إنسانية الثورة وأخلاقية المقاومين


مساحة شخصية (9)

إنسانية الثورة وأخلاقية المقاومين:

في سبعة أيام الهدنة (24/11- 30/11/2023)، كنت متفائلاً جداً، ليس من أجل وقف الحرب مؤقتاً، بل لأنني رأيت ثماراً سياسية لحرب همجية، رأيتها لصالحنا، نحن الشعب، وليس فقط للمقاومة. المقاومة في هذه الأيام كانت تناضل بمنهجية أخرى، تناضل على جبهة لا تقلّ خطراً عن جبهة السلاح والاشتباك، جبهة يظهر فيها المناضل الفلسطيني رجلا نبيلا بحق، يتمتع بكل أخلاق الثائر الباحث عن حقه ضمن منظومة كاملة من الأخلاق المتكاملة، فهو شرس قويّ في المعركة عند الاشتباك لا يرحم مقاتليه، يضربه بكل ما أوتي من قوة ساعد، ويخطط لمكيدته بكل ما منحه الله من بصيرة ودهاء، هذه الصورة مرعبة بلا شك للطرف الآخر الذي سيسحب هذه الصورة وسيطبقها بالكامل على "الأسرى" والمحتجزين والرهائن. لذلك بكى أهالي المخطوفين لأن أبناءهم بين يدي المقاومة، قلقوا بجد على مصير أبنائهم وفتياتهم، لاسيما وأن "الماكينة" الإعلامية الغربية والصهيونية الصاخبة المصاحبة للحرب وسمت المقاتلين بأنهم داعش، هذا يفترض في عقول هؤلاء الناس من الضحايا وأهالي الضحايا بأن أبناءهم ستقطع رؤوسهم، وربما سيحرقون أحياء، وسيتم اغتصاب النساء، وتزوجيهنّ للمقاتلين، وسيختار رئيسهم ما يريد من هؤلاء "السبايا" ليدخل بهنّ دون مهر ودون عقد ودون موافقة منهنّ. هذه هي صورة داعش في الأذهان، وهذه صورتها الإعلامية الموثّقة مع كثير من النساء الأزيديات. إنها صورة مرعبة حقاً.

توقّع المحتلون أن يحدث هذا للمخطوفين والمخطوفات، لكنّ المفاجأة السياسية الأخلاقية فاجأتهم. أظن أنهم- أيْ عصابة الشر والمتحدثون باسمها من إعلاميين مؤدلجين وكتاب وصحفيين- لم يكونوا يريدون الصورة المغايرة لما تم تسويقه من صورة للمقاومة، كانوا يريدون أن يروا داعش في غزة، لتظل هذه هي صورة المقاومين في الإعلام وفي الأذهان، وعند أهالي الضحايا. كانت المفاجأة الصاعقة المذهلة، أو بالتعبير القرآني "أسقط في أيديهم"، فلجأوا إلى الفبركة والتضليل وإلى أنّ ما تمت رؤيته في الإعلام من فيديوهات بثها "الإعلام العسكري" للمقاومة وراءها ضغط على الرهائن ليظهروا بصورة المبتسمين غير الخائفين الذين يودعون المقاومة بعبارات المودة والحب والشكر والامتنان، وما زاد من مأساوية الصورة، ما ظهر فيه الأسرى والأسيرات الخارجين من سجون الاحتلال من تنكيل وقتل، فاق كل ما قد يتصوره عقل، إنها "وحشية عظيمة"، تركت يدي الطفل محمد نزال مكسورتين ملفوفتين، يا للقدر ما أشد حكمته العادلة! "وبضدّها تتميزُ الأشياء"، صورتان نقيضتان إحداهما تظهر الأخرى وعمقها فيما تدل عليه.

المقاومة في هذا الفعل الذي رسمته بسبعة مشاهد مرئية أيام الهدنة، كانت جزءا أصيلا من الحرب، لأنها تواجه بطريقتها وعلى طريقة غيرها سموم الحرب في شيطنة المقاومين. المذهل في هذه الصورة كيف جمع المقاوم تينك الصورتين معاً في إطار واحد، صورة المناضل الشرس الذي لا يرحم، وصورة المناضل الذي يحترم إنسانية الأسرى والمخطوفين ليراعي شعورهم ويحترمهم ولا ينتقص منها. ليس المخطوفون وحسب، بل إن ذلك الكلب المحظوظ إعلاميا قد حظي بتجربة "رائعة" في غزة، ولعله أصبح الكلب الأشهر بعد كلب أصحاب الكهف.

