خواضي الغمرات

إن للقوات المسلحة التي عجمتها الخطوب، وحنكتها التجارب، جنودًا مجهولين في هذه الدنيا، ولكنهم حتماً، سيكونون غداً أعلاماً شامخة في ربى الخلد، جنودًا قدّموا مهجهم رخيصة، ليس طعماً في نفوذ، أو رغبة في سلطان، ولكن من أجل صون هذا التراب الغالي، الذي أحاطوه من كل جانب، وفدوه من كل إنسان رخيص وطامع.

 وفي الحق لقد شاهدت هذه القوات التي لا تصرعها الشدائد، ولا تضعضعها النوائب، والتي تشقى ليسعد الناس، وتموت ليحيا الوطن، حينما اكتنفت مدينتي "الدمازين" قبل عقود من الزمان، جحافل الذعر والاضطراب،عانت الدمازين كما تعاني الخرطوم الآن، من الغدر المفجع، والذعر المفزع، رأيت في ثنايا تلك المعارك، أسود اللواء الرابع عشر، الذين عجمت عودهم الأحداث، يقاتلوا في بسالة، أوغاد من هتكوا أستار الولاية بالخزايا والمذام، وشرى ضمائر الساسة بالعطايا والبسل الحرام، ومنّى غمار الناس بالتنمية والسلام، أبصرتهم في دفاعهم المشروع، وجهادهم المقدس، طليقوا العنان، أحرار الإرادة، يكسروا شوكة من طغى وتجبر، ويقلموا ظفر من اغتر وتكبر، وأعادوا الهيبة بعد ملاحم كريهة، لدولة ينبغي أن يعصف برأسها الحياء، ويعقل لسانها التزايل، إنني لا أبالغ في الثقة، أو أسرف في الغلو، إذا زعمت أن قواتنا التي تسربلت بالشجاعة والشرف، وتحصنت بالصبر، وتدرعت بالثقة بالله، والتي عاشت حزينة الفؤاد، محروقة الجوى، ملدوغة النفس، وهي ترى من تبدّدت فيه مخايل الرجولة، فأظلم حسّه، وحفت الرذائل على طباعه، يسبغ التهم الفواجر، ويستعين على إثبات ترهاته بالكذب ،والتدليس ،والافتراء، لا أراني ركبت متن الشطط والجموح، إذا ادعيت أن أصحاب الأنفس الأبية، والأنوف الحمية، لا يضاهيهم أحد في قوة الجنان، وسلامة الوجدان، وعظمة الإيمان، وعشق الأوطان، لأجل ذلك نصرها الله على من خرج عليها لغلول في نفسه، أو تنمر لها لنكول في طبعه.

وتمضي مسيرة خواضي الغمرات، أصحاب الساعد المجدول، والعضد المفتول، في الخرطوم بحري الآن، تجدد ما رثّ من حبل الدين، وتجمع ما شت من شمل الكرامة، لا تأبه لمنجل الموت الحاصد، الذي خطف فتية في ميعة الشباب، وربيع العمر، أو تكترث لوعيد بغيض، عرشه مرفوع في دولة الكيان وربيبتها المارقة الوالغة في دماء شعبنا، على غثاء العمالة والارتزاق، تمضي قواتنا متوثبة العزيمة، دائبة الحركة، وهي تطوي طريقًا دامي المسالك، معبد بالمنايا والحتوف، لتحرر بقاع خنس فيها الشرك، وجال فيها الشيطان، تحرر أخاديد الأرض، وبطون الأودية، وذرى الجبال، من ضلال العقيدة، وشيوع العصبية، وتفشي الجهالة، نعم لقد طهر حماة الحقائق، وأباة الذُل، «أمدرمان العتيقة» و«أحياء الخرطوم الموغلة في القدم » من دنس الأوخاش الأوباش، أهل المعصية والإلحاد، الذين لا يحجزهم تُقى، ولا يردعهم نهى، لتقهقر تلك الطائفة التي اشتبه عليها الحق، والتبس عليها الصواب، إلى مأوى من نغلت نياتهم، وسقمت ضمائرهم، إلى تلك المدينة التي كانت مكتظة بقاطنيها، سكانها الذين ضاقت بهم المصائب، وكشرت في وجههم الخطوب، العاصمة التي خبرت لجة المعارك، واعتادت على صخب الحروب، تنتظر أن تتطاير فيها الجماجم، وتذوب مهج من تسلطت عليهم الغرائز، وتحكمت فيهم الشهوات، أصحاب النحل الخبيثة، والمطامع الخسيسة، من صارت أرواح     الإنسان رخيصة عندهم، تلك الناجمة التي حلت عصم الفتن، وسعرت نار الهيجاء، ليبقى في خاتمة المطاف، من عاش في سلام مع نفسه، ووئام مع الناس، إنسان السودان صاحب الحس اللطيف، والطبع الشريف، يترقب بزوغ الفجر، بعد تطاول الليل، واعتكار الظلام.

وسوم: العدد 1068