحنان الذي نأوي إليه، "مَا كَانَ أَكْثَرَهَا لَنَا وَأَقَلَّهَا"، أو كما قال عروة بن أذنية المتوفى عام 130 الهجري (747 الميلادي)، قال أبو القاسم الفارسي المتوفى عام 467 الهجري (1075 الميلادي): "[مَا كَانَ أَكْثَرَهَا] يعني التحية، أي ما كان أكثرها في الانتفاع، و[أَقَلَّهَا] يعني قلة الألفاظ"!

رحم الله أستاذنا أستاذ الدنيا، وطيب ثراه، وبارك في آثاره، وأعاننا على حفظها، وثبَّتنا بها، آمين!

وسوم: العدد 1062