لقد بدت وجوه أولئك المخطوفين والمخطوفات تنضح بالبشر، والارتياح، وهي تحيي عناصر المقاومة، حتى وهم داخل سيارات الصليب الأحمر، ما ينفي شبهة الإكراه التي ادعاها البعض. بل أكثر من ذلك، عندما تركت الأسيرة (دانيال ألوني) رسالة بخط يدها وبلغتها العبرية تشكر المقاومة على "إنسانيتها العظيمة". هذه الرسالة وثيقة تاريخية ذات بعد مقاوم في التصدي لكل الدعوات المغرضة في تشويه صورة المقاومة، بل إن هذه الرسالة لتؤكد أن هذه هي المقاومة الرائعة في أخلاقها، "وشمائلٌ شَهِدَ العدوُّ بفَضْلِها، والفضلُ ما شَهِدَتْ به الأعداءُ". فلم ترها دانيال إنسانية عادية، بل عظيمة، فما الداعي- يا ترى- لتقول إنها إنسانية عظيمة؟ لعلّ كل من يعرف الإسلام ومنظومة قيمه المتصلة معاً، بعضها ببعض، سيفقه معنى هذه الإنسانية العظيمة، كما أن كل من يعرف الاحتلال ويريد أن يرى أفعاله سيرى أن وحشيته عظيمة أيضا في تعامله مع النساء الأسيرات والأطفال الأسرى.

إن هذا الفعل كان لافتاً، وساعد كثيرا في تغيير الصورة، ليس عند من يناهض المقاومة، فهؤلاء لم يتغيروا ولن يتغيروا، فهم لا يقاتلون غزة لأنها داعش، بل هم يصمون مقاومها بداعش لتبرير قتلها والقضاء عليها، لذلك لم يكونوا معنيين بأن يروا، بل إنهم بعد أن رأوا ظلوا "في طغيانهم يعمهون"، وما كانوا يرددونه ظلوا يرددونه، فما زالت تهمة "قطع رؤوس الأطفال" تتردد، و"اغتصاب النساء" تعاد في الإعلام الغربي وفي تصريحات القادة الغربيين والمجرمين من عصابة الشر، وسكتوا عن تعاملات عصابة الشر مع أسرانا. إنما كانت هذه الصورة عاملا حاسما لدى الناس والجماهير بشكل عام في كل أنحاء العالم، لأن الناس تحركها البساطة والفطرة النقية، أما هؤلاء الساسة ومن يدور في فلكهم، فيتحركون بناء على مصالح واعتبارات مختلفة، فلن يغيروا ولن يبدلوا.

عزمي بشارة وأخلاقية السياسة والقوانين الدولية:

بعد انقضاء الهدنة، استمعت إلى الدكتور عزمي بشارة يتحدث من قطر عن "الحرب على غزة... السياسة والأخلاق والقانون الدولي" في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، محاضرة منشورة على موقع المركز، مكونة من (21) صفحة، واستغرقت من بشارة ما يزيد عن ساعة لإلقائها في جمهور منتخب من باحثين ودارسين وطلاب جامعة ومفكرين ومؤثرين، ولمحت كثيرين ممن يعملون في منابر الجزيرة الإعلامية، فأتت الكاميرا على الشاعر تميم البرغوثي، وعلى مقدم برنامج "جو شو"، ولو دققت أكثر لعرفت آخرين، وهذا ليس مهماً في هذا السياق، إنما قد أعود إليه لاسترجاعه في مناسبة أخرى غير هذه، لدراسة سياقات الحرب الجانبية والعاملين في تلك السياقات.

