العدل أولا ثم العدل ثانيا وثالثا.. وعاشرا..

العدل والخير والحب والجمال والحرية والعلم والعمل والمساواة .. كلها قيم سامية في سماء الفكر وحياة الإنسان... ولعل أسماها في حياة الناس وقيام الحضارات: العدل. فإذا كان موجودا استقام كل شيء بعده في هذا الوجود.

ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء الآتي: "كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه: إن مدينتنا قد خربت فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالًا نرمها به فعل، فكتب إليه عمر: إذا قرأت كتابي هذا فحصنها بالعدل ونقِ طرقها من الظلم؛ فإنه مرمتها، والسلام".

***

والعدل ثمنه غال، فهو ليس شعارات تقال وتكتب وتردد، ولكنه ممارسات يومية واقعية.. لم تظفر به الأمم والشعوب المتقدمة إلا حين دفعت مهره بالنفس والنفيس والأرواح والدماء.

والزغل من طبيعة كثير من الناس،  ولذلك لو تأملنا في التاريخ لوجدنا أنه كثيرا ما تتحول القضايا العادلة إلى سلعة تجارية أو ورقة توت يقدمها أصحابها لمن يدفع لهم أكثر كي يتستر بها ويتجمل بين الناس، أيا كان الدافع ولو كان إبليس اللعين .. مما يفقدها ألقها وقيمتها ..

 ولهذا وجهنا ربنا سبحانه إلى العدل بالقول والفعل..مع القريب والبعيد.. بل حتى العدو .. وإلى ذلك أشارت آيات كثيرة منها قوله تعالى:

(وإذا قلتم فاعدلوا)

(أن تحكموا بالعدل)

(إن الله يأمر بالعدل)

(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).

وحامل لواء العدل يكاد لا يستوي به أحد. كما قال تعالى: (..أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صرط مستقيم).

وحسبك أن من أسماء الله الحسنى العدل!.

***

وفي المقابل نهى الله عز وجل عن الظلم سواء كان ظلم النفس (فلا تظلموا فيهن أنفسكم)

وظلم الناس ( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ).

وظلم الحقيقة وأعظمها حقيقة التوحيد.. ونقيضها الشرك وهو الظلم الأعظم لقوله تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم)

وحرم الله تعالى الظلم على نفسه وعلى الناس، ففي الحديث: (يا عبادي إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي وجعلتُهُ بينَكم محرَّمًا فلا تَظالموا ).

رواه مسلم عن أبي ذر.

***

درجات العدل

للتوضيح حول العدل وبسط المعنى وتقريب الآراء من بعضها بعضا...

فإن العدل له ثلاث درجات:

الأولى: المساواة بين المتخاصمين في الحكم

والثانية: الحكم بالحق والقانون المتوازن، مثل العين بالعين والسن بالسن فإذا كسر أحد سن شخص فقام الآخر بكسر أنف صاحبه فليس عدلا .

ولذلك جاء في وصف القرآن (ومن حكم به عدل) كما في الحديث عن علي ... لأن أحكام الله التي أنزلها في كتبه المقدسة موافقة لفطرة الإنسان ...ولا تحيز فيها لفئة ضد أخرى.

وقد استفادت كثير من الشرائع الوضعية من أحكام الشريعة الإسلامية لما فيها من عدالة ورشد.. وليس هنا مكان بسط الكلام..  ولكن تؤكد الدراسات أن كثيرا من مواثيق حقوق الإنسان والحريات والنظم الاقتصادية مستمدة من مصادر الشريعة.

والثالث: أن لا ينحاز القاضي بنفسه إلى طرف ضد آخر... وهذا فوق طاقة البشر وخاص بمالك يوم الدين وحده كما قال تعالى: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة). وقال أيضا: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به). فالميزان واحد للجميع.. ولذلك من أسمائه العدل.

وفي العالم المتقدم اليوم كثير من صور العدالة وهنالك محاسبة للفاسدين والظالمين... ولكن للأسف أمتنا غرقت في المظالم فصارت عرضة للهلاك (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا).

