نحن والبحر

هناك حيرة وعجز إسرائيليين أمام غزة وصمودها وأسطورتها التي تتشكل أمام أعيننا موتاً وبطولة ومآسِ. هذه الحيرة تنتج تصرفات وتصريحات لا يمكن وصفها سوى بالهستيهل غزة الى سيناء أو إخضاعهم بشكل مطلق أو قتلهم بحرب إبادة موصوفة. آخر ما تفتق به الخيال الإسرائيلي المريض هو إنشاء جزيرة قبالة شاطئ غزة من أجل تهجير سكان القطاع إليها؛ أي تحويل غزة من أرض إلى سفينة عائمة فوق الماء.

رُمي الفدائيون الفلسطينيون في البحر عملياً في بيروت عام 1982 حين نقلتهم السفن اليونانية إلى المنافي. ثم اتخذ شكلاً جديداً في طرابلس- لبنان حين طُرد الفدائيون مرة ثانية إلى البحر وبدأت رحلة التيه الفلسطينية الجديدة التي وضعت الانتفاضة الأولى حداً لها.

كانت الدعاية الإسرائيلية في تحريضها ضد الفلسطينيين تؤكد أن الفلسطينيين يريدون رمي اليهود في البحر، وكان هذا الشعار الكاذب وسيلة الصهاينة لرمي الفلسطينيين في البحر. فالأوديسا الفلسطينية بدأت عملياً عام 1948 في بحر حيفا حيث نظم الجيش البريطاني نقل أهل حيفا بالسفن الى خارج فلسطين.

حكاية فلسطين مع البحر طويلة ومأساوية، لكن الفلسطينيين لم يتوقفوا يوماً عن الحلم بالوصول إلى أرضهم، فعبروا أمواج الموت كي يصلوا اليوم إلى لحظة الأسطورة في غزة.

هنا في غزة تدور المعركة حول من يمتلك فضاء هذا البحر الأبيض. لذلك علينا أن نفهم أننا أمام حرب طويلة جداً لن يحسمها سوى الإرادة والصبر والمثابرة على المقاومة.

لقد سبق لإسرائيل أن رفضت استسلام القيادة الفلسطينية في أوسلو الذي كان طموحها أن تجد موطئ قدم في بلادها، فقدمت لها إسرائيل قبوراً ومجموعة من المآسي المتتابعة. لا سلام مع الفكر الصهيوني، ليس لأن الفلسطينيين لا يريدون السلام، بل لأن إسرائيل لا تستطيع ولا تجرؤ على فتح باب السلام، لأن الانسحاب من الأراضي التي احتلت عام 1948 سوف يعني نهاية للمشروع الصهيوني برمته، وهو مشروع قائم على العنف والتطهير العرقي والاستيلاء على الأرض.

في هذا الإطار يجب أن نقرأ حرب غزة الراهنة، وهي الحرب الأطول التي تخوضها إسرائيل منذ حرب نكبة 1948، وهي حرب صافية بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال.

لا تستطيع إسرائيل الادعاء بأنها تحارب سبعة جيوش عربية كما حصل عام 1948 وأنها تمثل داود في مواجهة جوليات الجبار. الواقع اليوم هو عكس ذلك، داود هو الفلسطيني الذي يحمل سلاحه الخفيف ويقفز من نفق إلى أنقاض بناية مهدمة ويقاتل دفاعاً عن كل شبر من أرض غزة.

معادلة الصراع الطويل قد تكون محبطة في بعض الأحيان، وهي بالتأكيد مؤلمة، لكنها معبر إجباري للوصول إلى الشاطئ. وهو معبر لم نختره بل فُرض علينا.

الفلسطينييون لم يختاروا الحرب، بل هبطت عليهم الحرب من حيث لا يدرون مع تدفق المستوطنين اليهود، برعاية بريطانية، وبداية تأسيس مشروعهم الاحتلالي القائم حكماً على طرد الفلسطينيين.

أبناء الأرض وجدوا الأرض تنزاح من تحتهم، والرصاص يحصدهم، والقتل يتربص بهم، فانتهى بهم المطاف في مخيمات البؤس ينتظرون.

انتظر الفلسطينيون طويلاً، لكنهم في النهاية استبدلوا بالانتظار صبراً؛ أي قرروا الدفاع عن حقهم ولو كان ثمن ذلك باهظاً ومدمراً في كثير من الأحيان.

غزة اليوم هي عاصمة فلسطين، وفلسطين هي قبلة العرب، والعرب يرقصون على إيقاعات موتهم وطبول ذلهم التي يقرعها الاحتلال الإسرائيلي.

في غمرة هذا الموت الكثير الذي يضرب غزة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، تحركت الدولة «العربية» الوحيدة التي صنعت للعالم أحد أهم رموز الحرية في صراعها ضد الأبرتهايد، فقامت جنوب إفريقيا بتحريك دعوى ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية.

لم يكن أي عاقل يتوقع أن تصدر المحكمة قرارات جذرية، لكن هذه الدعوى هي جزء من المسار الطويل للصراع، فمجرد أن تجد الدولة العبرية نفسها في قفص الاتهام الذي صنع بعد المحرقة النازية من أجل منع تكرار الإبادة، هو ضربة أخلاقية كبرى توجه لمن يدعي أنه مضطهد، وأن جيشه هو أكثر الجيوش أخلاقية في العالم.

قتلة الأطفال في غزة ليسوا سوى قتلة ومجرمين ولا يمكن أخذ ادعاءاتهم على محمل الجد. هؤلاء كانوا بالأمس في قفص الاتهام يسوقون الحجج التي لم تنطلِ على أحد، ويسوّقون لمظلومية وهمية سرقوها من ضحاياهم الفلسطينيين.

كنا نعلم أن المعركة لن تحسم في لاهاي، حتى لاهاي لم تكن ممكنة لولا الصمود الأسطوري للفدائيين في غزة. فالذي سيحسم المعركة هو الصمود الذي يعلن سر الأرض وسر علاقة غزة ببحرها. إسرائيل تحلم برمي الفلسطينيين في البحر، والفلسطينيون يصنعون من دمائهم وصمودهم بحر حريتهم. هذا الصمود يقوم اليوم بتغيير العالم عبر استعادته لمعاني القيم الإنسانية التي حاولت إسرائيل وحليفها الأمريكي تدميرها.

«نحن نعلم أن حريتنا غير مكتملة بدون حرية الفلسطينيين»، قال مانديلا، مُعطياً العالم درساً بليغاً في معنى الحرية، الذي لا يتجزأ.

وسوم: العدد 1068