تحدث بشارة في قضايا كثيرة، لكنني معنيّ بفكرة يبدو أنها مركزية في عقل الدكتور عزمي، وقد استمعت إليها منه كذلك أيام الحرب في لقاءين على شاشة تلفزيون العربي، وهي أن منظومة القيم العالمية التي تقرها الأمم المتحدة من العدالة والمساواة والحرية هي مُثُل إنسانية عامة يجب ألا تدفعنا- نحن الجمهور ونحن نشاهد انتهاكاتها الصارخة في غزة- إلى فقدان الثقة بها، فهذه القيم هي التي تدفع الآخرين لأن يتضامنوا مع غزة في هذه الحرب، لذا فهو يخشى أن ينزلق الناس/ الجمهور إلى هذه الفكرة (عدم الثقة بتلك القيم)، ومع هذه الفكرة يؤكد بشارة أن ما أتت به الأمم المتحدة من قوانين وقواعد وشرعيات هو المرجع الذي يجب أن نقيس عليه كل تصرف في الحرب والسياسة والعلاقات الدولية.

هذه الفكرة في عقل الدكتور بشارة، تبدو جميلة، لكن قبل أن أبين مشكلتها الفلسفية والفكرية بالنسبة لي أظن أن ثوار غزة المقاومين عندما تصرفوا التصرف المبهر أخلاقياً لم يكونوا يبنون تصرفهم ذلك على القانون الدولي، ولا أخلاقياته المقررة في الاتفاقيات والتشريعات الأممية، مع أنها في ظاهرها إنسانية حلوة، براقة، جذابة، وجاذبة، لكنها كاذبة بالتأكيد، وسأبين لماذا.

منذ اللحظة الأولى لموضوع الخطف، والخاطفون يؤكدون مرجعية النبل الأخلاقي لديهم في التعامل مع "الأسرى" والرهائن، ويعزون ذلك إلى القرآن الكريم، بعض المخطوفين قالوا إنهم- أي الخاطفين- لن يمسوهم بسوء لأن قرأننا لا يسمح بذلك، فذكروا الجماهير قاطبة بموقف القرآن من الأسرى المتمثل في قوله تعالى في سورة "الإنسان" "ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيراً، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً". هاتان الآيتان هما الضابط الأخلاقي للتعامل مع هؤلاء الخارجين من الأنفاق "مستبشرين" باسمين بوجوه نضرة، وبصحة جيدة بعد خمسين يوما من الحرب والحصار المميت على كل شيء في غزة، لقد جاءت هاتان الآيتان في سورة اسمها "الإنسان"، بمعنى أن القرآن الكريم حررها من الأيديولوجيا الدينية، وجعلها عامة لكل الناس، لأن الناس لن يكونوا كلهم مؤمنين بالقرآن والإسلام، وهذا من عظيم صياغة القرآن الكريم وآياته، بمعنى أننا ملزمون بتطبيق ما جاء في هاتين الآيتين على كل أسير.

أعود إلى بشارة وفكرته المركزية، لأناقش ما بدا لي أنها "غير عادلة" تماماً. القاعدة التي يبني عليها د. عزمي رأيه هو أن هذه القيم إنسانية عامة، وهي مشترك بين البشر جميعاً، وهذا ما لا خلاف عليه مع أحد، لكن المشكلة تكمن في أن د. عزمي لا يحرر هذه القيم من إطار الأمم المتحدة، بل يريدها أن تظل تدور في فلكه. ولكن ما العيب في أن تدور هذه القيم في فلك الأمم المتحدة؟

إن ارتباط هذه القيم بالأمم المتحدة، أولا يربطها بقواعد وأسس فكرية وفلسفية مختلفة عن الأسس الفكرية والفلسفية التي سار عليها الثوار الفلسطينيون المقاومون، ما يجعل فعلهم ينتمي إلى دائرة أخلاقية مختلفة، لا تريدها الأمم المتحدة، ولا يرضى عنها د. عزمي بشارة وفريق كبير من الباحثين الليبيراليين، وإن التقت هذه القيم بالمفاهيم الظاهرية بالاسم فقط (العدالة، المساواة، الحرية)، فثمة عدالة ذات مفهوم إسلامي يراه المقاومون بغزة يختلف عما تراه الأمم المتحدة، وكذلك المساواة والحرية، وشرح ذلك يطول، ولكن أقول باختصار كما بدا في نقاشات خارج سياق الحرب أن كثيرا من اتفاقيات الأمم المتحدة المستندة على هذه القيم الثلاث ليس لها قبول في كثير من بنودها لدى المجتمعات الإسلامية، كاتفاقيات حقوق المرأة، والطفل، والجندر وغيرها.