ويخلط الكثير بين صور العدل ودرجاته.... ويظنون أنهم يحسنون صنعا...

أصلح الله تعالى أحوالنا وأحوال الناس جميعا.

***

تعظيم الظالم مرفوض

ليس من الحكمة تعظيم الظالمين بالألقاب الفخمة والكلمات الرنانة، وحين يتخذ المظلوم الظالمين أولياء له وأنصارا يفقد محبة الله وعونه

ففي الحديث:

(لا تقولوا للمنافقِ سيد، فإنه إن يكُ سيدًا فقد أسخطتم ربَّكم عز وجل).

الراوي : بريدة بن الحصيب الأسلمي | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح أبي داود. خلاصة حكم المحدث: صحيح.

لذا يجب إجادة السلوك مع الله أولا، والارتقاء من الخطاب الزئبقي اللولبي إلى خطاب إيماني عاقل دافئ متحضر ، موافق لقوله تعالى: (أذلة على المؤمنين)

***

الخطاب الودي للمستضعفين

المؤمن لا بد أن يكون ودودا في خطابه للناس وبخاصة للمؤمنين المستضعفين والمعذبين في الأرض  فلا يغضب المؤمنين الذين هم إخوته.

فقد ورد أنَّ أبا سفيانَ أتى على سلمانَ وصُهيبٍ وبلالٍ رضيَ اللَّهُ عنهُم في نفرٍ فقالوا: ما أَخذَت سيوفُ اللَّهِ من عدوِّ اللَّهِ مأخذَها أي لم تستوفِ حقَّها منهُ؛ لأنَّهُ إذ ذاك كان على كفرِهِ فقالَ أبو بَكرٍ رضي اللَّه عنه: أتقولونَ هذا لشَيخِ قُريشٍ وسيِّدِهم؟ فأتى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فأخبرَهُ فقالَ: (يا أبا بَكرٍ لعلَّكَ أغضبتَهم لئن كنتَ أغضبتَهم لقد أغضبتَ ربَّك)، فأتاهم أبو بَكرٍ رضي اللَّهُ عنهُ وقالَ: يا إخوتاهُ أغضبتُكُم قالوا لا يغفرُ اللَّهُ لَكَ يا أخي.

الراوي : - | المحدث : الهيتمي المكي | المصدر : الزواجر خلاصة حكم المحدث : صحيح.

يلحظ هنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرض لسيد الأمة بعده وهو خليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يغضب بعض المؤمنين في كلمة حق قالها ، فأبو سفيان كان سيد قريش بلا خلأف، ولكنه كان حربا على الدعوة. مما جعل بعض المؤمنين يودون لو تم الانتقام منه بعد فتح مكة، فغضبوا من مراجعة أبي بكر لهم... فكيف بمن أغضب الجماهير الغفيرة من المسلمين في زماننا هذا ولم يكترث لدمائهم وأرواحهم وامتدح من نكبهم وأعطاه نعوت البطولة والشهادة؟!... هل هذا داعية أم مقاول في سوق النخاسة أو دهاليز السياسة؟!

إن أكل العيش لا ينبغي أن يكون ببيع الدين والرجولة... ومن يقف مع الباطل ولو بكلمة فقد شرف البطولة..

الحق كل لا يتجزأ...

 جاء في الحديث عنه صلى الله عليه  وسلم قال: (منْ أعانَ ظالمًا ليدحضَ بباطلهِ حقًّا، فقدْ برئتْ منهُ ذمةُ اللهِ ورسولِهِ).

الراوي : عبدالله بن عباس | المحدث : السيوطي | المصدر : الجامع الصغير

خلاصة حكم المحدث : صحيح

***

نتمنى أن نرى في المستقبل خطابا إسلاما عادلا متحضرا  لا نفاق فيه، طعمه لبن، وملمسه حرير، ورائحته مسك،  ومظهره قمر 14.

وسوم: العدد 1067