نظرة حول مادة زهد في الكتاب والسنة

عند التأمل في كتاب الله عز وجل نلاحظ أنه لم ترد مادة زهد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة في قوله تعالى

﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) ﴾

وهل مثل يوسف يزهد فيه

وأما في السنة فقد ورد الترغيب بالزهد بمعنى التسامي عن التفاني في حب الدنيا وشهواتها والخلود إلى الأرض والتثاقل عن طلب الجنة.. وهذا شيء تربوي إيجابي..

ولكنه لم يرد أبدا في الشريعة بمعنى ترك الزينة والطيبات والمتاع الحلال .. قال تعالى:

 (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) الأعراف ..

وفي عصور متأخرة صار الزهد السلبي المرتبط بنبذ الطيبات والإعراض عن الدنيا والكسل والخمول في طلبها هو لباب الدين وشعار التقوى..

ترى

في كل الأحوال كيف صار الزهد من أهم الأشياء  لدى العباد والزهاد وألف فيه الأئمة الكتب ومنهم الإمام أحمد.. علما بأن القرآن الكريم لم يمدحه بكلمة واحدة ؟!...

لعل هذا من أهم أسباب تخلف الأمة ونكستها الحضارية

***

أما في السنة ففي عودة سريعة لأهم مجامع كتب الحديث وجدنا أنه لم ترد مادة زهد في الحديث ضمن كتاب مشكاة المصابيح سوى مرتين!

الأولى: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)... رقم الحديث 5187 رواه الترمذي وابن ماجه عن سهل بن سعد

والثانية: (الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق بما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصية إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها بقيت لك). رقم الحديث5301 رواه الترمذي وابن ماجه عن أبي ذر ..

علما أن مجموع الأحاديث 6285 حديثا في كتاب مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي بتحقيق الألباني.

***

ووردت مادة زهد مرة واحدة في جامع الأصول  بلفظ: (ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله ...). رقم الحديث2770 رواه الترمذي عن أي ذر. علما أن مجموع أحاديث جامع الأصول لابن الأثير بتحقيق الأرناؤوط هو 9523 .

***

ووردت مادة زهد ثمان مرات في الجامع الصغير؛ أربعة منها تبدأ من رقم 960- 963 رمز السيوطي لثلاثة منها بالضعف وواحد بالصحة.

وأربع مرات أخرى في الجامع الصغير   من رقم 4593 - 4596 رمز السيوطي لثلاثة منها بالضعف ولواحدة منها بالحسن.

***

وبناء على ما تقدم فإن أصح ماورد في الزهد في جامع الأصول ومشكاة المصابيح والجامع الصغير هما حديثان:

الأول: (ازهد في الدنيا يحبك الله...) وهو عن سهل بن سعد

والثاني: (الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة (وفي رواية الزهد) في الدنيا...).

***

والنتيجة باختصار: مادة زهد وردت في القرآن الكريم مرة واحدة وفي الأحاديث الصحيحة (وفق جامع الأصول ومشكاة المصابيح والجامع الصغير) مرتين... 

وربما تكون وردت في مصادر حديثية أخرى أكثر من ذلك..

 والسؤال هو: من أين صار للزهد هذه المكانة العظيمة في ديننا؟!.. حتى أهملنا دنيانا وصرنا فيها عالة على غيرنا من الأمم والشعوب الأخرى التي سبقتنا في التقدم حتى صرنا خلف الأمم وأكثرها ضعفا وعجزا وانحاطا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!.

أين نحن من السير في الأرض واستكشاف مشارقها ومغاربها كما فعل ذو القرنين وملئها واستعمارها وفق سنن الله تعالى؟! واستخراج كنوزها من حديد ومعادن، ومن تحصين الأمة بأسباب القوة المادية والمعنوية حتى لا ينالها عدو ولا تلين لها قناة...

لقد ضيعنا أنفسنا نتيجة غياب فقه التعايش الحضاري وفقه الأولويات وفقه التطور والحياة وفقه الصراع بين الحق والباطل... وحولنا الدين إلى طقوس جامدة وسلبية قاتلة، وعزلة وزهد سلبي، ولوذ بالمقابر وانسحاب من الحياة، فمات فينا حب المعرفة والتنافس الحضاري والإبداع.

وسوم: العدد 1067