ثانياً؛ يناضل د. عزمي من أجل إثبات بطلان ما قاله الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس في بيانه الداعم للاحتلال، ويحاسبه بناء على مجموعة من الانطلاقات الفلسفية والفكرية، ويرى بشارة أن هابرماس قد خالف "الأخلاقية" التي يجب أن يلتزم بها الفيلسوف عموماً المنطلقة من قيم الأمم المتحدة، وكذلك فعل مع شيلا/ سيلا بن حبيب الأمريكية من أصل تركي، "كاتبة مقالات وفيلسوفه وأستاذه جامعيه وعالمة سياسة وكاتبة سير"- هذا هو تعريفها في موقع الويكيبيديا. طبعا على اختلاف بين سيلا ويورغن هابرماس في الحدة والانحياز وتفاصيل المواقف، إنما يلتقي كلاهما عند نقطة معينة هي التي ينتقدها عزمي بشارة؛ مساءلة "أخلاقية النظر إلى الحرب على غزة".

ثالثاً؛ وهذه النقطة هي الأهم بالنسبة لي، وتتعلق بدور الأمم المتحدة، ومن يرعاها، وكيف تدير شؤون العالم، فكل ما تقوم به هذه المنظمة الدولية الهائلة لا يتمتع بأي نوع من العدالة أو المساواة أو الحرية، لأنها لا تقوم بتطبيق سياساتها على الجميع بالمعايير نفسها، لو سلّمتُ بالحياد الفكري الفلسفي لهذه القيم، إنما هي مجموعة من المقررات الذهنية والصياغات اللغوية التي لا تحتاجها الدول الكبرى إلا في حالات نزاعها هي مع بعضها البعض، لذلك تراها تدافع عن المدنيين وقت الحرب، حربهم هم، وليس الحرب التي هم يشنونها علينا، حدث ذلك في العراق، وفي البوسنة والهرسك، وفي سوريا، وفي فلسطين منذ النكبة وحتى اليوم، بمعنى أنه في السياق الفلسطيني، فإن المحتل يخترق العدالة والحرية والمساواة منذ خمس وسبعين سنة، والأمم المتحدة تصفق له، وتقدم له الرعاية والولاية والاصطفاء وتحميه من المساءلة. ضمن هذه التصرفات الأممية الرعناء لا شك في أن الجماهير ستفقد ثقتها بعدالتهم ومساواتهم وحريتهم هم، إن كانت منطلقة من قواعدهم، أما إن كانت ذات أصل فكري عام غير مُتحكَّم به من صاحب المصلحة والقوة فإن الناس فعلا لا بد من أن تكون لديهم قواعد وقيم تلتقي عليها في عيشها المشترك وإحساسها وتعاطفها مع القضايا الإنسانية.

رابعاً؛ كان ينبغي على الدكتور عزمي بشارة، بتصوري، أن يؤسس لأفكار جديدة بقواعد فكرية وفلسفية جديدة، وهو قادر على ذلك، والوقت سامح بذلك، والفرصة مواتية، وأن يخلّص الفكر الإنساني من التبعية العمياء للأمم المتحدة التي ترعى شؤون الدول الاستعمارية في الدرجة الأولى. بمعنى أن يقود حملة فكرية دولية من أجل تبني منظومة فكرية جديدة تأخذ بعين الاعتبار أن الشعوب الضعيفة الواقعة تحت الاحتلال لن تتحرر عن طريق الأمم المتحدة، إنما ما يحررها هو المقاومة الباسلة المدعومة عالميا من الجماهير المؤمنة بقيم العدالة والحرية والمساواة بين البشر، بوصفها قيما عالمية غير مرتبطة بالأمم المتحدة، وغير خاضعة لمصالح تلك الدول، وغير مرتهنة بالفلاسفة الذين أنفق الدكتور عزمي وقتا طويلا في محاضرته واقفاً، وهو يفند آراءهم، بل وهو يعرض ما لا يجب أن يعرض، فالنهار ليس بحاجة إلى دليل لأقول إنه موجود؛ "فلَيسَ يَصِحُّ في الأَفهامِ شَيءٌ، إِذا اِحتاجَ النَهارُ إِلى دَليلِ" كما يقول المتنبي.

إن غزة اليوم هي النهار الواضح، على الرغم من أن الأمم المتحدة والدول الكبرى لا يعرفون للقيم معنى إلا بالقدر الذي يخدمون بها مصالحهم، وبالتالي فهي منظمة لا تحركها القيم، ولا الأخلاقيات الثابتة، إنما كل ما تبغيه تحقيق مصالحها، وعليه فالثوار الفلسطينيون المقاومون في غزة وفي غير غزة، يتمتعون بأخلاقيات أيديولوجية ثابتة غير مرتهنة بزعيم أو قائد أو حتى منظمة، بل كلهم يسيرون على نهج واحد، هو ما تمليه عليهم عقيدتهم، وبذلك فإن قيمهم بمنطلقاتها أكثر ثابتا وأكثر تحققا وثقة من تلك القادمة من أروقة الأمم المتحدة، هذه الأخلاقيات بصورتيها في الحرب والسلم وفي الهدنة أيضا، لا تتغير مفاهيمها وتظل ثابتة بصرف النظر عمن يتعامل بها. ومن هنا نجح المقاومون في تسطير هذه القيم في الهدنة وفي الحرب وعلى أرض المعارك أيضاً، ففي كلتا الحالتين تبدو إنسانية الثائرين المستندة إلى القيم التي لا تزول ولا ينبغي لها أن تزول، فمقاومة المحتلين بشراسة عند الاشتباك بشجاعة وبسالة قيمة إنسانية عليا لا تقل أهمية عن تلك التي يتسامح فيها الثوار مع "الأسرى" والمخطوفين والرهائن.

اشتباه المحن الإنسانية بعضها ببعض:

في اليوم الثاني للحرب بعد الهدنة، استمعت إلى لقاء طويل مع الباحثة أديبة عبد الصمد روميرو، وهي إسبانية من المورسكيين، مسلمة، وعائلتها ذات جذور إسلامية، تحولت العائلة إلى المسيحية أيام محاكم التفتيش التي حدثت بعد سقوط الأندلس عام 1492 م، وتتحدث بهذا الجانب عن الإبادة الجماعية لمسلمي الأندلس بعد عام 1609 م، وكيف اضطر هؤلاء أن يعيشوا بِدِينَيْن، فهم في الظاهر مسيحيون، وفي السر مسلمون، يُعلّمون الإسلام لأطفالهم. تفاصيل مهمة على مدى أكثر من ساعتين، تلخص ذلك التاريخ المخفي من حياة مسلمي الأندلس.

ما لفت انتباهي في حقيقة الأمر شيئان، الأول مقاربة الموضوع الفلسطيني بالموضوع الأندلسي، وقد انتبه إليه- سابقاً- الشاعر محمود درويش في ديوان "أحد عشر كوكباً"، بدأه بمجموعة نصوص تحت عنوان "أحد عشر كوكبا على آخر المشهد الأندلسي".

يربط درويش بين المسألتين، الأندلس وفلسطين، ويأتي على تجربة أبي عبد الله الصغير، وكان هناك حديث عن السلام والمفاوضات بعد مؤتمر مدريد (1991)، ولعلها ليست صدفة أيضا أن يكون مؤتمر السلام في إسبانيا/ الأندلس. يقول درويش في المقطع الرابع "أنا واحد من ملوك النهاية":

مذ قبلتُ "معاهدة التيه" لم يبقَ لي حاضرٌ

كي أمرّ غداً قرب أمسي. سترفعُ قشتالةٌ

تاجَها فوق مئذنة الله. أسمعُ خشخشة للمفاتيح في

باب تاريخنا الذهبيّ، وداعا لتاريخنا، هل أنا

من سيُغلقُ بابَ السماء الأخير؟ أنا زفرة العربيّ الأخيرةْ".

وبتقنية الإسقاط التاريخي يخاطب الشاعر ياسر عرفات، في المقطع السادس "للحقيقة وجهان والثلج أسود"، يؤكد درويش أن هذا الرحيل أو السلام (كما في الطبعة الأولى) سيتركنا حفنة من غبار، في المنافي والضياع:

إنّ هذا الرحيل (السلام) سيتركنا حُفنةً من غبار...

من سيدفن أيامنا بعدنا: أنت... أم هم؟ ومن

سوف يرفع راياتهم فوق أسوارنا: أنت... أم

فارسٌ يائسٌ؟ من يعلّق أجراسهم فوق رحلتنا

أنت... أم حارسٌ بائسٌ؟ كلّ شيءٍ معد لنا

فلماذا تطيلُ النهاية، يا ملك الاحتضار؟

وتأتي الباحثة أديبة عبد الصمد روميرو على تجربة المورسكيين الذين تهجروا واقتلعوا من ديارهم، وفروا إلى شمال أفريقيا (المغرب، تونس، الجزائر)، وتتحدث عن مدينة شفشاون، وهي مدينة بناها المورسكيون وتشبه كثيرا المدن الأندلسية كما تتفق الباحثة مع المحاور في هذا التوصيف.

ما يلفت الانتباه بهذه الجزئية أيضا ما قالته الباحثة؛ إن أهل شفشاون من الأندلسيين ما زالوا يحتفظون بمفاتيح بيوتهم في غرناطة "وأخذوا مفاتيح البيوت معهم وهم يعتقدون أنهم سيرجعون إليها قريبا"، فربط المحاور ذلك بالموضوع الفلسطيني والنكبة الفلسطينية، "فالصورة طبق الأصل مع ما حصل ويحصل حاليا مع الفلسطينيين"، لتسترسل الباحثة أديبة في الحديث عن علاقتها بالفلسطينيين وأصدقائها من الفلسطينيين ممن يقيمون في إسبانيا.

ليس فقط المورسكيون من يشبهوننا، بل إن القضية الكردية تشبه القضية الفلسطينية، في حرمان هذا الشعب من حق تقرير المصير في دولة واحدة موحدة في جميع المناطق التي يسكنها الأكراد، وقد تقسمت بين ثلاث دول. وقد انتبه كثير من أصدقائي من الأدباء الأكراد إلى هذا التشابه في التجربتين، وما يجمعهما من تفاصيل المأساة السياسية والإنسانية والإبادة الجماعية.

ولعلّ هذا التشابه قد قاد درويش أيضا ليكتب للشاعر العراقي الكردي سليم بركات قصيدته "ليس للكرديّ إلا الريح"، والريح غالبا عند درويش في أشعاره تدل على المنفى والضياع والتشتت والشتات، يقول درويش: "فإنَّ الكُرْدَ يقتربون من نار الحقيقة، ثم يحترقون مثل فراشة الشُّعَراء". إذاً، لسنا وحيدين في المأساة، معنا غيرنا من المستضعفين الذين لم تنصفهم الأمم المتحدة، فقد احترقنا نحن والمورسكيون، كالكرد مثل فراشة الشعراء، وبقيت تلك الهيئات الدولية تنافق، وتسيّرها مصالح الدول الكبرى، لترى أن كل الشعوب المستضعفة هي الشعوب التي تقدم الضحايا والتنازلات، فكان علينا، كما كان على المورسكيين، كما كان على الأكراد أن نخضع لمشيئة الدول الكبرى، وليس لمنظومة العدالة والمساواة والحرية التي تدعيها الأمم المتحدة، ولمثل هذا يجب أن ينتبه الدكتور عزمي بشارة، فهذه النماذج الثلاث وغيرها بطبيعة الحال، تكشف أن تلك القيم الأممية ليست إنسانية بالمطلق، كما هي إنسانية المقاوم الثائر الفلسطيني الذي رضي أن ينحاز فقط إلى منظومة من القيم المطلقة غير الخاضعة للمشيئة البشرية التي تغيرها المصالح وموازين القوى، ولذا فإن العدالة والمساواة والحرية عند الضحايا وفي تفكيرهم لها معانٍ أخرى لا تدور في عقول الساسة الكبار المتحكمين في مصائر العالم، ويرسمون خرائطه على أهوائهم، وما يشتهون.

وأخيراً، في نهاية هذه المساحة الشخصية، أرجو من الدكتور عزمي بشارة الذي أحب محاضراته ولقاءاته، وأستمع إليه بشغف، أن يعذرني على استخدام اللغة غير المحببة له، بعبارات "يجب" "ولا بد"، كما أشار في أحد لقاءاته التلفزيونية، فكأنه أحيانا لا مفرّ للمرء إلا أن يقع في مصيدة اللغة ذاتها والنمط اللغوي الفكري ذاته، فليسامحني، فثمة ما هو أهم من اللغة ولطافة استخدام أساليبها، فكأنه لا بد مما منه بدّ.

وسوم: العدد 1062